نماذج من الغربة في طريق الدعوة - خواطر حول حديث الغربة
نماذج من الغربة في طريق الدعوة
بقلم : عبد العزيز كحيل الجزائر
الغربة والغرباء عندما نقرأ الحديث النبوي الصحيح" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبافطوبى للغرباء" كثيرا ما نقصر فهمه على المعنى السطحي القريب بيد أن الغوص فيأعماقه يطلعنا على معان ونماذج للغربة تزيدنا ثباتا في طريق الدعوة لما تحويه منأبعاد تجعل الغرباء يستحقون فعلا التنويه والإشادة. إن المعنى المادي للغربة يفيدالابتعاد عن الأهل والوطن،وينضح بمشاعر الانقباض والوحشة،ومعناها المعنوي لا يقلأسى عن الأول بل هو أشد وأنكى،ذلك أن الغربة تقتضي دائما معاني القلة [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {الأنفال:26} والذلة (( وما نراكاتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) والوحشة(دعاء الطائف)وهي جمر متأجج لا يصطلي بهالبعيد عن أرضه فحسب،وإنما يكابده عزير قوم ذل ويحس بسعلته غني افتقر كما يشكو منهالعالم بين الجهال،فكل هذه نماذج من الغربة يقودنا تتبعها إلى إمكانية تلخيصها فيالغربة الشعورية والفكرية والجيلية إلى جانب الغربة المكانية. فالغربة الجيلية مثلاتعني ما يسمى بصراع الأجيال ،حيث يشعر الجيل القديم بأنه غير مرغوب فيه لما يمثلهمن قيم أو ذهنيات أو سلوكات يشمئز منها الجيل الجديد أو يريد تجاوزها،كما قد يحسبالغربة نفسها الجيل الجديد عندما يجد نفسه مهمشا من قبل الجيل القديم سياسياوثقافيا فينفر من روح الأبوية والوصاية إذ لا يترك له مجال للبروز وتحمل المسؤوليةوإثبات الذات،ولعل في تولية الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد على جيش فيهشيوخ الصحابة إشارة إلى جانب اعتبارات أخرى إلى حرص الإسلام على ردم الهوة بينالأجيال حتى لا يترك مجالا للغربة الجيلية،والشيء نفسه قد نلحظه في تقديم النبي صلىالله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ليؤم قومه في الصلاة وهو لم يبلغ الحلم. أما الغربةالشعورية فهي على مرارتها تحقق إسلامية المسلم،حيث يخالط الناس ويصبر على أذاهمويترفع عن سفاسفهم ولا يمنعه صدودهم من سوق الخير إليهم ودفع الشر عنهم،يشتغلونبالمخلوقين ويشتغل بالخالق،يتنازعون حول انتماءات أرضية ويحرص على جنسية الجنة( بحسب تعبير الأستاذ وحيد الدين خان)،يصبح الناطقون باسم الله ويكمم فاه خوفه منربه،يجري العبيد خلف شهوات الدنيا وتقعده الآخرة،يسرحون ويمرحون ويبكي هو شفقة علىنفسه،يرفع الناس شعار "حاسبوا غيركم" ويلتزم هو مبدأ "حاسبوا أنفسكم"..إنها الغربةحقا ونعمة العربة يتحملها الدعاة إلى الله كأحد لوازم المنهج الدعوي ليأنسوا عندربهم يوم تزول المقاييس الأرضية وتهيمن الموازين السماوية. وإذا كان هذا حال المسلمالتقي الإيجابي فإن الذين انسلخوا من حقيقة الدين وتمسكوا بالمناهج الوافدة يشتكونغربة فكرية رهيبة لأنهم يعيشون في واقع بأفكار مستعارة من واقع آخر،فأصابهم انفصامفي الشخصية جعلهم يبتعدون عن أمتهم يوما بعد يوم ليتقمصوا شخصية الإنسان الغربيفتحللوا من القيم والأخلاق والمقومات وحتى من الأشكال كالزي والذوق والسلوك..إنهاالغربة حقا ومن أبشع أنواع الاغتراب،ولله در الكاتب الفرنكوفوني الجزائري مالك حدادرحمه الله الذي اعترف بالغربة اللغوية،في حين يصر نظراؤه من المهزومينروحيا،المصابين بمركب النقص في إنكار ما أصابهم بل واعتباره منقبة حضارية. لا تقتصرصور الغربة عل الأمثلة السابقة ولكن تتعداها إلى صور عديدة منها على سبيل التفصيلمثلا غربة المعتدل وسط المتطرفين،ولا نحتاج إلى التنقيب في بطون الكتب وصحائفالتاريخ للوقوف على أدلة ذلك فنحن في الحركة الإسلامية نعيش التجربة الصعبة لأننااخترنا موقع الوسطية والاعتدال- كما تعلمنا من ديننا- في ظرف يلفظ المعتدلين ويسلطالضوء على المتطرفين من كل نوع،إن الحركة الإسلامية لم تسلم من التطرف الديني الذييتهمها بالميوعة ولا من التطرف العلماني الذي ينسبها إلى إفرازات خارجية،ولا منالتطرف السياسي الذي يستدرجها خارج خطها المعتدل،وينظر ابن الحركة الإسلامية حولهفيجد نفسه في غربة ما كان ليصبر على قسوتها لولا يقينه في ربه ودينه ومنهجه،وذلك ماجعله يتحمل ظلم ذوي القربى ومؤامرات "برامكة" العصر وضربات غير هؤلاء وأولئك،وهكذايحول الغربة إلى نعمة يزرع من خلالها البذور التي ستنبت في يوم ما المجتمع الإسلاميالمنشود..فطوبى للغرباء. وبالإجمال نذكر غربة الفذ الذي يبني وسط الجموع المشتغلةبالهدم وغربة من يشعل شمعة مع من يسبون الظلام وغربة الحكيم وسط الطائشين وغربةصاحب الحس المرهف في محيط يسود فيه الغلاظ المتبدون. ثم نذكر غربة مصحف في بيت لايقرأ،وتبلغ الغربة ذروتها في قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حكاه القرآنالكريم:"يا ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا"..إنه رشح الغربة ونضح الوحشة،لكنالمسلم لا يبالي بغربة ترشحه للريادة والفوز في الدارين فطوبى للغرباء

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين