الخطاب الاسلامي والتاريخ

 
 
 
 
 
ماهر سقا أميني
 
لا توجد أمة تنظر بعين الإجلال والتبجيل إلى حد التقديس كما يفعل كثير من أصحاب الخطاب الإسلامي الراهن ، فالتاريخ مدرسة للنظر والاعتبار لا لمجرد التأمين على ماقال وفعل الأولون، والأمم اليوم راحت تقدم الاعتذارات للأمم الأخرى على مافعل أسلاف هؤلاء بأسلاف هؤلاء، وعندما ذكرت شيئاً عن الطهرانية المبالغ فيها لدى كثير من المسلمين في النظر إلى التاريخ من بعد وفاة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى سقوط ما يسمى بالخلافة العثمانية، قال صاحبي: يكفي هذا دليلاً على خبثك وهمزك ولمزك، فها أنت تطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها أنت لا ترى في الدولة العثمانية خلافة إسلامية، فها أنت قد فضحت نفسك بنفسك ولم يعد لديك حجة تذود بها عنك .
 
أقول يا سيدي: إن من سوء التصور الذي غلب على المسلمين اليوم هو اقتطاع التاريخ الإسلامي من الزمن التاريخي، فما قبله كله جهل وجاهلية اللهم إلا ما ورد عن الأنبياء وأقوامهم، مع أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام” يؤكد الوصل لا الفصل، ويلغي ذلك الحد المصطنع المبالغ فيه بين ماقبل الإسلام وما بعده، ثم إنني أعرف أن الأمة قد اجتمعت على عدم الطعن أو الشتم أو الذم لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله إني لا أجرؤ على ما تصفني به، ولكن الطعن شيء والنظر التاريخي العلمي شيء آخر، لست ممن يحاسب الصحابة رضوان الله عليهم ولا السلف الصالح، ولا حتى أنت الذي كررت علي هذه الكرة، ولست ممن يحكم على أحد على سطح الأرض حكماً دينياً أو أخلاقياً، فهذا شأنك وشأن أمثالك ممن يخولون لأنفسهم الحكم والحساب وفرز الناس إلى الجنة والنار، أما العالم اليوم فإنه ينظر بعين الفحص والدرس والتأمل والاعتبار إلى التاريخ لا لكي يحاسب الناس ولكن ليفيد من تجاربهم .
 
الفرق كبير ياسيدي بين ألا تقع عينك في رجال التاريخ الإسلامي إلى انتهاء العهد العثماني إلا على مخلوقات نورانية طاهرة مطهرة لا وجود على سطح الأرض مثلها، وبين أن تنظر إلى كل هؤلاء على أنهم بشر أبناء بشر لم يهبطوا من السماء مع مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام ويجوز فيهم وعليهم الخطأ والنسيان وسوء التقدير والتدبير من دون حكم على أحد ولا تفسيق أحد ولا تكفير أحد، فأنا ممن يرون أن هذا ليس من شأن أحد على سطح الأرض، وما يهمني في التاريخ فهمه لإدارة شؤون حياتي لا لأغراض التبجيل والتقديس والتعظيم، واعلم يا أخي أن التاريخ الإسلامي الممتد خلال أربعة عشر قرناً فيه من الطامات بقدر ما فيه من الصفحات المشرقة، واقرأ ما كتبه ابن كثير والطبري في تاريخيهما ومن جاء بعدهما من رجال السلف الذين ترى نفسك أقل من أن تجاريهم أو تضيف عليهم لترى أن تاريخنا كتاريخ غيرنا تاريخ بشر يصيبون ويخطئون ويفجرون ويطمعون ويقتلون ويفتئتون .
 
أما إن كنت ترى في (كل) الدولة العثمانية خلافة إسلامية كالخلافة الراشدة فاعلم يا أخي أنه في أحسن الأحوال يمكن اعتبار أول مئتين وثمانين سنة من عمر الدولة العثمانية فترة مقبولة يكثر فيها الصلاح ولكنها لا تساوى بشكل من الأشكال بالخلافة الراشدة، وأن ما بعد ذلك يغلب فيه الفساد باعتراف أهل العلم من العرب والأتراك أنفسهم، ولا يغير في الأمر شيئاً وجود رجل صالح هنا أو صالح هناك، وإلا فما توارت دولة بعد أن ضعفت وفسدت كما توارت الدولة العثمانية، ولا أعرف حتى الآن ماذا تقصد بكلمة (الخلافة)؟ هل هي مجرد لازمة تفيد المدح والثناء؟ أم شكل من أشكال الحكم؟ أم رمز جامع للمسلمين على الأرض مهما بلغ فساده؟ فإن كنت تقصد الأولى أو الثانية فالتاريخ الإسلامي ليس معك، فكم من خلافة رافقها فساد، كما أن هذا اللفظ يصف أشكالاً مختلفة من الحكم فليست خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه كخلافة أبي جعفر المنصور، أما إن كان يهمك الرمز الجامع بغض النظر عن الفساد والصلاح والخيرية التي تشغل نفسك بها وهي ليست من علم التاريخ اليوم، فقد تكون محقاً إلى حد يحرجك ولا يحرجني والله أعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين