يا سيدي يا رسول الله - ميلاد النبي الأمي


بقلم الأديب الكبير: علي الطنطاوي
 
وأين أنا من جنابك العالي ولي ـ يا سيدي يا رسول الله ـ قلب قد ملأه حب الدنيا فهو قاسٍ لا يلين لموعظة ولا ذكر، ولي عينٌ قد أسكرها النظر إلى المحرَّمات فهي جامدة لا تفيض من خشية الله، ولي نفس قد أثقلتها الذنوب وقعدت بها الأوزار؟
 
كيف لي بدخول حماك الطاهر وأنا مُلطّخ بالوحل؟ وكيف لي بالسمو إلى جنابك العالي وأنا مُثْقَل بالخطايا؟
 
إني لأرفع هذه الشَّكاة إليك وأنا أعلم أنك بشرٌ مثلنا، وإنْ ميَّزك الله بالوحي وبالكمال علينا، وأنك لا تهدي من أحببت، وأنه ليس لك من الأمر شيء، وأنك جئت بعقيدة التوحيد وبأنَّ النافع الضارّ هو الله، لا يُسأَل غيره ولا يُستعان بسواه ولو كان سيدَ الخلائق محمداً صلى الله عليه وسلم  ولكنها شَكاة متألم ونفثة مصدور.
 
هذه يا سيدي يا رسول الله ليلة اثني عشر من ربيع، الليلة المباركة التي كانت رحمة للعالمين وهدى ونوراً، ليلة الخير، ليلة البر، ليلة الفرحة الكبرى في تاريخ البشريَّة والعيد الأعظم للناس: ليلة مولدك يا رسول الله([1]) وها هم أولاء المسلمون، وهم أربعمائة مليون([2])، يحتفلون في مشرق الشمس ومغربها بهذه الذكرى. وها هي ذي المنابر، وهي مئة ألف منبر من فاس إلى لاهور، كلها يحدّث اليوم حديث المولد، وها هم أولاء القرّاء وهم ملايين، يرتِّلون آي الذكر الحكيم بأعْذَب الألحان من أطرى الحناجر.
 
قد عظّمنا الذكرى، فأقمنا الزينات في كلِّ مكان ونشرنا الأعلام وأوقدنا المصابيح، وفرشنا الطرق بالزهر، وملأنا الجو خطباً فِصاحاً وأغاني عذاباً فهل بقي شيء لتكريمك لم نصنعه؟
 
لم يبقَ إلا شيء واحد؛ هو أن نعود إلى دينك حقاً، فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام، ونكون في أفرادنا وجماعاتنا وظواهرنا وبواطننا كما أحببت أن نكون. وهذا هو الشيء الذي نسينا أن نصنعه في منهج الاحتفال بالمولد.
 
أربعمائة مليون، ولكن الأربعين الذين كانوا معك في دار الأرقم كانوا أشدَّ حماسة وأقوى إيماناً وأرجل رجولة وأعظم في الأرض أثراً، لأنهم حملوا سكان ثلث المعمور في ثلث قرن على اتِّباع الإسلام، ونحن لا نستطيع أن نحمل على اتباعه أبناءنا في بيوتنا ولا بناتنا.
 
ومائة ألف منبر، ولكن المنبر الواحد الذي نُصب لك في المدينة، والذي كان درجات من الخشب لا قبّةَ فوقه ولا بابَ له ولا زخارف ولا نقوش، كان أعلى صوتاً وأكبر عملاً، لأنك دعوتَ منه بصدق وإخلاص فاستجابت لك الدنيا، ونحن ندعو من هذه المنابر الُمزخرفة المنقوشة التي تذاع خطبُها في الأرض كلها فلا يلبِّي أحد، لأننا قلنا من ألسنتنا فقط فسمع الناس بآذانهم فقط.
 
وملايين من القراء، ولكن النفر القلائل من صحابتك الذين كانوا يحفظون الآيات القلائل كانوا أقرأ منهم، لأنهم فهموها وتذوَّقوها واستنبطوا الأحكام منها وعملوا بها، ونحن نغني بالقرآن كما نغني بالأشعار، كل همنا النغم والإيقاع.
 
لقد جئت بعقيدة التوحيد وبُعثت بـ «لا إله إلا الله» ليعلم المسلم أنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله فلا يخاف في الحق أحداً، ونهيت أن ندعو بدعوة الجاهلية ليكون المؤمنون كلهم إخوة، تجمعهم القبلة إن فرقتهم البلدان ويُوحّدهم القرآن إن اختلفت الألسن والألوان، فاعتقد المسلمون بعدك عقائد شتّى، وصاروا دولاً وأمماً وأقواماً. انقسمنا وتنازعنا الإمارة والتجارة، وفرقتنا السياسة والرياسة والآراء والمذاهب والنزعات والقوميات.
 
علمتَنا الصدق. سألوك: هل يسرق المؤمن؟ قلت: لعله، ويتوب، وسألوك: هل يكذب المؤمن؟ قلت: لا. وجعلتَ الكذب ثلث النفاق، وجعلت إخلاف الوعد الثلث الثاني، وخيانة الأمانة الثلث الثالث. وقلت: «من غش فليس منا». وعظَّمت أمر الغيبة والنميمة، وأنذرتَ ذلاً وخراباً وغضب الله كل بلد يفشو فيه الزنا والخمر والربا والقمار.
 
علمتنا النظام، وأن تكون حياتنا كأنها ـ من دقة التوقيت ـ حياة جنود في ثكنة أو طلاب في مدرسة. بل لقد أردتها أضبط وأحكم، لأن التدريب في الثكنة قد يسبق موعده دقائق، ولكن الصلاة لا تصح إن سبق وقتها، والصوم يبطل إن تأخر الإمساك عن موعده، والحج لا يصح إن صعدت عرفة بعد ميقات الصُّعود، ولو كان السبق أو التأخير دقائق معدودات.
 
 فأين نحن اليوم من هذا كله؟ أين نحن اليوم من الإسلام؟
لقد علمتنا غضّ البصر، وستر العورة، وصدق المعاملة، والعزة والإباء، واللين والتواضع، وأن نكون أذلة على المؤمنين، أعزَّة على الكافرين، وأن يوقّر صغيرُنا كبيرنا ويرحم الكبيرُ الصغير، وتطيع المرأة زوجها ويُنصف الزوج المرأة، ويبر الولد والديه، ويربي الوالدان على الخير الولدَ، وأن يعرف كلٌّ منا ما عليه فلا يقصر فيه وما له فلا يجاوزه، وأن تقوم البيوت على المحبة والإخلاص والمجامعُ والأسواقُ على الصدق والأمانة.
 
فأين نحن اليوم من هذا كله؟ أين نحن اليوم من الإسلام؟
 
لقد عدنا ـ يا سيدي يا رسول الله ـ إلى جاهلية شر من الجاهلية الأولى.
 
أضعنا سلائق العروبة،وأضعنا أخلاق الإسلام، ودعونا بدعوة العصبية، فقال التركي المسلم : أتراك، وقال العربي المسلم : عرب، وقال الكردي المسلم: أكراد؛ ففرَّقنا بأنفسنا جمعَنا ومزّقنا وحدتَنا، وهدمنا بأيدينا المسجد الذي بنيته لنا.
 
الراية التي عقدتها بيمينك، فنصبها الفاتحون من جندك وأتباعك على روابي البيرنيه ورمال التركستان وثلوج روسيا وأسوار فينا وذُرى الهند، لم تعد تُرفرف بأجنحة النصر.
 
 والجيش الذي حمّلته رسالة الحق والهدى والعدالة، فأبلغها أهل الدنيا جميعاً ونسف في سبيلها عروض الطغاة وداس تيجان الجبَّارين، وكان حامي الحضارة في الدنيا، لم يبقَ منه إلا سطور على الأرض خُطَّت بدماء الشهداء وسطور في التاريخ كُتبت بمداد الفخار.
 
قد طُوَِيت ـ يا رسول الله ـ راية الفتوح، وصدِئَت في الأغماد السيوف، وخمدت في النفوس الحماسة، وأقفرت من أبطالنا الميادين، واختُصر الجيش الضخم الذي فتح الأرض وتضاءل وانكمش حتى وسعه ميدان صغير أمام عدو حقير. لقد ذلّ الأسد حتى كُتب عليه أن يقاتل ضَبُعاً منتنة تعيش على جثث الأموات! لقد امتُحن العرب بقتال اليهود. وما كان اليهود أكفاءنا، ولَنحن ـ على ضعفنا ـ أقوى من اليهود، ولكنا انقسمنا وتنازعنا وسمعنا نصيحة من غشّنا، حتى غلبتنا على أرضنا أذل الأمم، غلبتنا بانقسامنا وتنازعنا لا بقوتها وضعفنا.
 
ولكنا لم نيأس، لأنك علمتنا يا سيدي يا رسول الله أنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون، وعلمتنا أنها لا تزال طائفة من أمتك على الحق، لا يضرّها من خالفها حتى تقوم الساعة. ولقد حقَّق الله لك المعجزة فظهرت فينا هذه الطائفة.
 
إن فينا ـ رغم الفتن والفساد ـ شباباً نشؤوا في طاعة الله، وباعوا الله نفوسهم، أعرضوا عن وسواس الشيطان وأوامر النفس وزخارف الدنيا، ومُغْريات الجمال والمال والجاه والمنصب، حبسوا أنفسهم في المساجد يتلون الكتاب ويتدارسون الفقه، على حين قد انطلق غيرهم يؤمّون المقاهي والملاهي، يملؤون عيونهم من الجمال المحرَّم ويُشبعون أعصابهم من اللذة الممنوعة.
 
وإن فينا بنات هنَّ أمثال أولئك الشباب الطائعين، وإنَّ فينا شيوخَ صلاح وهدى، لهم من سنِّهم حكمة الشيوخ ولهم من حماستهم وغضبتهم للحرمات المستباحة مثل عزم الشباب.
 
وهذه المساجد ـ يا رسول الله ـ ممتلئة بالمصلين، وهذه المطابع تُخرج كل يوم عشرات من كتب الدين، واليقظة قد عمّت، لقد أذّن فينا مؤذن النهضة بعد ليل الخمول الطويل، فأفقنا وأزمعنا ألا نعود إلى المنام.
 
لقد بطلت فتنتنا بالغرب وبطل سحر الغرب فينا، وصرنا نميز خيره من شره، ونفرق حقه من باطله، ولا نأخذ منه إلا العلم المادي الذي كان له السبق به علينا، أما الدين أما الأخلاق، فحسبنا أخلاقنا وديننا.
 
ونحن إن شاء الله إلى خير، وإنّا في طريق العودة إلى هديك، إلى دينك، حتى نكون مسلمين حقاً، مسلمين بأقوالنا وأفعالنا وظواهرنا وبواطننا، لا بالمظاهر وحدها والأقوال.
 
ويومئذ نكون قد احتفلنا بمولدك، وكرّمنا هذه الذكرى التي ليس في ذكريات الضمير الإنساني كله أكرم منها ولا أنفع ولا أبقى.
 
صلى الله عليه وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله.
نور وهداية ص199ـ205.
([1]) نُشرت هذه المقالة سنة 1954 كما هو مثبت في أولها، وقد درج الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ من بعدُ على ترجيح أن مولده صلى الله عليه وسلم  كان يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول لا الثاني عشر منه، تنظر المقدمة التي كتبها لرسالة « نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام وفي تحقيق مولده وعمره عليه السلام» لمحمود باشا الفلكي.
([2]) أي يوم نُشرت هذه المقالة، وهم اليوم أربعة أمثال ذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين