التربية بالقدوة - أثر السلوك العملي في التربية
التربية بالقدوة([1])
للدكتور : أكرم ضياء العمري
إن القدوة الحسنة هي أمثل الطرق لتربية الأجيال الإسلامية، وهي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطريقة الصحابة والتابعين والأتباع ومن بعدهم من جهابذة العلماء، وإنَّ العناية بتربية الطلبة وتوجيههم، وعدم إبقائهم بمعزل عن الأساتذة هي أكثر الطرق فعالية في التأثير على سلوكهم وتقوية صلتهم بالله وبتعاليم دينه.
إنَّ الأساتذة في الجامعات الإسلامية ـ كما لا يخفى ـ هم دعاة أولاً وليسوا موظفين، ولذلك لا يمكن أن يقتصر عملهم على الواجبات الرسمية المُناطة بهم، إذ هم لا يستطيعون ذلك، كما أنَّ الجامعة لا تستطيع تحقيق أهدافها التعليمية والتربوية والعلمية إلاَّ عن طريق هيئة التدريس، وأن وحدة الهدف والرغبة الصادقة في خدمة الإسلام هي الدافع لزيادة جهود الأساتذة في توجيه الطلبة علمياً وتربوياً ، ويخيل إليَّ أن الجامعات الإسلامية لو لم تكن قائمة فإن أي عالم سيفكر في إنشاء مدرسة أو كلية لتدريس العلوم الإسلامية، إذ لا حياة للعالم إلاَّ وسط طلبة العلم، يعلمهم السلوك، ويربيهم على تعاليم الإسلام، ويثقف عقولهم بالقرآن والحديث وفقههما، ويجعل الموازين الإسلامية مقياساً لهم في كل أعمالهم وأقوالهم.
فالثقافة ليست حشداً للمعلومات، بل هي تفاعل بين الإنسان والعقيدة والفكر، يظهر أثره في السلوك... فقد يحفظ الإنسان معلومات كثيرة، ولكن سلوكه الاجتماعي غير مقبول، فنظرته للآخرين فيها استعلاء واحتقار، وتقويمه للمواقف مبنيٌّ على «الأنانية» وحب الذات، وتذوقه «للجمال» ضعيف يدل على بلادة المشاعر وضعف الإحساس، وكلامه خال من المعاني الرقيقة والمشاعر الطيبة، ولا تظهر فيه آثار المعلومات التي يكنزها؟ فمثل هذا ليس مثقفاً، بل هو جهاز «كمبيوتر» من نوع بسيط ورخيص لقدرته المحدودة على الاستيعاب والحفظ.
لقد فطنت أم عربية مسلمة هي السيدة أم المحدِّث المشهور «سفيان الثوري» إلى هذه الحقيقة وبالتالي فقد أوضحت لابنها سفيان أن يربط بين العلم والسلوك، وإلاَّ فلا نفع للعلم دون العمل.
قالت:
« يا بني خذ هذه عشرة دراهم، وتعلَّم عشرة أحاديث، فإذا وجدتها تُغيِّر في جلستك ومشيتك وكلامك مع الناس، فأقبل عليه وأنا أعينك بمغزلي هذا وإلا فاتركه، فإني أخشى أن يكون وبالا ًعليك يوم القيامة».
فإذن الثقافة ينبغي أن تغير في الجلسة والمشية والكلام ... يعني «السلوك» وإلا فهي تزيد مسؤولية صاحبها في الآخرة ، وقد تكون وبالاً عليه في الدنيا أيضاً، إذ لن يجد مردوداً اجتماعياً وأدبياً يعادل «ثقافته العالية» حسب تصوره ـ والتي ينبغي في رأيه ـ أن تؤدي إلى تصدره!!!
وللأسف فإن ما فطنت إليه المرأة المسلمة في مطلع القرن الثاني الهجري لا يزال خافياً على كثير من المتعلمين في هذا العصر.
وقد أفاد سفيان من نصيحة أمه، فواصل طريقه في طلب العلم حتى صار عَلَماً في عصره، وروى عنه عشرون ألفاً من الرواة، قال ـ رحمه الله تعالى ـ يحكي صورة طلبه العلم في صغره، حيث فطن المسلمون إلى أهمية طلب العلم في الصغر، وتواصوا بذلك، وأحضروا الصغار في حلقات العلم ، وتعهدوهم بالرعاية ، قال سفيان:
« لو رأيتني ولي عشرُ سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشُعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، كالزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا أتيتُ قالوا: أوْسِعوُا للشيخ الصغير. ثم ضحك»([2]).


([1]) من كتاب التراث والمعاصرة ص109.
([2]) سير أعلام النبلاء 8/404.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين