المراجعة سنة الدعوات الراشدة

د. وصفي عاشور أبو زيد


     ليس معنى دعوة المراجعة لبعض ممارسات جماعة الإخوان المسلمين وغيرها الانتقاص أو نكران الجهود والعطاء - كما فهم البعض فاستنكر وهاجم تعليقي على تعليق د. محمود حسين على اعتذار د. صلاح سلطان، وكما فُهم من مقالات أخرى لغيري - وإنما هذا كله نابع من الحرص على أكبر حركة إسلامية في العالم، ومن الحب لها واستبقائها قوية متماسكة باسقة سامقة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.
    إنني أؤمن تمام الإيمان أن حركة الإخوان المسلمين هي نبع الوسطية الدعوية والحركية في هذا العصر، وهي التي قدمت للأمة شهداء في معاركها مع عدوها، وبخاصة في فلسطين، وهي التي قدمت أبرز العلماء في القرن العشرين إجمالا، وأنفعهم للأمة، وأكثرهم فهما للشرع والواقع والمقاصد والمآلات والسنن والموازنات، وجدد الله بعلماء ودعاة هذه الجماعة علوم الشريعة والدراسات الإنسانية والعلمية، وهذا يحتاج لكلام طويل.


       كما أنني أؤمن كل الإيمان أن الصف الإخواني – في مجمله - بشبابه وفتياته ممن يُمسِّكون بالكتاب، ولا يأخذون عرض هذا الأدنى، ولا يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، فلا يوجد مثيل لهم بين صفوف التنظيمات الأخرى، في مجملها بالطبع وإلا "فكم فينا وليس منا وكم منا وليس فينا" كما قال الأستاذ المؤسس، فهم – كما قال د. صلاح سلطان في مقال له -: "أذلُّ الناس لربهم، وأكرمهم لجارهم وأرحامهم وأبناء بلدهم، وأشدُّهم على عدو الله وعدوهم، وأرقى الناس خُلقا، وأرقهم طبعًا، وأوسطهم فهمًا، وأوسعهم حركة، وأكثرهم تضحية، وأسرعهم نجدة، وأجودهم بذلا، وأوفاهم وعدًا، وأضبطهم إدارة، وأصلبهم عفة عن المال والسلطة، ولا نزكيهم على الله".


     كيف يفهم من المراجعة أو الاعتذار الانتقاص أو الرفض أو النكران، وهم الذين يتصدرون المشهد الآن، وقياداتهم في السجون، وشبابهم في الشوارع يضحون بأوقاتهم وأعمالهم وذويهم وأبنائهم وأسرهم، كيف وقد ارتقى منهم مئات نحسبهم شهداء عند الله، وأصيب منهم آلاف، شفاهم الله وعافاهم والجميع، كيف وكل شيء مجرَّم ومحرَّم ينسب إليهم ويلفق لهم على مستوى عالمي، وليس في مصر فقط، بغير ذنب ولا جريرة إلا أن يقولوا ربنا الله، وإلا أنهم أرادوا - في اجتهادهم - رفعة مصر والأمة؟


    كما أن المراجعة يجب أن تكون مستمرة في كل الأوقات، قد تقل في أوقات دون أوقات، ولكن لا يصح أن تغيب أو تختفي، ويجب أن يُختار أهلها ورجالها، فمن لم يتقدم يتقادم، ومن لم يراجع نفسه يتراجع، وما دمنا بشرا سويا، فإن المراجعة والاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق متى ظهر من أخلاق الأسوياء والواعين.


وقد قال أديب الدعوة وداعية الأدب الشيخ محمد الغزالي - يرحمه الله - في كتابه الرائع "جدد حياتك": "أما الانتقاد الصحيح لما وقع فيه من أخطاء، أو الاستدراك على ما فاته من كمال فيجب أن نقبله على العين والرأس، ولو كان النُقَّاد مدخولي النية، سيئي القصد؛ فسوء نيتهم عليهم وحدهم، وخير لنا أن ننتفع بما أجراه القدر على ألسنتهم من تصويب. ومن يدرى؟ لعل ذلك الانتفاع يكون أغيظ لنفوسهم المريضة، والعاقل يتسمع ما يقوله أعداؤه عنه؛ فإن كان باطلا أهمله فورا ولم يأس له، وإن كان غير ذلك تروى في طريق الإفادة منه". ا.هـ.


   إن المراجعة الشاملة واجبة في حق الفرد وفي حق المؤسسات والهيئات والمنظمات، فما بالنا بدعوة وحركة هي أكبر حركة ودعوة يناط بها القيام بهمّ الأمة، وتعلَّق عليها الآمال، وترنو إليها الأبصار، وتتعلق بها الأجيال؟!


إنني لا أخشى من الذي يدعو للمراجعة ويمارس النقد البناء فهذا أنفع للحركة والدعوة ويجب أن يُشجع وأن يُقبل وأن تفتح له مغاليق الأبواب، ولكنني أخشى على الدعوة والأمة ممن لا عقل له ولا رأي له، أينما تضعه تجده، وكيفما تكلمه يسمع، وحيثما تأمره يطيع، وأينما توجهْهُ لا يأت بخير، فلا وعي ولا إدراك ولا فهم؛ فهذا أخطر على الدعوة من أعدائها.


   هذه ليست دعوة للتمرد، ولا عبارات تصاغ للتفلسف والتعالم، ولا كلمة لنكران التاريخ والجهود والعطاء الذي لا ينكره إلا جاحد أو مكابر، ولا كلمة للموازنة مع ما قلته من قبل، وإنما هي دعوة لمزيد من البناء والرشد والعطاء والبقاء والاستمرار، ليس لصالح حركة الإخوان فقط، وإنما لصالح مصر، ولمصلحة الربيع العربي الذي يحتضر، ولصالح الأمة الإسلامية جمعاء.


"رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ". سورة آل عمران: 8.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين