مفارقات ين صناعة السِلم الاجتماعي ودفع الصائل الباغي


أ.د.صلاح الدين سلطان
 
تمرُّ مصر الجديدة ودول الربيع الإسلامي والعربي بحالة تهييج وتحريش داخلي، وليس هذا إلا خدمة واسعة النطاق للعدو الصهيوني الخارجي الذي يمسك بأطراف الصراع من خلال خُدَّامه من الأمريكان والأوربيين والروس والعملاء و...، فالمعارك داخل الوطن الواحد ليس فيه منتصر ومنهزم، بل الكل فيه منهزم، والأصل في المسلم أن يسعى جهده لتحقيق السلم والأمن والأمان الاجتماعي لكل إنسان مسالم ولو كان غير مسلم، أما مع المسلم فللحديث الذي رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وأما غير المسلم المسالم فلقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)، وقوله تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) (النساء: من الآية90)، ويكفي أن اسم الإسلام مشتق من السلم والسلام، والإيمان من الأمن والأمان، وأعلى الدرجات في الإسلام هو الإحسان ومعناه مع الله تعالى أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان مع الناس أن تقابل الخير بأحسن منه والشر بالخير، لقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: من الآية34و35)، وعليه فالأصل في كل مسلم أن يُسهم بقوة في صناعة السلم الاجتماعي، وقد بدأنا بعد الثورة أول ندوات مركز "بناء لصناعة العلماء" بندوة كبيرة في قاعة المؤتمرات الكبرى بالأزهر الشريف يوم 1/2/2012م بعنوان: "دور العلماء والدعاة في صناعة السلم الاجتماعي" وقد حضرها فوق الألفين من العلماء والدعاة، وقد كانت المحاور ثلاثة عن: دور العلماء والدعاة في صناعة السلم الاجتماعي بين الإسلاميين أولا، ثم مع العلمانيين ثانيا، ثم مع المسيحيين ثالثا، وقد حاضر فيها أقطاب العلم والدعوة منهم أ.د.يوسف القرضاوي، وأ.د.عمر عبد الكافي، وأ.د.عدنان زرزور، ولازلنا نحتاج في كل بلد عربي واسلامي إلى من يُلِّح على هذه المعاني في مواجهة حملة التهييج والتحريش التي تنفق عليها القوى المعادية للإسلام والمسلمين والعرب والمستعربين ليس مئات الملايين، بل مئات المليارت لتفخيخ الصراع، وإنهاك البلاد وإغراق العباد في شلالات الدم، وهؤلاء جميعا يجب أن يُذكَّروا مرة ومرات، في حملة واسعة النطاق، إلى الشعب المصري والعربي والإسلامي يقوم بها العلماء والدعاة والمفكرون والصحفيون والممثلون والمغنون والمنشدون، ويجب أن نبدأ حملة قوية وقائية سريعة وعاجلة تحمل العناوين: "إني أنا أخوك"، و"يدا واحدة ضد الصهاينة المحتلين"، و"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، و"الراحمون يرحمهم الرحمن"، و"الفتنة نائمة ملعون من أيقظها"، و"السلم بيننا فرض عين"، و"حرب الصهاينة فرض عين"، ويجب أن نبين للجميع أنه لا يجوز أن نعكس سلاحنا نحو صدورنا، وأن نرتد على أعقابنا (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) (الأنعام: من الآية71)، وهؤلاء يجب أن يبقى لهم (أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا) (الأنعام: من الآية71)، حتى لا نكون كما قالت العرب: "إحدى يداي لطمتني"، أو كما قال طرفة بن العبد:
 
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة                على المرء من وقع الحسام المهند
 
ولكن عندما يتحول الشقيق إلى صفيق، والصديق الحميم إلى عدو لدود، ويُجيَّش الشعب ضد بعضه، ويُحرَّض الجار على جاره، وتخرج السيوف من أغمادها لتُغمَز - حادة شديدة - في صدور الابن والأخ والعم والخال وذوي القربي والأرحام والجيران فهناك الجديد من الأحكام، ولا يجوز أن يُعَامل اللئام بما يُعَامل به الكرام، لأن لكل حالة حكمها، وقد كره الإمام مالك - في زمانه - أن يتخذ الإنسان في بيته كلب حراسة إلا لضرورة، ولما جاء زمان السطو والسلب والنهب تغير رأي علماء المالكية إلى جواز ذلك، ولما سئل أحد كبار علماء المالكية: لماذا غيَّرتم الفتوى وعدلتم عن مذهب مالك؟! فقال الإمام المالكي الهمام الواعي بتغير ظروف الزمان والمكان: لو عاش مالك إلى زمانكم لاتخذ أسدًا ضاريا، وقال العلماء يُستحدث للناس من الأقضية على قدر ما يستحدثون من المفاسد، وأحكام البغاة في الإسلام لا تخفى على مبتدئ في الفقه الإسلامي، وعليه فيجب أن نبذل قصارى جهدنا في منع الشر قبل وقوعه، والتضييق على الشر قبل اتساعه، وأن نبدأ حكومة وأحزابا وجماعات وأفرادا هذه الحملة القوية في الدعوة إلى السلم الاجتماعي، وتوجيه سلاحنا نحو العدو الخارجي الحقيقي الصهيوني المعتدي، فإن بقي المرء مدفوعا بالشر والبغي أو مدفوعا له من الصهاينة وعملائهم من بعض دول الخليج الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وتيقَّنا أن هؤلاء يدفعون البلاد إلى فتنة لا يعلم مداها إلا الله فيوجب القرآن هنا ألا ننتظر حتى تقع الفتنة، فندرك ذيلها فنقطعه، بل نخمد رأسها فندفنها، لقوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال: 58)، والحزم هنا أوجب من العفو، ولا يجوز الدخول في فتنة التكفير لأحد لأننا ندفع الصائل المعتدي للضرورة ولو كان مسلما، وتكفينا آية الحجرات في قوله تعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9)، ومع حدوث القتل دفعًا للبغي يجب أن يعود القوم إلى صناعة السلم الاجتماعي بعد نزوة الشر وهي طارئة؛ لنعود إلى فطرة الخير وهي دائمة وفي هذا يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10).
 
وننصح الرئاسة والقيادة في كل بلد عربي بأن يراجعوا ما قاله الماوردي بأن: "من واجبات الحاكم أن يُنْفذ الأحكام بين المتشاجرين، وأن يقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعم النصَفة فلا يعتدي ظالم، ولا يضعف مظلوم، وأن يحمي البيضة، ويذبَّ عن الحريم حتى يتصرف الناس في المعايش ، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال، وأن يقيم الحقوق لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق العباد من إتلاف واستهلاك"، فإن لم يفعل الحكام والقادة فلا مناص من أن يحمي كل إنسان عرضه وماله بيده للحديث الذي رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ : يا رسولَ اللَّهِ ! أرأيتَ إن جاءَ رجلٌ يريدُ أخذَمالي ؟ قالَ: فلا تُعطِهِ مالَكَ، قالَ أرأيتَ إن قاتَلَني قالَ: قاتِلهُ، قالَ: أرأيتَ إن قتَلَني، قالَ: فأنتَ شهيدٌ، قالَ: أرأيتَ إن قَتلتُهُ ؟ قالَ: هوَ في النَّارِ " .
وعليه فكن صانع السلام فريضة وقاعدة، فإن لم يستجب أخوك فلا مناص من دفعه بما يمنع من الاعتداء حقا واستثناء.
 
يا قوم سارعوا نحو صناعة السلم الاجتماعي فريضة، فإن اضررتم إلى رد الباغي فافعلوه ضرورة، ووفروا سلاحكم يا سادة لتحرير الأسرى والأقصى والقدس وفلسطين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين