المظلة المشؤومة - ـ
المِظلّة المشؤومة
بقلم: المربي الأستاذ محمد عادل فارس
أذكر أنني منذ سنوات طويلة حضرت مجلس عالم فاضل، وهبه الله علماً وكياسة وحُسن مَدخل إلى النفوس... وما زلت أذكر الأسلوب الذّكي الذي دخل منه إلى الموضوع، قال: «أرأيتم إلى قوم يجلسون أمام الواعظ والمدرّس في المسجد، وقد وضعوا فوق رؤوسهم المظلاّت؟! نعم، وإنهم ليفعلون ذلك داخل المسجد!».
وبدأ الناس ينظر بعضهم إلى بعض: من ذا يفعل ذلك؟! لم نرَ مثل هذا أبداً... ماذا يقصد الشيخ؟
لم يدَعهم الشيخ في دهشتهم من كلامه، بل أردف يقول: الواحد منهم يسمع الواعظ يحذّرهم من الغيبة أو من الغش، أو من الحقد، أو من البخل... أو يحضّهم على التسامح والبذل، والتورع عن الشبهات... فيكون ما يجول في خاطر كل منهم: فعلاً، إنّ جاري لا يتورّع عن الغيبة، وإن صديقي فلاناً يغشّ أصحابه، وإن زوجتي تحقد على من يخطئ معها في شيء، وإنّ فلاناً لا يتورع عن شبهة، بل قد يقع في الحرام ولا يبالي...
وهكذا يوزع أثر الموعظة على جيرانه وأقربائه وأصدقائه ومعارفه... أما هو فالكامل المكمَّل الخالي من كل عيب ودنس، ولا ينبغي أن تمسّه من الموعظة كلمة واحدة!!.
أليس هذا كالذي يضع على رأسه المظلّة، تقع عليها حبّات المطر، فتوزعها من أمامه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، من غير أن يناله منها شيء؟!
لقد أثنى القرآن الكريم على النّفس اللوامة، التي لا تكفّ عن لوم صاحبها على تقصيره وذنوبه، وترصد له الفعل والقول والخاطرة!! هذا ما فهمه إمام التابعين الحسن البصري من قول الله تعالى: {وَلا أقسِمُ بالنّفسِ اللّوامةِ} (القيامة:2). قال: «إنّ المؤمن واللهِ ما نراه إلا يلوم نفسه: ما أردتُ بكلمتي؟ ما أردتُ بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجرَ يمضي قُدماً لا يعاتب نفسَه».
المؤمن يعلم من نفسه الضَّعف، ويحسّ بعَثَراته وخطاياه ويعلم أنه هالك إذا لم يتداركه الله برحمته، ويُسبل عليه سِترَه، ويتجاوز عن ذنوبه. والمؤمن يعرف من نفسه أنّه ما يلبث أن يستغفر ويتوب حتّى يقع في المعصية مرّة بعد مرّة، فهو دائم الشعور بتقصيره، واللوم لنفسه، واللجوء إلى ربه.
فإذا رأى النّاسَ يمتدحونه ويُثنون عليه، قال في نفسه- كما كان الصدّيق رضي الله عنه يقول -: «اللهم اجعلني خيراً مما يقولون»، وما يزيده مديحهم إيّاه إلاّ شعوراً بفضل الله عليه في ستر عيوبه وذنوبه، كالتاجر الذي يعرف مقدار الدّيون عليه، والنّاس يظنون به غنىً ويساراً، أتراه يحسب نفسه غنيّاً لظنّ النّاس؟! أم أنّه يجتهد في الكسب حتى يكون كما يقولون عنه، ولا يُفتضح إفلاسُه؟.
والمؤمن بعد ذلك يُحسن الظّنّ بغيره من المسلمين، فلا يفترض فيهم آثاماً لم يتبيّنها منهم. ثمّ هو يتأوّل لهم ما كان ثَمَّ مجال للتأوّل، فيحسب أنّه من أكثرهم تقصيراً وإثماً، فلا يفتأ يلوم نفسه.
فأين أصحاب «المظلاّت» هؤلاء من صفات المؤمنين؟! إنّ أحدهم ينصّب نفسه على النّاس قاضياً جائراً، يصدر أحكامه بتجريم زيد، وتأثيم عمرو، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذعَ في عينه!!
وقد روي أنّ رجلاً من الصّالحين كان يعظ النّاس ويشتدّ عليهم بما يَقْرُب من التوبيخ، وهم يستمعون إليه راضين، ويبلغ التأثر بهم أنّهم يخضِّلون لحاهم من البكاء على ذنوبهم!. وذات مرّة غاب الشيخ عن المجلس، وجلس مكانه رجل آخر من تلامذته، وجعل يعظ النّاس بالأسلوب ذاته، فقام إليه النّاس فأنزلوه ووبّخوه على أسلوبه الشديد. فشكا ذلك إلى شيخه، وقال: إنّني ما زدت على ما كنتَ تخاطبهم به، فما بالُهم لم يحتملوه منّي، على حين أنّهم يتقبّلونه منك؟ قال: إنّني، إذ أخاطبهم وأعنّفهم، إنّما أتمثّل ما أعرفه من نفسي من ذنوب وتقصير فيتقبّلونه، لأنّني في واقع الحال إنّما ألوم نفسي الآثمة، فيقع الكلام على نفوسهم موقعاً طيّباً، وأمّا أنت فلعلّك كنت تعتقد أنّك خير منهم، وأنّك البَرُّ التقيّ، وهم الفَجَرة الآثمون!!
ما أحوج المسلم إلى أن يطرحَ تلك المِظلّة المشؤومة، ويقفَ مع نفسه وقفة صادقة، وينزعَ عنها الأقنعة الزائفة، ويواجهَها بما يكون منها من قبيحِ الفعل، وهُجْرِ القولِ، وباطن الإثم، ويعلم أنّه أَوْلى النّاس بأن يوعَظ ويُنصح، وينبَّه إلى ما في سلوكه من عِوَج، وما في قلبه من ضغائن.. ويتذكر أنّه إن خَدَع نفسه اليوم عن حقيقةِ نفسه، وظنّ أنّه على الخير والطهر، وأنّ الآخرين هم المذنبون والمنحرفون.. فمَن ذا يجادل الله عنه يوم القيامة، أم مَن يكون عليه وكيلاً؟ <

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين