في أصحاب الخطاب الاسلامي

 
 
 
ماهر سقا أميني
 
 
في دعوتنا إلى ترشيد الخطاب الإسلامي وحتى لا نكلف الناس فوق طاقتهم لا بد من ذكر عدة نقاط تتصل بتنشئة وإعداد المخاطبين (بكسر الطاء) وهم الأئمة والخطباء والدعاة إلى الله تعالى .
 
 
فمن ناحية تحتل كليات الشريعة والمعاهد الشرعية أدنى مراتب سلالم القبول في الجامعات في غالب العالم الاسلامي، فإذا افترضنا أن هذه الامتحانات صالحة لفرز الطلاب حسب قدراتهم ومهاراتهم أو ذكائهم العام فإن هذا يعني أن هذه الكليات والمعاهد هي مجرد الفرصة الأخيرة للطالب الأدنى قدرة أو ذكاء للالتحاق بالجامعة فضلا عن (الكارثة) التي وجدت في أكثر من بلد عربي وهي ما يسمى بالثانويات الشرعية حيث ينقطع تعلم الطالب بعد المرحلة الاعدادية غالبا لرادءة تحصيله ليتحول إلى دراسة العلوم الشرعية من دون أن يكون قد نال حظا كافيا من العلوم والمعارف والمهارات العقلية التي يؤمنها التعليم العام سيما العلمي منه .
 
 
من جهة أخرى يعتبر أجر أو راتب الإمام و الخطيب ومدرس التربية الإسلامية من أقل الأجور التي تعطى لموظف، وفي زيارة إلى بلد عربي حضرت صلاة جمعة في أحد المساجد فهالني مالبسه الخطيب من ثوب ملأته البقع كأنه قد خرج لتوه من مشحم، فلما ذكرت ذلك لصديق قال لي: قد لا تصدق إن قلت لك أن راتب هذا الرجل لا يزيد على 25 دولاراً شهرياً، وهكذا فإن دراسة العلوم الشرعية لن تغري أحدا اللهم إلا الفاشلين في كل المجالات الأخرى التي تؤمن دخلا ومستوى اجتماعيا أعلى مما تؤمنه المعاهد والكليات الشرعية .
 
 
النقطة الثالثة موغلة في التاريخ العربي فلقد مرت القرون ومن يسمون بالوعاظ يعيشون على نفقة الخلفاء والأمراء والسلاطين، واستمرالأمر كذلك حتى أيامنا هذه حيث يعتبر العامل في هذا الحقل موظفا لدى الدولة ولا شك أن لهذا الوضع محاسنه ولكن مساوئه أكبر حيث عنى ذلك للأكثرين - وهذا حق - نوعا من التبعية وصولا في بعض الدول الى تأميم الخطاب الإسلامي، وقد دعا أكثر من داع إلى انفصال المخاطبين الاسلاميين عن جهاز الدولة ليتحمل نفقاتهم عموم المسلمين مما يعني استقلال هؤلاء عن صاحب النعمة ومايريده لهم ومنهم، وإني لأعجب من الناس الذين يريدون من الداعية أن يكون (سوبرمان) الخارق فيطلبون منه أن يقول كلمة الحق حتى في وجه من ينفق عليه في كل صغيرة وكبيرة وهم قد تخلوا عنه بل وسيتخلون عنه إن أصابه ضير من هنا أو هناك .
 
 
النقطة الرابعة والأهم تتعلق بالفصل الحاد بين العلوم الشرعية من جهة والعلوم الكونية والإنسانية من جهة أخرى، ففي بدايات القرن العشرين عندما نشأ نوع من التعليم المدني في مصر مقابل التعليم الأزهري التقليدي ووجه بالكثير من الشكوك وسوء الظن وعدم الاعتراف، وبقي الأمر كذلك إلى يومنا مع كل محاولات الإصلاح التي خاضها رجال كالشيخ محمد عبده والطاهر بن عاشور وغيرهما، ففي عصور ازدهار الحضارة الاسلامية لم يكن هذا الفصل موجودا وكلنا يعرف أسماء علماء صنفوا في العلوم الشرعية والعلوم الأخرى وكانوا مراجع في أكثر من اختصاص، أما اليوم فإننا نريد من المخاطب الاسلامي ألا يخرج عن التعليم الشرعي وإن أمكن منذ بداية المرحلة الثانوية ليخرج بعدها إلى الناس داعيا إلى الله تعالى كما كان أستاذه وأستاذ أستاذه على مر الدهور .
 
 
لقد قبل البعض على مضض بالعلوم الكونية - كأدوات - من باب الضرورة من دون إدراك حقيقة أن العلوم الكونية نفسها لها فلسفتها ومسلماتها البدئية وتطبيقاتها التي تترك آثارا اجتماعية وأخلاقية واسعة المدى، أما العلوم الإنسانية وهي علوم صناعة الإنسان فما تزال مرفوضة رفضاً باتاً ولا ينظر إليها إلا على أنها من قبيل الكفر والزندقة، والذي يعرفه العالم اليوم أن المعرفة البشرية كالأواني المستطرقة في كل فروعها وأوجهها ولا يمكن بحال أن تكون معرفة دينية تستحق الاحترام وتلعب أدوارا ناجعة من دون أن ترافقها المعارف الأخرى وإلا فإننا لن نخرج عن دائرة (الوعظ) القائم على النقل الشفاهي من دون أي جهد عقلي يذكر وهو ماسمي بالعقل البياني، فالخطاب الاسلامي اليوم خطاب يغلب فيه البيان على البرهان، والنقل الشفاهي على التفكير والنشاط العقلي، وما لم يغير المجتمع أولوياته وسلالم إشباعاته فلن يتغير في الخطاب الاسلامي شيء .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين