الخطاب التأثيمي

 

ماهر سقا أميني

رد أحد الإخوة على ما أكتبه في مجال ترشيد الخطاب الإسلامي وتحويله من مجرد خطاب وعظي يعيش على ما أنجزه الأولون بتكرار ممل إلى خطاب نهضوي ينعش الأمة ويعيد لها وجودها ومكانها اللائق بين الأمم، ولست في موضع الدخول في خصومة، فقد أجبت عن رده بكلمتين عفا الله عني وعنك ولكنني سأفيد من رده في متابعة نقد بعض العقل الإسلامي الراهن وهو عقل( بشري) يمكن أن يخطئ ويصيب، في محاولة لتبليغ أمانة أراها في عنقي وهي إنعاش الخطاب الإسلامي وإعادته إلى جميع المحافل ليكون سبباً ونتيجة لعالم إسلامي لا يصنف ضمن العالم الثالث، وكم كانت تسرني كلمة كنت أسمعها عن حكيم من حكماء هذا الزمان عندما كان يقول: ما دمنا ضمن العالم الثالث فجميعنا آثمون لأن أمة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام لا بد أن تكون في المقدمة .

 

فأول ما أقوله مستفيداً من رد الأخ الكريم أن من سمات هذا العقل الإسلامي الراهن الحكم اليقيني القاطع حتى على النوايا وما ضمر في القلوب، ومع أن التقوى تملي على صاحبها أن يدرأ عن نفسه ظن السوء وأن يتورع في الحكم على عباد الله إلا أننا نلمس ذلك الانزلاق الخشن إلى تأثيم الناس وتخوينهم، وقد قرأنا كثيراً عمن نزع كل صفة تتصل بالاخلاص عن رجال كبار لمجرد اختلاف في الرؤية أو المذهب كالشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا وحتى المحدث الأكبر الشيخ ناصر الألباني والدكتور زغلول النجار وغيرهم، بل إنني أعرف رجلاً رأى أن يكون لوجوده في هذه الحياة هدف واحد هو الطعن في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتشريح كتبه واتهامه في عقيدته وإخلاصه، نقول هذا ضمن الصف الإسلامي فما بالك إذا خرجنا إلى الآخر غير الإسلامي الذي يعيش معنا على الأرض نفسها أو إلى الآخر العالمي الدولي بمعارفه ونظرياته وفهومه للحياة .

 

لقد ظهرت في الغرب أفكار ونظريات وعلوم ضمن سياقات تاريخية معروفة، فإذا ببعض العقول الإسلامية ترى في كثير منها (مؤامرات )على الإسلام والمسلمين، وإذا ببعضها الآخر يمارس عليها أستاذية فقيرة تعتمد على قراءة تقليدية للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وبعض ظلال العقل الأرسطي الذي دخل إلى التراث الإسلامي العقدي والفقهي في القرنين الثالث والرابع الهجري، نحن نفخر بإسلامنا ونرى أن القرآن والسنة مصدر أستاذية لمن يستحقها بعقلانية لا تتوقف عند زمن معين، أما نقد العلوم والأفكار والنظريات ورفض الآخر بمجرد الاتكاء على أننا أهل الوحي الأخير من دون التفاعل مع هذا الوحي وإظهاره سلوكاً حضارياً منجزاً لا متخيلاً أو متوقعاً فهذا لا يدخل إلا ضمن أمراض الهوية المجروحة أو المتضخمة من دون أي معنى .

 

لم يكن (داروين) على سبيل المثال يهودياً متآمراً مع الماسونية وإنما كان عالماً أمضى عمره في الملاحظات والسبر، قد يكون مخطئاً أو مصيباً، ولكن الحكم على الفكر شيء والحكم على النية والقصد شيء آخر، وفي كتابه أصل الأنواع أحصى الباحثون أربعمئة عبارة تحمل معنى الظن والاحتمال والاستدراك في حين أننا في خطابنا الإسلامي المعاصر نميل إلى التقرير اليقيني والتأكيد ليس فقط على الأفكار والأحكام وإنما حتى على الأشخاص والضمائر، وأذكر على سبيل المثال قصة معروفة عن سيد قطب ومالك بن نبي رحمهما الله، حيث وضع الأول كتابا تحت عنوان (نحو مجتمع إسلامي) فرأى الثاني أن يضاف إلى العنوان وصف (رشيد) فأنكر سيد قطب على مالك ورأى أن المجتمع الإسلامي هو رشيد بالضرورة، في حين أن ابن نبي كان يرى أن كثيراً من المجتمعات الإسلامية اليوم غير رشيدة وتحتاج إلى إعادة هيكلة وإحياء ونهضة، وكانت النتيجة منع تلاميذ قطب وأتباعه من قراءة كتب مالك بن نبي، وهذه صورة عن أستاذية مدعية دكتاتورية لا ترى ولا تسمع، تتكئ على الانتساب إلى الوحي من دون أن تكون على قدره، فأي بناء وأي تعاون وأي سلام يرتجى على الأرض في ظل مثل هذا العقل المجروح (الاتهامي التأثيمي)؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين