الشيخ الشاب - ذكريات مع الشيخ محمد بهجة البيطار
الشيخ الشاب
للأستاذ : حسني كنعان
في أمسية من أمسيات العزاء التي أقيمت بالمزة على إثر أفول الكوكب العلمي صديقنا المرحوم عز الدين علم الدين , يمَّمت وجهي شطر المساكن الشعبية مع صديقي السيد فيصل الشطي للقيام بواجب التعزية , وفضلنا يوم إذٍ أن تكون رحلتنا مشياً على الأقدام استئثاراً لرحلة المسير في هذه الطريق التي يخالها المارُّ فيها جنة من الجنان لما تحويه من مناظر خلابة , وأنهار منسابة وورود ورياحين منتشرة على الجنبات , ثم استزادة في كسب الأجر والثواب، وكان المؤذن يؤذن لصلاة المغرب عند وصولنا إلى المزة، غشينا المسجد وأدينا الفريضة ، ولما رأيت صاحبي أبطأ بالسنَّة سبقته لأتخفف، فعدت فلم أجده، فأخذت أطوف المسجد وأخرج منه وأجوص وألوص داخله وخارجه، وعبثاً حاولت الوصول إليه، وكنت بهذه الحركة بالذهاب والإياب موضع ريبة بائعي الفواكه المجاورين للمسجد، ولما شعرت أنهم راقبوني مراقبة من يخشون منه السطو على كمية من الطلح المنضود (أعني الموز) أو كمية من الأنجاص والتفاح خشيت العاقبة، وفضلت أن اذهب للعزاء بمفردي آملاً أن ألقاه، وإنما لقيت من أصدقائي الفضلاء من هو أفضل مني ومنه.
ذلك هو أستاذنا العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار, وكان بجانبه فرجة فقطنتها، وكان قراء الشام المشهورون الشيخ درويش، طالب والشيخ سمور، والشيخ عربي القباني يتبارون بالقراءة، ويحبرونها تحبيراً، وفي النهاية طلبوا من أستاذنا بهجة البيطار الدعاء، فدعا للفقيد دعوات صالحات، وابتهل إليه تعالى أن يسكنه فسيح جناته ويغمره برحمته ورضوانه، ثم قال مواسياً: لما نزلت الآية الكريمة:
(كل نفس ذائقة الموت) قالت الملائكة: نحن ليس لنا من أنفس، وهذه الآية يُراد بها غيرنا.
ولما نزلت الآية الثانية: (كل من عليها فان) قالت الملائكة: نحن لسنا عليها، ويقصد بهذه الآية غيرنا، ولما نزلت آية: (كل شيء هالك إلا وجهه) قالت الملائكة: هلكنا ورب الكعبة، فما دام يا أولادي الملائكة والرسل وجميع الخلق فان لم يبق بهذا الكون سوى رب الأرباب الله الواحد القهار، فجميعنا مآلنا إلى الفناء، فطوبى لمن فارق هذه الدنيا، وخلف خلفاً مثلكم، وترك أثراً علمياً كوالدكم فهو لا شك بقرب عند الله ومشمول برحمته، فكانت هذه الكلمة أفرغت في قلوب أبناء الفقيد الصبر والسلوان وحسن العزاء.
ثم استأذن الشيخ للانصراف مودِّعاً, وضغط على يدي، فأدركت أنه يريد اصطحابي بطريقه إلى موقف السيارات، فسلك بي جادة لم أرها قبل تلك الليلة مع كثرة تسياري بهذه الطرقات في نزهاتي الصباحية، وكانت الجادة التي سلكناها عريضة معبَّدة، وصنوف شجيرات الورد والقرنفل من جانب الرصيفين تعطر الجادة، ومن عادة الأستاذ إذا استرسل في حديثه أن يستولي على السائرين في ركابه ويستحوذ على قلوبهم بهذا السلسل العذب الذي يخرج من فيه، فأخذ يقصُ عليّ قصة رحلته النجدية الحجازية، وفيها صور من حياة البادية يرجع تاريخ هذه الرحلة إلى سنة ألف وثلاثمائة وثلاثين هجرية، وألف وتسعمائة وعشرين ميلادية فقال فيما قاله:
لما انقضى عهد الحكم التركي، وحلّ محله الحكومة العربية ترأسها الأمير فيصل قبل أن يصير ملكاً، فاستقدم من مصر الشيخ  محمد رشيد رضا؛ ليستعين به في الشؤون العربية والإسلامية، واعتزما إرسال كتابين باسمهما مع رسولين أمينين يبلغان رسالتيهما شفهياً وكتابة إلى الأمير عبد العزيز آل سعود أمير نجد قبل أن يكون ملكاً يدعوان فيها إلى نصرة الاسلام، وعقد اتفاق عام بين جميع أمراء الجزيرة العربية دفعاً للعدوان الأجنبي، فانتدبت وصديقي الأخ شالاش النجدي للقيام بهذه المهمة، ولقينا في طريقنا من الأهوال ما تشيب من هوله الأطفال من تعب وسغب وخوف ونهب وسلب ومشي على الأقدام، فاحتسبنا ذلك عند الله، ووصف لي كيف هجم عليهم أشقياء العرب ونزعوا عنه وعن جماعته ملابسهم وعروهم من الثياب، وأخذوا ما معهم من دراهم وسلبوا منه أربعين جنيهاً عثمانياً ذهباً، وحاولوا قتله بالمدى، ثم استعطف اللصوص قائلاً لهم:
هذه أول مرة حلنا فيها أرضكم يا بني عطية، وكنا نظن أن إيقافكم للقطار بهذه السرعة من أجل إكرامنا، وإنزالنا ضيوفاً عندكم، كما هي عادة العرب الكرماء، ولكنكم أوسعتمونا سلباً ونهباً، وإهانة وسبّا، فخيَّبتم رجاءنا فيكم، وتركتمونا لا زاد ولا طعام ولا نقود، وبيننا وبين الجهات التي نقصدها أيام، فأين الكرم والإباء والشَّمم، أهذه هي عادة العرب الكرام؟ ألا وإنكم ستندمون على ما فعلتم بنا، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، ولكن أولئك السفهاء الجهَّال، كانوا من الذين يعبدون الدرهم والدينار. فلم يردوا إليَّ غير الجبة والزنار!
وقال فيما قاله: إن جميع من كانوا في القطار نكبوا أكثر من نكبتي، وأوذوا أكثر من إيذائي، فيا لله من هؤلاء اللئام ما أفسد ودهم, وما أنقض عهدهم , وما أشد غدرهم وكيدهم , وكان الأستاذ قد أخذ منه الإعياء مأخذه , وظهر عليهم التعب لطول المسير في هذه الجادة التي سلكناها ,فقلت مداعباً : أرأيتك يا أستاذ هذه الجادة التي أتمتنا على السير ما أبعد مداها , وأخشى ما أخشاه أن نضل فيها الطريق وأن يكون ضلالنا امتداداً من ضلالات الرحلة الحجازية التي ذكرتها , ومن الغريب أننا لا نرى فيها إلا سيارات مسرعة بذهابها وإيابها سرعة الصواريخ الموجهة , كما أننا لم نسمع فيها لا باغماً ولا صادحاً، فكأننا في أرض قفراء بلقع , فدهش الأستاذ من دعابتى وقال : ألا تعرف هذه الجادة ؟
_لا أعرفها طبعاً ........
_ وأنا لا أعرفها , وقد ارتكنت عليك وظننت أنك تعرفها، وهنا أردت أن أُرفِّه عنه وأنسيه مأساة التعب الذي عانيناه في مسيرنا ليلتئذٍ، وكانت تتراءى لنا عن بعد بناية ضخمة منبعثة أنوارها كأنها شعلة من لهب، وكنا نظن أنها من المساكن الشعبية فنأنس بها مؤملين الوصول إليها ظناً بأن هناك موقفاً للسيارات فقلت: شأني معك هذه الليلة شأن الإمام العبد الشاعر مع صديقه الشيخ سيد درويش , فقال: لعله هذا المزيكاتي الشهير , قلت: أجل هذا هو بعينه تتلخص قصتهما أنهما دخلا منتزهاً من منتزهات ظهور الشوير , وكان فيه من المناظر ما يخلب العقول شلالات منسكبة من الأعالي , وفوارات متدفقة وسواقي كأن مياهها لجين , فطلبا من الندل إحضار المأكولات والمشروبات الروحية , فأصابا منها ما أصابا , ثم طلبا بالنهاية من الندل إحضار ورقة الحساب فنبذها على المنضدة , وإذا بالطلب مقداره ليرتان عثمانيتان , فقال السيد لصاحبه : إدفع من جيبك المبلغ , وأنا أحاسبك فأجابه : بل إدفع أنت وأنا أحاسبك , فأخذ كل واحد منهما يلوم صاحبه على خطيئة إنفاقهما في تلك الليلة عن سعة , وجيوبهما خلو من الدراهم , وأخيراً فتقت الحيلة للسيد درويش أن يطلب عوداً , ويعزف به ويُغنِّي بصوته الرخيم , فتجمَّع حوله رواد المتنزه، ثم ذاع خبر وجوده في بقية المتنزهات المجاورة، وأخذوا يلهون ويطربون من سماع صوته وألحانه، فما كان من صاحب المقهى إلا أن سارع إلى حصيلة يومه من الدراهم، وأخرجها من صندوقه، وصبَّها في حضن السيد درويش، طالباً منه أن يحي الليلة في ملهاه، فنحَّى عوده جانباً، ثم تناول من المبلغ الملقى في حضنه ليرتين، ودفعهما إلى صاحب المقهى قائلاً: أنا رجل فنان، قد ساقني الله إلى هذا المكان صدفة فلو دفعت لي أضعاف هذا المبلغ مضاعفة لما قبلت عرضك هذا، فالصدف هي التي أوضعتني مع صاحبي في هذا الموقف الحرج، ثم ودع صاحب المقهى وسامعيه، ومضى بطريقه لا يلوي على شيء... فسُّر شيخنا من هذا الحديث وقال: أتعرف الدور الذي غناه السيد درويش؟. قلت: أجل، وأعرف أكثر ألحانه لأنه نابغة عصره في فن الموسيقى وجميع ما تراه الآن في الأوساط الفنية هو من ثمار مدرسته، وهو أستاذ محمد عبد الوهاب وسائر موسيقي هذا العصر، وعاش ثلاثة وثلاثين عاماً فقط، ملأ الدنيا ألحاناً وأغاريد، ثم أسمعته دور «أنا هويت» وانتهيت من مقام الحجاز كار كردي، فطرب شيخنا مما سمع وقال: حقاً إنه كما ذكرت... والشاعر إمام العبد ألا تعرف عنه شيئاً...؟
-ـ أعرف أنه كان منافساً لحافظ إبراهيم، وله أشعار شبيهة بأشعاره، وكان أسود اللون لم يتزوج، فسأله صاحبه شاعر القطرين خليل مطران عن سبب عزوفه عن الزواج، فأجابه شعراً:
يا خليلي وأنت خير خليل             لا تلم راهباً بغير دليل
أنا ليل وكل حسناء شمس           واجتماعي بها من المستحيل
ــ قصتك طريفة وممتعة يا سيد حسني، لا شك أنك تعني أن كلاً منا ألقى التبعة على صاحبه لعدم معرفته هذه الجادة، كما أن السيد درويش وصديقه الشاعر كل منهما ركن إلى صاحبه أنه يحمل دراهم، وكثيراً ما تقع مثل هذه الخطيئات بين الأصدقاء فلا بأس إن شئت عدنا من حيث أتينا لنسلك طريقاً أقرب إلى موقف السيارات من هذا الطريق.
يا أستاذنا ما مضى من مسافة الطريق أكثر بكثير مما هو آت، فسر على بركات الله، وهنا تابعنا سيرنا وكنا نهتدي بأضواء البناية الكبيرة التي كانت تتراقص أمامنا مصابيحها عن بعد، ثم تابع شيخنا حديثه عن الرحلة الحجازية النجدية، وكيف أنه عرف المرحوم عبد العزيز آل سعود، وتوشجت أواصر الصداقة بينهما، وأخذ يطري لي المليك الراحل، ويصف لي شجاعته ووفاءه لمن عرفه، فقلت في نفسي: ولأمر ما أطلق شيخنا على أحد أنجاله اسم عبد العزيز، وكنا قد وصلنا إلى البناية الضخمة ذات الأنوار المشعة، فتبيناها عن قرب، فإذا هي المدينة الجامعية فضرب شيخنا بجيبه على ساعته، ونظر إليها فإذا بالمدة التي قطعناها تعدل ساعة ونصف الساعة، فوقف أمامنا سائق سيارة صغيرة وقال بيده على الشام.
فقلت: على الشام وأبيها فتسلق الشيخ السيارة وتهافت على مقعدها فقفوت أثره، وصنعت صنيعه، وبعد لحظات وقفت بنا السيارة في منحدر التكية السليمانية، فودعته وانصرفت، ثم تابع سيره إلى الميدان.
فندَّ النوم عن جفني ليلتئذٍ خشيه أن يكون صاحبي ناله أذى من جراء هذه المسيرة الليلية، وكتمت ذلك عن كل مخلوق خشية الملامة والمسؤولية، وفي اليوم التالي سألت صديقي فيصلاً عن سبب غيابه ليلة العزاء؟ فقال: خرجت من المسجد باحثاً عنك فلم أجدك، وأنا لا أعرف دار المرحوم لأذهب إليها ، فقفلت راجعاً كما أتيت مشياً على الأقدام، وإذا بي ضللت طريقي بهذه الشوارع المفتحة هنا وهناك ما بين دمشق والمزة، وبعد ساعتين وجدت نفسي أمام مشفى المجتهد، فدعوت عليك أن تضل ضلالتي وتتعب تعبي.
لقد استجيبت دعوتك يا صديقي وأصاب رشاشها صديقاً عزيزاً عليك، وعلى والدك المرحوم، وهو أستاذنا الشيخ بهجت، فندم على إفراطه بالدعوة ولام نفسه، ثم بقيت كاتماً هذه القصة مدة من الزمن، حتى أعثرني الله على شيخنا في منحنى من منحيات سوق الحميدية، وسلمت عليه سلاماً حاراً، فسألني مستغرباً إفراطي، فقصصت عليه قصتي، فضحك كثيراً، وقال: لا تخف يا شيخ حسني، فأنا شاب أكثر منك، وإن شئت راهنتك على المسير مشياً إلى دوما، أو الكسوة، فأنا لا أشكو شيئاً سوى ضعف في ذاكرتي، وقصّ عليّ قصة طريفة حول هذا الموضوع، فقال: خرجت ليلاً من بيت أحد أقاربي، وضللت طريق داري، وتعبت كثيراً من السير في الأزقة الضيقة والأحياء المهجورة في حيّنا دون أن أهتدي إلى داري، وأخيراً عثرت على كوكبة من الصبية الصغار يلعبون في إحدى الحارات، فقلت لهم: يا أولاد من يعرف منكم دار الشيخ بهجت البيطار؟، فانتبذ أحدهم وكان ذكي الفؤاد أصيل الشمائل فقال: أنا أعرفها، فنفحته ربع ليرة سورية ليوصلني إلى داري، فواكبني وسار بي إلى الدار، ولما فتحت الباب وهممت بالدخول، ناولني ربع الليرة، معتذراً عن قبولها وقال: أخاف أبي أن يضربني إذا علم بذلك، ولأنك أنت يا أستاذ لك مكانة لدى أبي وأعمامي وأهل الحي كلهم، فأكبرت هذه النزاهة وهذا النبل في ذلك الفتى وشكرته.
وفي الحقيقة أن شيخنا البيطار له شعبية في حيه، ومكانة عالية، لأنه يدفع ثمن هذه الشعبية والمكانة من جيبه وصحته وراحته، يعطي أبناء حيّه وغيرهم من الأحياء دروساً فقهية ودينية، وأدبية وتوجيهية في بيته وفي مسجد الدقاق، وزيادة في خدمته قد تملك حجرة خاصة منفصلة عن بيت جاره، ولها باب يؤدي إلى الشارع، فنقل قسماً كبيراً من نفائس كتبه ووضعها في هذه الحجرة وأوقفها لأبناء الحي, وغيرهم من أبناء الأحياء الذين يرغبون في طلب العلم، والانتهال من كنوزه الدفينة، فحيا الله هذا الشيخ الشاب وقوَّاه وقواني في طاعته، وكسب مرضاته.                                                                                              

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين