المعتصم بالله العباسي

 

 

 

 

بقلم : محمد زاهد أبوغدة

 

 
حدث في العاشر من شعبان
في العاشر من شعبان من سنة 180 ولد المعتصم ابن هارون الرشيد، واسمه محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ولقبه أبو إسحاق، وسيكون ثامن خلفاء بني عباس وأكثرهم شجاعة وخوضاً للحروب، ومن أعظمهم هيبة.
 
ولد المعتصم في قصر الخُلد ببغداد، وأمه أم ولد من مولدات الكوفة اسمها ماردة، توفيت دون أن تدرك خلافته، وهو الولد الرابع للخليفة هارون الرشيد من بين اثني عشر ابناً، وكلهم - باستثناء الأمين - لأمهات أولاد، وفيهم أكثر من واحد يسمى محمداً.
 
وكان هارون الرشيد رحمه الله حريصاً على تعليم أولاده في كُتَّاب في قصره، ويدرس معهم فيه بعض أبناء الحاشية، وكان مع المعتصم غلام في الكُتَّاب يتعلم معه، فمات الغلام فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك؟ قال: نعم يا سيدي، واستراح من الكتاب! فأدركت الشفقة الرشيد وقال: وإن الكُّتاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟! دعوه إلى حيث انتهى، ولا تعلموه شيئاً. فكان المعتصم لذلك يكتب كتابة ضعيفة ويقرأ قراءة ضعيفة.
 
وتوفي هارون الرشيد بطوس سنة 193، وهي اليوم مشهد في إيران، وخلفه بعهد منه ابنه محمد الأمين على أن يليه أخوه عبد الله المأمون، وجعل الرشيد ابنه القاسم ولقبه المؤتمن، وليَّ العهد بعد المأمون، وجعل أمر استقراره وعزله إلى المأمون إن شاء استمر به وإن شاء عزله.
 
ووقع الخُلف بين الأمين وبين المامون، وانتهى بمقتل الأمين واستتباب الأمر للمأمون في أول سنة 198، وفي سنة 213 تمرد أهل الحوف في مصر واتسعت ثورتهم، فولى المأمون أخاه المعتصم الشام ومصر، وصارت إليه تولية أمرائها وقضاتها، فسار المعتصم إلى مصر، وعزل أميرها عيسى بن يزيد الجلودي، ومكث فيها بضعة أشهر حتى قمع التمرد واستتبت الأمور، وولى المعتصم في سنة 216 عيسى بن منصور الرافقي على مصر، وتسبب سوء إدارته في حدوث ثورة عامة من العرب والقبط، لم تنته إلا بقدوم المأمون إلى مصر في أول سنة 217 وعزله لعيسى بن منصور، وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك: حمَّلتم الناس مالا يطيقون، وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد!
 
وكان المعتصم ذا انكباب على الجندية وإعداد القوى، وينفق أمواله في جمع الرجال وابتياع الغلمان، وكان العباس بن المأمون مشغولاً بإتخاذ الضياع، فكان المأمون كلما نظر إلى المعتصم تمثل:
 
يبني الرجال وغيره يبني القُرى ... شتان بين مَزارع ورجال
 
قلِقٌ بكثرة ماله وسلاحه ... حتى يفرًّقه على الأبطال
 
وكان المأمون يعتمد على أخيه المعتصم في الجيوش والغارات، ففي سنة 216 هاجم البيزنطيون طرسوس والمصيصة على حدود الدولة الإسلامية، فسار المأمون بنفسه حتى دخل الأراضي البيزنطية، وأرسل أخاه المعتصم في العمق البيزنطي فشن أكثر من 30 غارة ورجع ظافراً.
 
واستمر المأمون في الخلافة 20 سنة إلى أن توفي، عن 47 عاماً، وهو يغزو الروم في رجب سنة 218، ودفن في طرسوس، في جنوبي تركية اليوم، فتلاه بعهد منه أخوه المعتصم بالله، وهو بذلك أول خليفة أضاف اسم الجلالة إلى لقبه، وكان المعتصم مع المأمون حين حضره الموت، فدعاه وأوصاه فقال: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتعملن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته. قال: نعم، قال: فأقِرَّ عبد الله بن طاهر على عمله، وإسحاق بن إبراهيم، فأشركه في ذلك، فإنه أهل له، وأهلَ بيتك، فالطف بهم، وبنو عمك من ولد علي بن أبي طالب، فأحسن صحبتهم، ولا تغفل عن صلتهم.
 
وهكذا تولى المعتصم الخلافة وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وكان المأمون لما قدم الثغر غازياً أراد أن يجعل فيه قاعدة حضرية للجيش الإسلامي، فشرع في بناء بلدة في مكان حصن يدعى الطُوانة، وبنى عليه سوراً قدر ميل في ميل، وأتى إليه بالسكان من البلاد، فكان أول ما عمله المعتصم أن أوقف هذا المشروع، وأعاد الناس إلى أوطانهم.
 
وقد واجه المعتصم في خلافته التي ستطول قرابة 8 سنوات تحديات كثيرة متتالية، كان أولها، وأهونها، عند بيعته، فقد شغب بعض الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون، وكان أميرَ والده على الجزيرة والثغور، فأرسل إليه المعتصم فأحضره فبايعه، ثم خرج العباس إلى الجند فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي. فسكتوا، وعاد المعتصم إلى بغداد ومعه العباس وزوجه بابنته ولكنه مات قبل أن يدخل بها.
 
واستناداً إلى اعتماده المتزايد على الأتراك، سرح المعتصم العسكر الموجود بمصر من العرب، وكتب إلى والي مصر نصر بن عبد الله، المعروف بكيدر، يأمر بإسقاط من في الديوان من العرب، وقطع أعطياتهم، ففعل ذلك كيدر، فخرج عليه يحيى بن الوزير الجروي في جمع من لخم وجذام، فحاربه مظفربن كيدر وهزمه في سنة 219.
 
ثم واجه المعتصم تمرداً آخر من الخُـرَّمية، وهم طائفة باطنية يقال لهم بالفارسية خرمدينية، يعني يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات وسائر وفعل ما يتلذذون به، وأشبهوا في هذه الإباحةِ المزدكيةَ من المجوس الذين خرجوا قبل الإسلام، وخرجت هذه الطائفة في أيام الرشيد واستمر عصيانهم إلى أيام المعتصم، حيث تجمعوا في أول خلافته واستولوا على منطقة كبيرة في شمال إيران وجنوبي أذربيجان، فوجه إليهم المعتصم العساكر، فأوقعت بهم في أعمال همذان، وقتل منهم ستين ألفاً وهرب الباقون إلى الدولة البيزنطية في الأناضول.
 
وفي سنة 219 ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالطالقان، وهي في جوزجان بأفغانستان، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ابتداء أمره أنه كان ملازماً لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم حسن السيرة، فأحبه خراساني وأعجبته طريقته، فقال له: أنت أحق بالإمامة من كل أحد، وحسَّن له ذلك وبايعه، ثم جاءه بالنفر بعد النفر من حجاج خراسان يبايعونه، فلما رضي بكثرة من بايعه من خراسان سارا جميعاً إلى الجوزجان، فعظُم أصحابه، وأظهر أمره بالطالقان، فوجه إليه والي خراسان عبدُ الله بن طاهر بعض عماله، فهرب إلى نيسابور حيث قبض، وتعلل بأن القوم اعتقلوه، وأنه لم يكن له في ذلك إرادة، فأرسله عبد الله بن طاهر إلى المعتصم، فحبسه في قصره ، ثم هرب من السجن فلم يعرف له خبر بعد ذلك.
 
قال المسعودي في مروج الذهب: وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزَّيدية إلى هذا الوقت - وهو سنة 323 - ومنهم خلق كثير يزعمون أن محمداً لم يمت، وأنه حي يرزق، وأنه يخرج فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وأنه مهديُّ هذه الأمة.
 
وفي نفس السنة وجه المعتصم قائده عجيف بن عنبسة لحرب الزُّط، وهم قوم سود البشرة سكنوا الأهواز، وكانوا قد غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا وأخذوا الغلات وأخافوا السبل، فسار عجيف حتى نزل واسط، فسدَّ المسالك المائية التي كانوا يخرجون منها ويدخلون، ثم استوطن عجيف منطقتهم وأقام بإزائهم ستة أشهر حتى استسلموا، وخرجوا إليه ، وكان عدتهم بالنساء والصبيان سبعة وعشرين ألفاً، المقاتلة منهم اثنا عشر ألفاً، فأدخلهم بغداد في موكب في سفنهم وهم ينفخون في البوقات، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت الروم عليهم فلم يُفلت منهم أحد.
 
توجه المعتصم لبناء جيش محترف دائم كثير العدد، وكانت الجيوش من قبل تقوم على قلة محترفة لا تزيد على ألوف ينضم إليها في حالة الحرب عدد كبير من المتطوعة ومن التابعين المساندين، فجنَّد المعتصم الأتراك من أواسط آسيا من سمرقند وفرغانة، وسماهم الفراغنة، واصطنع قوماً من اهل الحوف بمصر، وسماهم المغاربة، وجعل لجيشه زياً عسكرياً فيه الديباج والنطاقات المذهبة، فصار جيشه الخاص المتمركز في بغداد بضعة عشر ألفاً، وبلغ عدد دوابِّه مابين فرس وبرذون وبغل 50.000 دابة، فكثروا في بغداد حتى ضاقت بهم، وكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس، ولما خرج المعتصم إلى العيد في سنة 220 قام إليه شيخ من أهل بغداد، فقال له: يا أبا إسحاق، لا جزاك الله عن الجوار خيراً، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك، فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا، إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك! قال: وكيف تحاربونني؟ قالوا: بسهام الأسحار، قال: لا طاقة لي بذلك! فلم يُرَ المعتصم راكباً بعدها أبداً، بل صلى العيد وسار إلى ناحية القاطول، وأمر ببناء مدينة جديدة تضم عسكره بعيداً عن بغداد، فكانت خشيته من دعاء أهل بغداد عليه سببَ بنائه سر من رأى وتحوله إليها.
 
واختطَّ المعتصم المدينة، وكانت تسمى مدينة العسكر، وأقطع الناس المقاطع، وجدَّ في البناء حتى بنى الناسُ القصور والدور، وقامت الأسواق، وبنى على دجلة عدة قصور للقواد والكتاب وسماها بأسمائهم، وحفر الأنهار في شرقي دجلة وعمر العمارات، ونصبت الدواليب والدوالي على الأنهار، وحملت النخيل والغروس من سائر البلدان، وبني القرى، وحمل إليها الناس من كل بلد، وأمرهم أن يعمروا عمارة بلدهم، وحمل قوما من أرض مصر يعملون القراطيس، فعملوها، فلم يأت في تلك الجودة.
 
وكان من أولويات المعتصم حسم تمرد بابك الذي مضت عليه قرابة 20 سنة، فبدأ كأي قائد محنك بتوطيد عناصر النصر، فوجه أحد قواده إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، ففعل ذلك، ثم حقق ذلك القائد أول انتصار على قوات بابك عندما اعترض سرية له أغارت ورجعت، فظفر بهم في طريق العودة وقتل وأسر منهم، وبعث بالرؤوس والأسرى إلى المعتصم.
 
ثم قام محمد بن البعيث أحد الأمراء في أذربيجان، وكان مشايعاً لبابك، بالانتقال إلى طاعة المعتصم، وأعمل الحيلة حتى قبض على قائد من قواد بابك وسيره إلى المعتصم، فسأله عن بلاد بابك فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها، فأبقى عليه في الحبس، وفي سنة 220 عقد للقائد الأفشين حيدر بن كاووس راية الإمرة على الجبال الواقعة اليوم في شمال إيران، ووجهه لحرب بابك الخرمي فسار لذلك، والطرق والحصون مضبوطة، فالتقى مع بابك في وقعة عظيمة قتل فيها كثير من أصحاب بابك، وأُفلت هو في نفر يسير، واستمرت الحرب بينه وبين بابك المرة بعد المرة إلى سنة 222، حتى انجلت عن ظفر المسلمين، وهرب بابك ثم أُسر وأرسل إلى سامرا فقتله المعتصم، بعد أن قتل في عشرين سنة 255.500 إنسان.
 
كانت العلاقات بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية في تلك الفترة علاقة متوترة، فقد نقض الملك نقفور الهدنة في أيام هارون الرشيد الذي رد على ذلك بحملة عسكرية هزمت البيزنطيين وعادوا ثانية للهدنة، ثم نقضوها ثانية في عهد المأمون الذي توفي وهي على تخومهم، وعادوا ثالثة في زمن المعتصم حين شجعهم تمرد بابك الخُرمي الذي أرسل رسالة للإمبراطور توفيل Theophilus بأن أن المعتصم قد وجه عساكره إليه، وجميع مقاتلته ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنع، فهاجم زبطرة وملطية، فقتل من بها من الرجال، وسمل أعينهم وقطع أنوفهم وآذانهم، وسبى الذرية والنساء، ولكن فأله خاب لأن المعتصم هبَّ فشن حملة كبيرة بقيادته في سنة 223 استهدفت عمورية، فحاصرها حتى فتحها، ثم خربها وعاد ببابها إلى بغداد لينصبه على أحد أبواب دار الخلافة، وقد أفردت لهذا الحدث موضوعاً مستقلاً في أحداث رمضان.
 
وبعد موقعة عمورية حرّض عجيفُ بن عنبسة وجماعة معه العباسَ بن المأمون على أن ينقلب على عمه المعتصم، ولاموه أن لم يخرج عليه في أول الأمر، ووعدوه بالتأييد، فاستجاب لهم العباس، وانضم للمتمردين عدد كبير جداً من قادة الأتراك الطامعين في النفوذ والسلطة، وعاد الجيش وعلى رأسه المعتصم من عمورية إلى طرسوس، وأشار عجيف على العباس أن ينتهز فرصاً منحتهم إياها شجاعة المعتصم وإقدامه في خروجه وحده دون حراسة، ولكن العباس لم يرد أن يفسد الغزوة بالاتقضاض على عمه عقبها، بل تردد في اغتيال المعتصم في عدة مناسبات سنحت، ثم تسرب خبر المؤامرة للمعتصم الذي بادر بالقبض على العباس وعلى كبار المتآمرين، وقتل عجيف وسجن بقيتهم في ظروف سيئة جداً أدت إلى موتهم واحداً تلو الآخر.
 
وفي سنة 224 اندلع تمرد آخر جاء هذه المرة من قائد من قواد المعتصم، هو مازيار بن قارن، وكان منافراً لوالي خراسان عبد الله بن طاهر، وقال للمعتصم: لا أحمل الخراج إلا إليك، وكان المعتصم يتحمل ذلك منه ويأمر بأخذه من أصحاب مازيار بهمذان، ويسلمه لوكيل عبد الله بن طاهر، ولما ظفر الأفشين ببابك وعظُمَ محله طمع في ولاية خراسان، فراسل مازيار مشجعاً له على التمرد، وفي حسابه أن المعتصم سيرسله للقضاء على هذا التمرد ويعينه بطبيعة الحال والياً على خراسان، ولكن المعتصم طلب من عبد الله بن طاهر القضاء على تمرد مازيار، فأرسل جيشين أحدهما لمحاصرة مازيار والآخر تحوطاً لما قد يكون من هجماته، وأرسل المعتصم ثلاثة جيوش لمواجهة مازيار كذلك وللسيطرة على المنطقة، وانجلت الحملة عن هزيمة المازيار وأشياعه وعودة هذه المناطق الشاسعة إلى فلك الدولة العباسية، وأُسِرَ المازيار وأحيط بأمواله وذخائره، وأُرسِل إلى بغداد، وعرض المازيار على المعتصم أموالاً كثيرة يحملها إليه إن هو مَنَّ عليه بالبقاء، فأبى قبول ذلك، وتمثل:
 
إنَّ الأسود أسود الغيل همتها ... يوم الكريهة في المَسْلُوب لا السلب
 
وتتضارب كثير من الروايات بعد أن تتحدث عن أن المازيار كشف سر مراسلات الأفشين معه وتحريضه له، وأدى هذا إلى أن قبض المعتصم على الأفشين في سنة 225، وحقق معه، ثم أمر بسجنه حتى مات في الحبس سنة 226، فيقول بعض الروايات إنه ظهر نتيجة للتحقيق أن الأفشين كان يظهر الإسلام ويبطن المجوسية، ولكن الروايات التي تتوسع وتورد مجرى التحقيق، تظهر أن الأفشين أكد إسلامه، وبرر وجود بعض الكتب والأصنام بكونه من مخلفات الكفر التي احتفظ بها، ويعتبر ما جرى بسبب من الحسد والبغضاء التي أكنتها له الحاشية بسبب نجاحه وقربه من المعتصم، وعلى رأس هؤلاء القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وأنا أميل لهذا الاستنتاج على ضوء سابقة الرجل في القتال دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، وعلى ضوء بعض الروايات التي تذكر أن المازيار نفى ذلك، ولعل سبب سجن الأفشين هو أن أخا زوجته وخليفته بأذربيجان خرج عن الطاعة وقتل أولياء المعتصم في المنطقة، ثم تبين للمعتصم أنه إنما خرج بأمر الأفشين وربما لذات الغرض الذي سبق ذكره، وهو أن يصبح والياً على خراسان بدلاً من عبد الله بن طاهر.
 
وقد يحلو لبعض الناس أن يصور الأمر تدبيراً من المعتصم العربي للقضاء على النفوذ التركي، وهو أمر لا يجد الباحث له أثراً في ثنايا كتب التاريخ التي تناولت تاريخ هذه الحقبة، فقد كان الإسلام محورها بعيداً عن العصبيات والجاهلية، ويكفي للرد على هذا أن نذكر أن قائداً تركياً آخر هو أشناس حل محل الأفشين، وأنه لما حجّ سنة 226 جعل المعتصم إليه ولاية كل بلد يدخله، فخُطِبَ له على منابر مكة والمدينة وغيرها من البلاد التي اجتاز بها إلى مدينة سامرا، وتوفي أشناس سنة 230 في أيام الواثق معززاً مكرماً. ولكن المعتصم أدخل إلى جانب العرب والفرس عنصراً جديداً على الدولة الإسلامية هو العنصر التركي، الذي بلغ أوج نفوذه في زمن الدولة السلجوقية وكان يتبع المذهب السني، بعكس العنصر الفارسي الذي مثلته الدولة البويهية وكان يغلب عليه التشيع.
 
ويناسب هنا، وقد تحدثنا عن القادة الذين اصطنعهم المعتصم، أن نورد ما حدث به إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان قائد شرطة بغداد وبمثابة واليها، قال: قال لي المعتصم: يا إسحاق إن في قلبي أمراً أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما باسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك؛ فقلت: قل يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك. قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحدٌ منهم؛ قلت: ومن الذين اصطنعهم المأمون؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيتَ وسمعت، وابنه عبد الله بن طاهر، فهوالرجل الذي لم يُرَّ مثله، وأنت، فأنت والله الرجل الذي لا يعتاض السلطان عنك أبداً، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصطنعت الأفشين، فقد رأيتَ إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل، وإيتاخ فلا شيء، ووصيفاً فلا مغنى فيه؛ فقلت: يا أميرَ المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيبُ على أمانٍ من غضبك؟ قال: نعم! قلت له: يا أمير المؤمنين، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعُها، واستعمل أمير المؤمنين فروعاً فلم تنجب إذ لا أصول لها. فقال: يا أبا إسحاق، لمقاساة ما مر بي طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.
 
والحقيقة أن المعتصم لم يكن كذلك موفقاً في وزرائه، فقد كان أول وزير له الفضل بن مروان، وكان كاتبه قبل الخلافة، وكان رديء السيرة جهولاً بالأمور، لم يقدِّر الفرق بين المعتصم في إمارته وبينه في خلافته، فنكبه المعتصم واستصفى ماله في سنة 220، واستوزر بعده أحمد بن عمار، وكان رجلاً موسراً محسناً، ولكنه طحان في الأصل لا خبرة له بآداب الوزارة، فمكث مدة حتى تبين للمعتصم جهله، فصرفه صرفاً جميلاً واستوزر محمد بن عبد الملك الزيات، وكان متأدباً ذكياً برع في كل شيء حتى صار نادرة وقته عقلاً وفهماً وذكاءً وكتابةً وشعراً وأدباً وخبرة بآداب الرياسة وقواعد الملوك، ونهض بأعباء الوزارة نهوضاً لم يكن لمن تقدمه من أمثاله، ولكنه كان جباراً متكبراً فظاً غليظ القلب خشن الجانب مبغضاً إلى الخلق، وكانت نهايته أن قتله في سنة 233 المتوكل ابن المعتصم حنقاً من تكبره عليه وهو أمير، قيل إن ابن الزيات عمل تنوراً من حديد ومساميره إلى داخل ليعذب به من يريد عذابه، فكان هو أول من جُعل فيه، وقيل له: ذق ما كنت تذيق الناس .
 
وواجه المعتصم في سنة 227 وهو على فراش الموت تمرداً في المشرق، حين خرج عليه في فلسطين المبرقع أبو حرب اليماني، وكان سبب خروجه أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب، فمنعه بعض نسائه فضربها الجندي بسوط فأصاب ذراعها، فلما رجع أبو حرب إلى داره اشتكت إليه ما فعل بها الجندي، فقتله أبو حرب وهرب وتبرقع، وقصد بعض جبال الأردن فأقام به، وكان يظهر بالنهار متبرقعاً فإذا جاءه أحد أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، ويذكر الخليفة ويعيبه فاستجاب إليه قوم من فلاحي تلك الناحية، فلما كثر أتباعه من هذه الطبقة، دعا أهل البيوتات فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية، ورجلان من أهل دمشق، فاتصل خبره بالمعتصم في مرضه، فسير لحربه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء ألف رجل من الجند فرآه في عالم كثير يبلغون مئة ألف رجل، فكره رجاء مواقعته وعسكر في مقابلته، حتى كان أوان الزراعة وعمل الأرضين فانصرف من كان مع المبرقع إلى عملهم، وبقي في زهاء ألف أو ألفين، فواجهه وأسره وقضي على الفتنة، وتم ذلك بعد وفاة المعتصم.
 
قال الإمام الذهبي: كان المعتصم من أعظم الخلفاء وأهيبهم لولا ما شانَ سؤدَدَه بامتحان العلماء بخلق القرآن. وذلك إن المعتصم على كونه عرياً من العلم، وقع تحت تأثير القاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المعتزلي، المولود سنة 160 والمتوفى سنة 240، وكان شديد الدهاء، فصيحاً عارفاً بالمنطق والكلام، وهو رأس فتنة القول بخلق القرآن، اتصل أولا بالمأمون، فلما قرب موته أوصى به أخاه المعتصم، فجعله قاضي قضاته، وجعل يستشيره في أمور الدولة كلها، فسلك المعتصم ما كان المأمون عليه من امتحان الناس بخلق القرآن، فكتب إلى البلاد بذلك، وأمر المعلمين أن يعلموا الصبيان ذلك، وقاسى الناس منه مشقة في ذلك، وضرب عليه الإمام أحمد بن حنبل في سنة 220، ضرباً شديداً حتى غاب عقله، وتقطع جلده وحبس مقيداً.
 
ولما مات المعتصم في 19 ربيع الأول سنة 227، بعد خلافة حافلة بالجهاد ذلل فيها أعداء الإسلام، يقال إنه قال في مرض موته الآية الكريمة من سورة الأنعام: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾، ولما احتُضِر جعل يقول: ذهبت الحيلة فليس حيلة! اللهم إنك تعلم أني أخافك من قِبَلي، ولا أخافك من قِبَلِك، وأرجوك من قِبَلِك، ولا أرجوك من قِبَلي.
 
وخلف المعتصم من الولد الذكور ستة، صار اثنان منهم خلفاء، وتولى بعده بعهد منه ابنه هارون الواثق بالله المولود سنة 196، فرثاه وزيره محمد بن عبد الملك جامعاً بين العزاء والهناء فقال:
 
قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين
 
اذهب فنعم الحفيظ كنت على ال ... دنيا ونعم الظهير للدين
 
ما يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
 
وكان المعتصم، وإن لم يتابع الدراسة، حكيماً فطناً، وكان إذا تكلم بلغ ما أراد وزاد عليه، قال: إذا نُصِرَ الهوى بَطَل الرأي. وكان يقول: من طلب الحق بما له وعليه؛ أدركه. وكتب ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتهدده فيه فأمر بجوابه فلما قرئ عليه الجواب لم يرضه، قال للكاتب اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فقد قرأتُ كتابك وسمعتُ خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عُقبى الدار. بل كان المعتصم يقرض الشعر في الغزل أو الفخر، وشعره لا بأس به. وكان أبو تمام الطائي حبيب بن اوس من شعرائه، وقد خلّد فتحه لعمورية بقصيدته البائية المشهورة:
 
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
 
كان المعتصم شديد القوة، قيل إنه كان يرفع بيده ألف رطل ويمشي بها خطوات، وانصرف يوماً وهو امير من دار المأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظماً بالخيم فيها الجند، فمر المعتصم بامرأة تبكي وتقول: ابني ابني، وإذا بعض الجند قد أخذ ابنها، فدعاه المعتصم وأمره أن يرد ابنها عليها، فأبى فاستدناه فدنى منه، فقبض عليه بيده فسُمِعَ صوتُ عظامه، ثم أطلقه من يده فسقط، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه.
 
وكان المعتصم بعيد النظر واسع الأفق، شجاع الهمة، عزم قبل وفاته على المسير إلى الأندلس لينتزعها من الأمويين، قال وزيره أحمد بن الخصيب: قال لي المعتصم: إن بني أمية ملكوا وما لأحد منا مُلك، ومَلَكنا نحن ولهم بالأندلس هذا الأموي، فقدِّر ما يُحتاج إليه لمحاربته. وشرع في ذلك فاشتدت علته ومات.
 
وكان المعتصم يحب العمارة، ويقول: إن فيها أموراً محمودة، فأولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، وكان يقول لوزيره: إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهماً فلا تؤامرني فيه.
 
ومن أخبار المعتصم الدالة على مروءته ومكارم أخلاقه أنه بينما هو يسير وحده منفرداً عن أصحابه إذ مر بشيخ معه حمار عليه شوك، وقد زلق الحمار من المطر وسقط حمله، فسأله المعتصم عن حاله، فأخبره أنه ينتظر من يعينه على رفع الشوك على ظهر الحمار، فنزل المعتصم عن دابته وخلص الحمار من الوحل، ورفع عليه الحمل، والشيخ يقول: بأبي أنت وأمي لا تهلك ثيابك، فيقول: لا عليك. ثم غسل يديه وركب، فقال له الشيخ: غفر الله لك يا شاب. ثم لحقه أصحابه فأمر للشيخ بأربعة آلاف درهم، ووكل به من يوصله إلى بيته.
 
وقال ابن أبي دؤاد: تصدق المعتصم ووهب على يدي مئة ألف ألف درهم. هذا على يد رجل واحد فما ظنك بغيره!!
 
وامعتصماه!


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين