انفروا خفافاً وثقالاً - الدعوة إلى حركة الأمة وانطلاقها
انفروا خفافاً وثقالاً
للشيخ محمود أبي الهدى الحسيني
خطبة جامع العادلية يوم الجمعة
19/4/1429
 
في كتاب الله تبارك وتعالى آية تحفِّز الحركة وتلغي الجمود، وهي آيةٌ كلماتها قليلة بل هي جزء من آية، وكنت أتأمل فيها وأنا أرصد واقعنا الذي يعاني من الجمود، فأردت أن أتلمس من خلالها - مع استقراءٍ لمدلولات ألفاظها من كتاب الله تبارك وتعالى - درسًا وتذكرة لتكون منطلقًا. إنها بعض كلمات في آية، وهي قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: 41]، ونحن نقرؤها كثيرًا، وهذه الكلمات الثلاثة هي: - {انْفِرُواْ}: وفيها من الدلالات العربية ما يعطينا رؤية واضحة لمضمون هذه الكلمات. - وقوله تعالى {خِفَافًا}، وقوله {وَثِقَالاً}: وهما كلمتان مجملتان دلَّ القرآن على بعض معالمهما.
أما قوله تعالى {انْفِرُواْ}: فالدلالة اللغوية للكلمة تفيد أمورًا ثلاثة: 1- الحركة المسرعة. 2- والجماعية: فلا يقال هذا الخطاب إلا للجماعة، والنفر والنفير من أسماء الجماعة. 3- والانتشار في كل الجهات. هذه ثلاثة دلالات للكلمة بحسب استخدامات العرب، فهي تفيد حركةً مسرعة، لا تكون إلا لجماعة، ولا تكون في جهة واحدة إنما تكون منتشرة في كل الجهات. باعثها (كما في دلالة اللغة): متى ينفر المجموع يتحرك حركة مسرعة جماعية في كل اتجاه: أ- إما جَزَعًا ورُعبًا: ومثال ذلك قوله تعالى: {كأَنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ من قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51]. ب- وإما لرغبة الإعانة والنجدة: فيهب الجمع للإعانة والنجدة بالأوصاف المذكورة. ج- وإما لإجابة مستصرخ. * وأما قوله تعالى {خِفَافًا}: فحينما ندخل في دلالات هذه الكلمة في كتاب الله تبارك وتعالى نجد أنها تفيد أمرين اثنين: 1- خفَّة المادَّة في يد الإنسان وجوارحه ومحسوسه: ومثاله قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80] فكان التقابل في الآية بين البيوت الثابتة الثقيلة الحجرية وما شاكَلَها وشابهها، والبيوتِ التي تُصنع من جلود الأنعام متحركةً خفيفةً في الوزن. وهكذا انصرفت الخفة في هذه الدلالة إلى الخفة المادّيَّة. ومِثلُ ذلك أو يزيد عليه في المعنى ما ذُكر في قوله تعالى وهو يصف حمل المرأة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189]. فقابل في الآية بين الخفة والثقل، حيث كان الحمل في مبتداه سعادةً وسرورًا، لكنه تحوَّل في منتهاه إلى ضعف ومعاناة، وتحوَّل إلى ثقلٍ مادّيٍّ يضاف إليه ثقل معنويّ، أما ما يقابله من الخفة فإنه يعبر عن حالة الإنسان النفسية التي من خلالها يكون نازعًا إلى الحركة بسبب فرح أو سرور.
 2- خفة الشواغل والعلائق في باطن الإنسان: وأشار إليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الحاكم ويصححه، عن أم الدرداء أنها قالت لأبي الدرداء: ما يمنعك أن تبتغي لأضيافك ما تبتغي الرجال لأضيافهم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمامكم عقبة كؤود لا يجوزها المثقلون، فأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة). فكان يقلل ما استطاع من علائقه وشواغله الدنيوية. ورواه الطبراني في الأوسط أيضًا عن أنس بلفظ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهو آخذٌ بيد أبي ذرّ فقال: (يا أبا ذرّ، أما علمت أن بين أيدينا عقبةً كؤودًا لا يصعدها إلا المخفون؟ فقال رجل: يا رسول الله، أَمِنَ المخفّين أنا أم من المثقلين؟ قال: عندك طعام يوم؟ قال: نعم، وطعام غد؟ قال: نعم، وطعام بعد غد؟ قال: لا، قال لو كان عندك طعامُ ثلاثٍ كنتَ من المثقلين). وقال بعضهم:
قالوا تزوَّجْ فلا دنيا بلا امرأة  لما تزوجْتُ طاب العيش لي وحلا
جاء البنون وجاء الهمُّ يتبعهم  هذا الزمان الذي قال الرسول لنا
وراقبِ الله واقرأ آيَ ياسينا     وصِرتُ بعد وجود الخير مسكينا
ثم التفتُّ فلا دنيا ولا دينا       خُفوا الرحا، فقد فاز المخِفُّونا
وهكذا كان السلف يفهمون الوجه الآخر للخفة الذي هو التقلل من إشغال الباطن بالشواغل. وعلى هذا فتكون دلالات الخفة نوعين: 1- الخفة المادية. 2- الخفة المعنوية: التي من خلالها يكون الإنسان متحررًا من الروابط والعلائق التي تربطه وتجذبه. * وأما قوله تعالى: {وَثِقَالاً}: فقد ورد في دلالات متعددة جدًّا في كتاب الله تبارك وتعالى، وكأن الآية تؤكد - حينما رأيت كثرة الدلالات القرآنية لكلمة "ثقالاً" - على الحركة في وقت الثقل أكثرَ من الحركة في وقت الخفة، لأن الحركة في وقت الخفة لا تحتاج إلى كثير من الدفع، ولا تحتاج إلى كثير من التحفيز، لكنها تحتاج إلى ذلك حينما تكون الحالةُ حالةَ الثقل. ودلالات الثقل في القرآن:
1- ثقل متاع المادَّة وكثرته: ونجد هذا في قوله تعالى وهو يتحدث عن البهائم والأنعام: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7] فجاءت دالَّةً على الثقل الذي نعرفه عُرفًا، والذي هو كبر الحجم وكثرة مقادير الوزن، أي: الثقل الماديّ. وجاءت أيضًا في كتاب الله تبارك وتعالى تشير إلى معنىً آخر، وهو:
 2- ثقل تعلُّق النفس بالمادّة: وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] وهنا وَصَفَ القرآن حالة النفس التي تعلقت بالمادة. ففي الآية التي سبقتها دلَّت على ثقلٍ مادّيّ، وهنا دلَّت على ارتباط النفس بالمادة، فحينما ارتبطت النفس بالمادة ما استطاعت أن تقطع تلك العلاقة، وما استطاعت أن تخفف تلك العلاقة، لذلك فإنها لم تُجِبْ أمرَ الله سبحانه وتعالى حين قال لها: (انفِرُواْ)، إنما كان انجذابها إلى المادة الأرضية.
 3- ثقل الدَّين: وذلك عندما تتراكم حقوق الناس على الإنسان، ونقرأ هذا في قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40]، والغُرْمُ: الدَّيْنُ، فإذا كان على الإنسان للناس حقوقٌ فإنه يكون مُثْقَلاً، ولا شيء يُثقِل الإنسان كالدَّين وحقوق الناس.
 4- ثقل الذنوب والأوزار: وقد ورد ذلك في قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]، وورد في قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أي: ذنوبهم وأوزارهم مع ذنوب غيرهم وأوزار غيرهم.
 5- ثقل الكرب والهول: وورد ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً} [الإنسان: 27] أي: شديدَ الكرب، وثِقَلُ ذلك اليوم كان يعني في الآية الكريمة كَربَه وهولَه وشدة هوله، حيث يكون الناس في شدة وهول. وبعد هذه الجولة في دلالات الكلمات الثلاث التي تمثل نوعًا من التحليل المعنويّ من خلال اللغة والاهتداء بالكتاب المنير، نصل إلى المقصود الذي ينبغي علينا أن نستفيده في هذا الوقت: أما بواعث الإجابة والنفرة فإنها محقَّقةٌ في هذا الزمان:
 1- فإننا نعاني من الجَزع والهلع: ولكننا لا نفِرّ، فالباعث موجود لكننا لا نستشعره، والمسجد الأقصى يحفرون تحت أساساته حتى يُحِلّوا محله هيكلهم، ولا نتلفت لذلك. فنحن نعاني من كل أنواع الضغوط، حتى أصبح الإنسان يقترب من الذي لا كرامة له ولا عزّة. أين نحن من رتبة الإنسان في زمان الحضارة الإسلامية؟ أين نحن في العالم؟ بين الناس؟ نحن نعاني من حالة الترقُّب: من سيضربنا؟ من سيرسل إلينا عقوبة؟ من سيحاصرنا...؟ هذه هي اللغة التي لا يعاني منها المادّيون في الغرب اليومَ الذين طوّروا حركتهم، ومع أنهم من غير مضمون روحيٍّ كالمضمون الذي نمتلكه نحن، لكنهم لا يتفكرون ولا يترقبون: أيَّ دولة سوف تهاجمهم، وأيَّ سلاح سوف يُستعمل ليُدمِّر كيانهم... إنهم اختلقوا اختلاقًا أُكذوبة الإرهاب الإسلاميّ، واختلقوا أكذوبة ماردٍ يُلاحقهم، من أجل تمرير مخططات كثيرة، ومن أجل أن يكون ذلك ذريعةً للعدوان، لكنهم ينعمون في لذائذهم. أمَّا نحن فإننا نترقّب: ما الذي سيحصل؟ هذا حال الضعفاء الذين لا يقولون: ماذا سنفعل؟ ولا يقولون: ما الذي ينبغي علينا أن نصنعه؟ إنما دائمًا لغتهم: ما الذي سيُصنع بنا؟ إذًا: باعث النُفرة أو النفير الذي هو الجزع والهلع موجود.
 2- الإعانة والنجدة: فالضعفاء كُثُر، ونحن لا نتحدَّث عن ضعيفٍ مُحاصَرٍ فقط على أرض غزة، إنما نتحدث عن ضعفاء العِلْم، وعن ضعفاء الشخصية، وعن ضعفاء النفس... وما أكثر الضعفاء الذين يحتاجون إلى الإعانة! وما أكثر من يحتاج في هذا الوقت إلى الإعانة!
3- إجابة مُستصرِخ: كم من مُستصرِخ! وربما انطلقت: "وامعتصماه"، لكن الآن لا مجيب لمُستصرِخ، بل أصبحنا نحن مُستصرِخين. إذًا: باعث النفير حاصل، لكننا نقرأ قوله تعالى: {انْفِرُواْ} وكأنه لا يعنينا، إنه يعني: "تحرَّكوا"، لأنه قال بعدها: {وَجَاهِدُوا}. فقال أولاً: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً}، ثم قال: {وَجَاهِدُوا}، فأراد أن يحركنا قبل أن يدعوَنا. نحن الآن أمة جامدة، ونعاني من التجمّد والتبلُّد، والحركة هي التي تُخرج الإنسان من سكونه وجموده. إذًا: قال: {انْفِرُواْ} أي: تحركوا. ثم إنه لم يقل: (تحرّك)، بل قال: {انْفِرُواْ}، وقلت لكم: إن كلمة "انْفِرُواْ" لا تقبل إلا الجماعية، فأين هي الحركة الجماعية؟ وأين هي النهضة الجماعية، ونحن نعاني اليوم من الفردية الشديدة، ومن انعدام تنسيق الفرد مع الفرد؟ والانتشارُ في كل الجهات يتناسب مع شخصية رسالتنا، لأنها شخصية عالمية. ورسالتُنا رسالةٌ توجّه نورَها إلى كل مكان ولا توفّر فرصة، فهي تنقل في كل لحظة رسالتها إلى كل سامع، وبعد ذلك: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، ولكن قبل أن نقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هل بلّغنا رسالة دين الله سبحانه وتعالى، أم أننا نقولها لنُبرر لأنفسنا تقاعُسَنا عن تبليغ الدين؟ وحين ننظر إلى بواعث النفير فنجدها حاضرة، وننظر إلى دلالات الكلمة فنجدها في رسالتنا حاضرة أيضًا، إذًا: ما بقي إلا الأعذار، وهكذا جاءت هذه الآية لتقول لنا: أعذارُكم غير مقبولة، {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً}. فإذا كنت تعاني من كثرة انشغال نفسك بالمادة فانفر، لأن ذلك سيُعينك. وإذا كنت تعاني من حقوق الناس فتحرّك، لأن الحركة تولِّد البركة. وإذا كنت تعاني من ثقل ذنوب فتحرّك. وإذا كنت تعاني من ثقل كرب فتحرك... إذًا: الحركة مولِّدة للطاقة، والحركة هي الحركة المادية التي هي مُبتدى كلِّ حركة، والحركة المادية تتبعها وتكون معها دائمًا حركةٌ معنويَّة. لكن ماذا نفعل عندما نعيش حالةَ التخدير، ونسعد بالتخدير، ونسعد حتى نـزداد نومًا وسُباتًا، وحتى يكون التخديرُ فينا عامًّا؟ إنها لحالةٌ مأساوية، والله سبحانه وتعالى يقول: "انْفِرُواْ" أي: تحرّكوا جماعة، وتحرّكوا حتى لا يكون فيكم جامد ولا ساكن. والسكون لا يُطلب منا إلا في حالة واحدة وهي سكون القلب في حضرة الله، فلا يُطلب منا السكون إلا أن يكون موجّهًا إلى القلب، والذي عُبِّر عنه بالخشوع الذي هو السكون، والذي لا يكون إلا لله، ولا يكون في الجسد لكنه يكون في القلب، فالقلب ساكن والجسد يتحرّك، والصلاة الخاشعة جسدُها مُتحرِّك وقلبُها ساكن: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]. وخذ الصلاة مثالاً ونموذجًا لما يريده ربنا منا: أَمَا تكونُ أيها الإنسان في صلاتك مُتحرِّكًا بجسدك مع سكون قلبك؟ فقلبُك لا يتحرك في الصلاة وجسدُك يتحرك، وهذا هو المطلوب. وحتى نفهم معنى "انْفِرُواْ" لا بد من حركةٍ على مستوى المال، وحركةٍ على مستوى العِلْم، وحركةٍ على مستوى العمل... ولا بد من حركةٍ لا تُغادر معنىً من معاني الحركة المُنتِجة النافعة التي تخرجنا من هذا الرقاد والتجمُّد والتبلُّد... وإلا فإننا لن نكون ممن فهم قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً}، فكلنا أصحاب عُذر، ولا يوجد واحدٌ منا إلا وعنده من هذه الأعذار، لكننا نتعلل بالأعذار لنبقى في جمودنا وتبلّدنا. رُدّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول هذا القول وأستغفر الله.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين