درس في التاريخ على الماشي

للشيخ محمد سعيد الطنطاوي

قابلته في المسجد في الزيارة الأسبوعية التي ألقاه فيها في مسجد فقيه بمكة المكرمة، حيث أمضي معه مشياً على الأقدام إلى بيته فجاء أخ وسلم علينا.

قال الأخ: تعرف اسم الشيخ منير محمد مصطفى ؟ قال: نعم.

قلته له: وأنا أعرف اسم الأخ إنه محيي الدين متولي.

قال: تعرف شمد ين آغا؟

قلت: بلد في شمال تركية.

قال: أسكت أسكت. عيب ، هذا الكلام تقطف القضية من رأس الماعون .

قال الأخ: شمد بن آغا ساحة في حي الشيخ محيي الدين بمدينة دمشق.

قلته له: عيب أن لا يعرف هذا رجل دمشقي ، أما غير دمشقي فلا عيب عليه.

قال الشيخ: استنتجت معنى شمدين ، ولا أدري أصبت أم لا.

قلت له: شمدين آغا ، أليس كلمة آغا تركية.

قال: أصل الآغا خادم( طواشي) ثم أصبحوا أغنياء ، أغوات.

وهم من نتاج (أورخان) الذي قام بعمل لم يقم في التاريخ أحد مثله ، هل تعرف أورخان؟ .

قلت : هو أورخان بن عثمان أحد سلاطين آل عثمان.

قال: ماذا تعرف عن نشوء الدولة العثمانية؟.

قلت: أعرف أنهم جاؤوا ورأوا قبيلتين تتصارعان فانحازوا إلى أحدهما ، فأعطوهم أرضاً .

قال الشيخ: كانت القبيلتان تتصارعان، ولما رأى أرطغرل أن إحداهما كادت تنهزم إليها،فانتصرت فأعطاه رئيس القبيلة المنتصرة قطعة أرض في جنوب تركيا له ولقبيلته ، ثم جاء ابن عثمان وتوسع في تلك الأرض التي كان النصارى يسيطرون عليها ، ثم جاء أورخان ابن عثمان ، وتابع توسعاته وانتصاراته ، ثم عبر إلى الطرف الأوربي ، وصار له دولة واسعة الأطراف.

قلت: ما هو الشيء الذي فعله أورخان واعتبرته من أعظم ما جرى في التاريخ الإسلامي ؟

قال: تعرف أن المسلمين عندما ينتصرون يأخذون النساء والغلمان سبايا ، ثم يبيعونهم أو يعتقونهم ، لكن أورخان أخذ هؤلاء الغلمان ، فرباهم تربية إسلامية على يد العلماء والشيوخ ثم رباهم تربية عسكرية من خلال ضباطه وقواده ، وعندما كبروا دخلوا في الجيش ، وكانوا القوة المنتخبة التي تتقدم الجيش ، وأسمى هذا العمل (أني يرى) أي النظام الجديد ثم تطور اسمهم إلى انكشاري ، وقاد الفتوحات العظمى للدولة العثمانية.

قلت له: فهمت وما هو اجتهادك بالنسبة لشمدين.

قال الشيخ : إنه مثل حي الشيخ محيي الدين ، كثيرون يتحدثون عنه ، ولا يعرفون مَن الشيخ محيي الدين؟ عندما دخل السلطان سليم دمشق عام 923هـ كان يعرف أن قبر الشيخ محي الدين بن عربي في دمشق، لكنه مجهول المكان والشيخ محيي الدين بن عربي توفي عام 738 وبينهما قرابة قرنين، فأقام له ضريحاً وجعل بجواره مسجداً ، وصار الحي باسمه منذ ذلك الوقت.

قلت: وما شمدين باجتهادك؟

قال: على اسم خطيب (كفر بطنا) الذهبي، واسمه شمس الدين ، ولعل الساحة كان اسمها شمس الدين آغا ، ثم تحرفت إلى شمد ين ، وهذه مثل الصالحية ، أتعرف لم سُمِّي الحي بالصالحية؟

قلت : نسبة إلى الصالحين سكنوا هناك.

قال الشيخ : هذا هو الجهل لم تفتِ بجهل!.

قلت: هذا علمي وجهلي: ما عندكم يرحمكم الله؟

قال الشيخ: أتسمع بفلسطين؟ قلت: نعم.

قال : هناك بلدة اسمها جماعين ـ قرية من القدس ـ خرج منها جماعة وحط بهم الترحال في دمشق عند باب شرقي ، وكان مسجد الحي هناك: اسمه مسجد أبو صالح ، فنزلوا به ، واستقبلهم الناس، لكنهم بعد مرور أيام تضايقوا منهم ، وأحس عمر سيدهم بذلك.

فمضى خارج دمشق ، يبحث لهم عن مكان مناسب ينزلون فيه ، ومضى باتجاه جبل قاسيون حيث رأى من بعيد أشجاراً وعشباً فاقترب منه ورأى كأنها جنة من جنان الأرض ، حيث يغذيها نهر يزيد ، في سفح الجبل ، أتعرف ما نهر يزيد.

قلت: أسمع أنه أحد فروع بردى.

قال : أنشأه الخليفة المهندس الشاعر.

قلت له: يزيد بن معاوية؟.

قال الشيخ : نعم إنه آية في الجمال والعبقرية ، فالماء أصلاً عدو للمكان العالي ، وكيف تتم حساب المسافات لتحوير مجرى النهر نحو الجبل بتدرج دقيق تماماً ، وصار كأنه ينبع من الصخر.

مضى عمر إلى جماعته ، فدعاهم للخروج إلى هذا المكان والإقامة فيه ، في سفح الجبل وفي هذه الجنان الخضراء فإذا رآهم الناس قالوا هؤلاء أهل الصالحية. أي مسجد أبو صالح الذي نزلوا فيه وكان منهم الموفق المقدسي ، وهم الذين نشروا المذهب الحنبلي بدمشق ، وصاروا أسرة علم وجهاد. وصار لهم تاريخ عريق.

قلت: حتى أن كتاباً ألف عنهم هو تاريخ الصالحية.

قال: كتاب؟ . كتب . ورحم الله ابن طولون مؤلف كتاب تاريخ الصالحية، ثم قال : تذكر يوم كنا نعمل في الجامعة ، وجاءني زميلك صالح مراد يريد أن يستعير مني الكتاب قلت له : لم؟ قال: يمر معي اسم ـ الصالحي ـ كثيراً ، فأريد أن أعرف تاريخ هؤلاء الرجال فقال الشيخ له: هذا الصالحي الذي نتحدث عنه ليس من الصالحية ، ولا علاقة له بها.

لقد كان سلاطين المماليك يسمون الملك الأشرف، والملك الصالح ، والملك الأمجد ، وسلالتهم تسمى الأشرفية ، أو الصالحية ، أو الأمجدية ، وقد يتعاونون وقد يقتتلون فعندما تطلق كلمة الصالحي ، نعني الانتساب إلى هؤلاء .

وتوقف الدرس مع وصولنا لبيته.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين