عاهة التقليد في العقل الإسلامي الراهن

 
 
 
ماهر سقا أميني
 
عندما قلت لصاحبي الذي انتقدني: لك يا أخي أن تناقش الفكر بالفكر، أما الحكم على النوايا وما ضمر في القلوب، فهذا ليس مناسباً ولا يتفق مع التقوى والورع الذي يجب أن يتصف به كل مسلم . أجابني: أنت تريد التعظيم لنفسك، ولا تريد أن يتكلم أحد عن شخصك، مع أنه لم يسلم عالم من علماء الأمة منك ومن طعنك وهمزك ولمزك .
 
ومع أنني أنشر في صحيفة محترمة وفي الملحق الديني فيها، وينقل عني بعض المواقع التي أتشرف بها، فإن أحداً لم يكتشف خبثي وطعني وهمزي ولمزي - على حد تعبيره - إلا هو، وما أقصد بكلامي هذا الدخول في خصومات، بقدر ما أقصد بيان بعض أوجه القصور في بعض العقل الإسلامي الراهن، وأمراض بعض النفس الإسلامية التي صارت ترى في أقل النقد عدواناً عليها وعلى مقدساتها .
 
ما دعوت إليه هو الاقتداء بالمبدعين من السلف الصالح في الإبداع وليس في التقليد الحرفي الأعمى، وعندما ذكرت ابن الجوزي والإمام الغزالي كنت أشير إلى أسلوب في الوعظ عرف به ابن الجوزي، رحمه الله، فيه كثير من المحسنات البديعية مما كان مستحسناً في عصره، فضلاً عن الحدود المعرفية الزمنية التي لا يستطيع رجل تجاوزها مهما بلغت درجة تقربه من الله تعالى، إلا إن دخلنا في باب الكرامات وهو ما لا يبنى عليه قاعدة، أما الإمام الغزالي فقد صنف كتابه “إحياء علوم الدين” في زمنه فكان فيه الدائم والمرحلي والمشترك والذاتي، وما أجمل أن يصنف اليوم كتاب جديد في “إحياء علوم الدين” في القرن الحادي والعشرين .
 
مشكلة العقل الإسلامي الذي نتحدث عنه أنه قد انعدم الإحساس لديه بالزمن وحركته ونتائجه، ولو استطاع أصحابه أن يرجعوا بنا ألف سنة إلى الوراء لفعلوا، لأنهم يفهمون الاقتداء بالسلف الصالح بمعنى التقليد البليد لا الإبداع كما أبدعوا، والإنشاء كما أنشأوا، بل إن هؤلاء الذين يفخرون بالعصر الذهبي للحضارة الإسلامية باعتباره نتاجاً لحيوية الإسلام - وهو أمر محمود - لا يتورعون عن رمي أكثر العلماء والفلاسفة والأدباء الذين صنعوا هذا العصر الذهبي بالزندقة والكفر، حتى قال واحد منهم وذلك منذ نحوا الألف سنة: مصيبتنا أننا ابتلينا بقوم يعتقدون أن الله تعالى لم يهد سواهم .
 
خذ عندك مثلاً كتب التوحيد التي تدرس اليوم في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، لا خلاف على الجانب السمعي الذي لا يحيط به عقل ولا يجدي فيه إلا الخبر، أما العقليات فهي لاتزال تدور حول الأدلة التقليدية المشتقة من منطق أرسطو التي تسللت إلى التراث الإسلامي عن طريق الأشاعرة .
 
لقد فند الفيلسوف الإسلامي العظيم محمد إقبال هذه الأدلة فجعلها هباء، ودعا الناس إلى علوم توحيد تقوم على الأدلة العلمية المعاصرة، أو على الحدس الصوفي العرفاني الذي يجده أكثر وزناً من الأدلة الدائرية الأرسطية المكررة، ثم ما فائدة مناقشة المعتزلة والجبرية والقدرية وهي فئات وجدت وذهبت ولا يوجد واحد على سطح الأرض يقول بأقوالهم؟ أين الأدلة التي تقوم على مناقشة منطق الصدفة والقائمة على علم الاحتمال؟ وأين ما يقال اليوم في أروقة العلم عن (الجائزة الكونية الكبرى) وهي التي تؤكد أن الكون كله بمجراته وبما فيه حتى بثقوبه السوداء قد رتب من أجل أن يحيا الإنسان؟ أين ما يقال اليوم عن التطور الموجه وهو الذي يؤمن به بعض التطوريين مؤكدين أن التطور في الكائنات الحية لا يمكن أن يكون عشوائياً قائماً على الصدف، بل لا بد من عقل كلي وجه هذا التطور ليصل إلى الإنسان في فترة قصيرة جداً نسبياً بالنسبة إلى الزمن المهول المفترض القائم على العشوائية، قال صاحبي: أنت تتهم كل من يتتلمذ على كتب علماء الأمة بالكسل والخمول، أقول: تتلمذ يا أخي واصنع كما صنعوا بدل أن تمضي عمرك وعمر الأمة في التقليد والنسخ الكربوني لنسخ متماثلة لا تنتهي، أنا أول من يدعو إلى الاقتداء بالسلف في الإنشاء وليس في مجرد الإخبار، وهل يفعل المسلمون اليوم إلا الإخبار عمن سبق؟ فاتقوا الله في الناس وفي أنفسكم، ولا تكونوا عالة على السلف الصالح، لا تقدرون على أكثر من تكرار ما قالوه وقص ما فعلوه والله تعالى أعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين