بين حصار غزة وحصار شعب مكة - حصار الظالم في غزة الراسخة

بين حصار قطاع غزة وحصار شعب مكة

سليمان بن حمد العودة

 

المسافةُ الزمنية بين حصار الملأ المستكبرين من قريش للمؤمنين بمكة، وبين حصار الصهاينة المعتدين لأهل الإسلام المرابطين في غزة مسافةٌ بعيدة، والبعدُ الجغرافي بين شِعب أبي طالب وبين أرض غزة كبيرٌ أيضاً..

ولكن مع هذا وذاك فثمة فروق واتفاقات بين الحصارين..

فحصار الشعبِ تضيق مساحته الجغرافية حتى لا يتجاوز بضع مئات من الأمتار.. وحصار غزة يتسع ليشمل قطاعاً تزيد حدوده عن ثلاثمائة كيلو من الأمتار.. وفي هذا توسيع لنطاق الحصار المعاصر عن نطاق الحصار السابق.

والمحصورون في شعب أبي طالب إن لم يتجاوزوا المائة أو المئين، فهم في قطاع غزة يتجاوزون المليون ونصف المليون من المحاصرين.

ومع صنوف الحصار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي في حصار قريش لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ومن دخل معهم؛ فحصارُ صهاينة اليوم يتجاوز هذه الأطر ليضيف حصاراً عسكرياً، يمطر الأرضَ بوابل القاذفات، ويصيب بالقنابل والمتفجرات صبيةً ونساء، لا حول ولا قوة لهم إلا بالله، وما نقموا منهم إلا أن يقولوا ربنا الله؟

حصار (الشِّعِب) دوَّنه التاريخ، وروته كتب (السيرة) بمداد أسود، وسطَّرت أسماءَ المخططين والمنفذين له على أنهم (أكابر مجرميها) وشبهتهم (كمن هو في الظلمات ليس بخارج منها)، وكذلك التاريخ يشهد اليوم على أكابر المجرمين وإخوان القردة والخنازير.

حصار الشعب مع إحكامه، وتعليق وثيقته -(المقدسة) في نظر المجرمين- في جوف الكعبة، فقد اخترقته (الشهامة) العربية، ونُقضت صحيفته (الآثمة) (بحمية) جاهلية؟

فهل من شهامة معاصرة؟.. وأين ومتى تكون الحميةُ الإسلامية؟!

وهل يكون نفرٌ من قريش أقدرَ على المبادرة من أمة تتجاوز المليار؟

وصدق الشاعر حين قال:

لو بعثنا واحداً  من  كل  ألفٍ        لمشى جيشٌ إلى القدس عرمرم

ثمة اتفاق يوحّد بين مللِ الكفر -في الماضي والحاضر والمستقبل- هو محاربة الإسلام ومحاصرة المؤمنين، وعدم الرضا إلا بمللهم المنحرفه {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] {حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة: 217].

وثمة اتفاق بين مواقف للمؤمنين سابقاً ولاحقاً في الثبات على الحق والصبر على اللأواء واستشراف المستقبل، وحيث انتصر المؤمنون الأولون وكانت لهم العُقبى، فالنصرُ قادم لمن تأسى بهم، ووعدُ الله حق {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].

الفئة المؤمنة المُحاصَرة في زمن النبوة لم يكن في الأرض غيرُها يدين بالدين الصحيح (الإسلام) وهذا يعظم الحصار ويزيد من شدته على المحاصرين.. ولكنه اليوم وفي زمن (الغثائية) ومع انسياح الإسلام في الأرض.. يكون الرقمُ الكبيرُ للمسلمين مأساةً وشدةً أكبر على المحاصرين في غزة حين يلف الصمتُ، ويخيّم الذل، ويسود الهوان قِطاعاً عريضاً من المسلمين.. وتُقطع نياطَ القلب كلماتُ الصبية والنساء: أين إخواننا المسلمون عن نصرتنا؟

الفئة المحاصرة الأولى في شعب أبي طالب تمثل رمزاً بل نموذجاً وحيداً للإسلام بوعيها وثباتها على الحق ورفضها (سبيل المجرمين).

والمحاصرون اليوم في غزة يمثلون (الرمزية) للثبات على المبدأ، والوعي بمخططات العدو، وتفويت الفرص على مشاريع (الاستسلام)، والتصدي لمشاريع (التهويد) في القدس، بل يقومون -نيابةً عن الأمة الغافلة- بمقاومة المحتل وتعويق (مشاريعه) الصهيونية في المنطقة.. كذلك نحسبهم ولا نزكي على الله أحداً.

ولهذه المعاني والاعتبارات حوصروا.. ولهذه المواقف الواعية والمتصلبة حوربوا.. ويُراد لهم أن يركعوا كما سجد غيرُهم؟!

ومن هنا فإن نصرة هؤلاء والوقوف إلى جانبهم في محنتهم اليوم، هو نصرة لقضيتنا الكبرى (قضية فلسطين)، وهو (مدافعة) لخطط المستعمرين.. قبل أن يكون نصرةً للفلسطينيين، أو مدافعة عن عرين الأسود في غزة المحتلّة؟

وحين تُطلق الصيحاتُ لكل فردٍ مسلم بنصرة هؤلاء المحاصرين بما يستطيع، تُطلق صيحة قبلها وآكد منها.. باجتماع البيت الفلسطيني وحمايته من الاختراق الداخلي، والتأكيد على الشرفاء الفلسطينيين؛ بإدراك خطورة الوضع، وشدِّ الأيدي، وتقوى الله، وتقديم مصالح الأمة، وحمل همومها.. على المصالح الذاتية والمطامع الشخصية، وفي توجيه القرآن عبرة {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].

وبعيداً عن المبالغة يمثلُ حصارُ غزة المفروضُ اليومَ على الفلسطينيين جريمةً بكل المقاييس، ويُصنَّف الضعفُ المصاحب لهذا الحصار، والصمتُ المؤلم على المستوى الإقليمي والدولي على أنه كارثة فوق الكارثة.. فالجرح النازف، والضعف السياسي، والافتراق الداخلي كل ذلك مدعاة للحسرة والألم.

المشاهد الناطقة داخل القطاع تصوّر مجموعةً من النساء والرجال، والشيوخ والشباب، والمرضى والمُعْوِزين.. ظلام دامس، وقلة في المواد الغذائية، ونقص بل انعدام للدواء، جُثث تُحمل، وأخرى تتهاوى، وربما عزّ الكفن، وأغلقت المقابر، وهل بعد أن يستصرخ الناس: أنقذونا ولو بتكفين موتانا.. أو بحفر القبور لشهدائنا؟!

مليون ونصف المليون معظمهم من الأطفال والنساء يموتون حتفهم، ويقتلون صبراً، أي وضعٍ هذا؟ هل الأموات هناك فقط.. أم من يصمت حيال هؤلاء.. هم الموتى؟

حين يتدنى سقفُ المطالب ليصل إلى أكفانِ الموتى أو توفير الأسمنت للمقابر فتلك مؤشرات على قرب انفجار لا يعلم نهايته إلا الله!

وحين تستصرخ الفتياتُ الفلسطينيات بكل (جدية) ويقلن: لا بأس أن تشاهدوا جنائزنا.. لكن استروا عوراتنا.. واخلفونا في أهلينا بخير.. فتلك التي تعقد الألسنة وتتفطر لها الأكباد؟!

وحين تستصرخ فتيات أخر وتقول: بعد غدٍ لا خبز عندنا، ونحن أحسنُ من غيرنا، غيرُنا اليوم وغداً لا خبز عندهم، بل ولا ماء ولا دواء.. فتلك البلايا التي يتحطم لهولها الصخر!!

وحين تُبلل دموع الشيوخ الثرى وهم يستصرخون إخوانهم في مد يد العون لهم ويتحسرون على مستقبل أبنائهم وبناتهم.. فتلك كارثة ربما لم يشهد التاريخ مثلها؟

إنه قطار الموت يسير في قافلة تحمل إخوانَنا الفلسطينيين نعلم محطتها الأولى، ولا ندري أين يتوقف القطار ومتى يتوقف؟

إنه الحصار الظالم، ومنطقة الكوارث من الدرجة الأولى في غزة الراسخة.

إخوة الإسلام.. يمكن أن نقول كلَّ شيء عن حصار (غزة)، لكن ماذا يمكن أن نُقدم على صعيد الواقع لهؤلاء المحصورين؟ هذا هو التحدي.. وهذا هو الذي يقلق العدوَّ الغاشم؟

إننا نستطيع أن نعمل ونتحرك باتجاهات متعددة، على الصعيد الرسمي، والشعبي، وعلى صعيد الإغاثة، والإعلام، وعلى أصعدة إصلاح الجبهاتِ وسدِّ الثغور، وبناء المستقبل، ومدّ الجسور نستطيع أن نصنع من المحن منحاً، ومن الآلام آمالاً، ومن الظلمات نوراً، ومن الموت حياة، ومن الخوف أمناً.

إن هذه المآسي توقظ الهمم، وتستدعي رصيدَ الأخوة، فكم من غارق في همومه الشخصية جاءت هذه الكوارثُ لتوقظ فيه حميةَ الدين وتشعره بالولاء للمؤمنين.. وهذا مكسب، وكم من مخدوع بأبجديات الغرب ومكوناته الثقافية وقيمه الحضارية من دعاوى (الحرية والديمقراطية، ومحكمات العدل، ومجلس الأمن.. وسواها) فجاءت هذه المآسي لتمحوها من الذاكرة، وتثبت (إرهابَ، وظلمَ، وجورَ، وعدمَ إنسانية..) هؤلاء القومِ.. ولتقود قيمَ حضارتِهم (المزعومة) إلى (مزبلة) التاريخ وإلى غير رجعة؟ وهذا مكسب آخر..

وكم تهيئ هذه المصائبُ والمحنُ من فرصٍ لوحدة الصفِ المسلم، واجتماعِ الكلمة، وتجاوزِ الخلافات والاتهامات، لا سيما والأشقاءُ يصبحون ويمسون على عدوٍ مشترك لا يُفرق بين رايةٍ (فتحيةٍ) أو (حماسيةٍ) أو غيرها.. وإن فاضَلَ بينها حيناً ولهدف تمزيق الصف فهو يقصدها جميعاً، ويهدف إلى إسقاطها كلها في النهاية.. لكنها المرحلية في التنفيذ وتقطيع الأجزاء، وإبعاد الأطراف، حتى إذا انتهى من القلب عاد إلى الميمنة والميسرة والمقدمة والمؤخرة يواصل تدميره ويكمل مخططه؟! وهذا الوعي مكسب ثالث.

إن الساسة بمقدورهم أن يتنادوا وأن يصنعوا شيئاً لهذا الحصار، فهو يُهدد مستقبلهم ويُعكر عليهم أمنَهم، ويُضعف هيبتَهم، وإذا أعطوا بيدٍ شيئاً من المكاسبِ للآخرين فلا بد أن يأخذوا ثمنَه أو يزيد باليدِ الأخرى.. وإذا كان للغربِ مصالحُ عندهم، فينبغي أن يُلوِّحوا بهذه المصالح حين يُهدَّد إخوانُهم وجيرانُهم بالموتِ البطيء؟

إن الأمة المسلمة بقادتها، وبهيآتها، ومنظماتها قادرةٌ على صُنع شيء بل أشياء إزاء هذا الحصارِ الظالم وأمثالهِ.. ولا حاجة لاستدعاء منظماتِ الغرب والطوافِ بها لحلِ المشكلةِ وفكِ الحصار.. ومن يأمن الذئب على غنمه، ومن يتحاكم إلى قاض هو الخصمُ والحكم؟

وإن الإعلامَ الناطق باسم الأمة المعبِّر عن قضاياها يستطيع أن يوجه الرأي العام، ويحرك المشاعر، ويضبط المسار. وإن شذ إعلامٌ مأجور، أو تناسى إعلاميون لا تعنيهم قضايا الأمة ولا يستشعرون مستقبلَ مقدساتها.. فأولئك أرقام هامشية في إعلام الأمة.. وأولئك نسوا الله ومن نسي الله نسيه الله.

إن إعلاماً يرقص ويغني والأمة تنزف جرحاً.. إعلام هابط، وإن إعلاميين يُبجلون منظماتِ الغرب ويدعون إلى تأسيس القيم الغربية في بلاد المسلمين.. هم من الغفلة والتضليل بما يدعو إلى الشفقة والأسى في آنٍ واحد. وإن تياراتٍ تنابذ الإسلام وأهله وتصفهم بالإرهاب والتطرف في كل مناسبة وفي معظم المناشط والفعاليات الراشدة.. فأولئك مَرْضَى وعسى الله أن يشفيهم.

يا قادةَ الفكرِ ورجالاتِ الدعوة، هذه المآسي تفتح لكم فرصاً للكتابة عن ثبات الأبطال، وعن أثرِ الإيمان في مقاومة العدوان، وأثرِ اليقين في تسلية النفوس وإحياءِ الأمل في مخاضات الألم.. وإلا فأي شيء غير هذا يملِكه المحاصرون الراسخون في فلسطين عموماً.. وغزة على وجه الخصوص؟!.. والحصارُ بلغ شهرَه السابعَ، والعدوُّ يزيد الجرعةَ كلما مرَّ الزمن.. والمحاصَرون يتلقون الدباباتِ بصدورهم، ويدفعون أبناءهم.. بل ومستقبلَهم ثمناً للثباتِ على المبدأ الحق ورفض العدوانِ والاستسلام ولسانُ حالهِم يقول: اللهم خذ من أبنائنا وبناتنا، وشيوخنا ونسائنا، وصحتنا.. وأمننا حتى ترضى.. فإن بقينا عِشنا أعزاءَ بالإسلام.. وإن متنا فاقبلنا شهداءَ.. نُشهدك ونشهد أمتَنا على أنه لا ذنب لنا إلا العزةُ بالإسلام، ورفض الاحتلال والطغيان؟ أليس في هذه المعاني حياة حتى وإن كتب لأصحابها الموت؟

إن أمةَ تحيا بموتِ آخرين منها.. أمة تأبى الذوبان.. وهي عصيَّةٌ على العدوّ مهما بلغ، وهي الجديرة بالتمكين والاستخلاف وإن طال أو قصر الزمن، ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون.

يا أصحاب الغِنى، ويا رجالات المالِ، أنفقوا يُنفِق اللهُ عليكم، وأعطوا من مالِ اللهِ الذي آتاكم وحين تصدقون وتتجاوزون الشحَّ والأثره فستجدون مخارجَ وطرقاً لغوثكم وإعانتكم، وإياكم في معركة الإسلام والكفرِ أن يُؤتَى الإسلامُ من قبلكم، وقدواتُكُم قد أنْفَقَوا نصفَ أموالهم، بل منهم من جاد بماله كله.. ومنهم من ظل ينفق وينفق حتى قيل لهم: ما ضرهم ما فعلوا بعد اليوم!!

إن من المؤسف أن نظراءكم من أثرياء الكفرِ والضلال لا يكتفون بالدعم لمحاربة الإسلام وأهله بشكلِ مقطوع، بل يوقفون الأوقاف، ويتبرعون بالدعمِ الكامل للمؤسسات التنصيرية والصهيونية في حياتهم وبعد مماتهم.. وأنتم ترجون من اللهِ ما لا يرجون، وهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون وإلى جهنم يحشرون. أنتم تُصلحون وتُغيثون.. وفي سبيل الله تُنفقون.. نفقتكم مخلوفة، وأجركم على الله، وصدقاتكم ظِلٌ لكم يوم لا ظل إلا ظِلُّ الرحمن.. وهم يفسدون ولا يصلحون، ويهلكون الحرثَ والنسل، ويدمرون البلاد والعباد، ويشعلون الحرائق، ويكتمون أنفاسَ المرضى ويقطعون السبيل.. فأي الفريقين أحقُّ بالأمن؟ وأيُّ الفريقين أولى بالمبادرة والدعم؟!

إلى الأمة كلها برجالها ونسائها وشيوخها وشبانها وقادتها وشعوبها، وعلمائها وعوامها نداءٌ يقول: تصوروا أنكم في موقع الحصار، وإخوانكم من حولكم ينظرون.. فلا تدرون أتغالبون الموت.. أم تغالبون تجاهل وغفلة الآخرين؟ مدُّوا يدَ العون، أغيثوا، انصروا، فكروا وقدروا، وبما يستطيعُه كلُّ واحدٍ منكم لا تبخلوا، وإياكم أن تكونوا في عداد الموتى وإن كنتم بعدُ أحياء.. فالميتُ ميتُ الأحياء، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون؟.

اللهم أنجِ المسلمين المستضعفين في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم عليك بالظالمين وأنزل عليهم رجزك وغضبك يا رب العالمين

من موقع الألوكة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين