تربية نبوية فريدة ، وتلميذ نجيب

 
 
 
بقلم / د . خلدون عبد العزيز خلوطة
 
ثمرة يانعة من تربية نبوية بارعة ، ظهرت في مناجاة مفعمة بمعاني التوحيد ، تتضمن قمة المعرفة بالله ، صدرت من أعرابي تخرج من مدرسة النبوة ، تظهر لك كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسخ الحقائق الإيمانية في قلوب أصحابه ، ويكرز على حقوق الربوبية ، و آداب العبودية ، ثم يحشوها خوفا ورجاء وحبا ، ثم يفتح الباب مناديا من آمن به واتبعه : ها أنت وربك، فأثن عليه بما هو أهله ، مجِّده ، عظمه ، تبتل إليه ، ذب حبا في جنابه .
 
 لنتأمل هذا الثناء العطر على الله والذي صدر من أعرابي محلق في إيمانه وعبودتيه، وانظر بعد ذلك إلى الغاية السامية ، والهدف الأمثل الذي يريد تحقيقه والوصول إليه من خلال هذا الدعاء ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول: يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، ولا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم ألقاك فيه. فوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعرابي رجلا فقال: إذا صلى فائتني به. فلما أتاه وقد كان أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب من بعض المعادن، فلما أتاه الأعرابي وهب له الذهب وقال: ممن أنت يا أعرابي؟ قال: من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله، قال: هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال: للرحم بيننا وبينك يا رسول الله، قال: إن للرحم حقا، ولكن وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله عز وجل.قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبي عبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة].
 
ولنا وقفات مع هذا الحديث:
 
1-   الوقفة الأولى: لو أن هذا الثناء والدعاء خرج من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فهذا ليس بمستغرب ، لأنهما مرافقين للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيقتبسون مما يسمعونه منه ، ويحاكون ما حفظوه من أدعيته، ولكن أن يصدر من أعرابي لم يلتق بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف اسمه ، ثم يصل إلى هذا المستوى الراقي في معرفة الله ، وفي تحديد المهمات والأوليات التي يسعى إليها، من الحرص على الخاتمة الحسنة التي بها يلقى الله تعالى ، لدلالة واضحة على التربية النبوية الرائعة التي التي توصل العبد برب الأرض والسموات ، وترقى به في أعلى المقامات.
 
2-   الوقفة الثانية: وكأن الدهشة والإعجاب غشيت النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع هذا الثناء والدعاء من الأعرابي ، كحال المعلم البارع عندما يرى إنجازا لأحد تلامذته، ونجاحا رائعا حققه، فتتملكه حالة من الانبهار والثقة لنجاحه هو في نجاح تليمذه، حيث أعطاه الفكرة والمعاني الراقية ، فتفنن التلميذ في صياغتها ، وأبدع في التعبير عنها، لذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكافأته لأنه المربي الكامل الذي أتقن التربية ، فكفأه ببعض الذهب تعجيلا عن بعض إحسانه ، وكشف له سبب التكريم بقوله: (وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله عز وجل)، هذا ما يحفزه على المزيد والتألق.
 
3-   الوقفة الثالثة: ديباجة رائعة ، وتهيئة عجيبة ، ومقدمة جميلة بين يدي الدعاء ، بدأها بالثناء على بعض من خصوصيات الذات الإلهية، ثم تدرج إلى بعض من مظاهر القدرة ، ثم تعمق إلى مساحات لا تتناهى من بعض ما وسعه علمه سبحانه، فهو خريج مدرسة النبوة التي علمته : (إذا صَلّى أَحْدُكُمْ فَلْيبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبّهِ وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ ، ثُمّ يُصَلّي عَلَى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثُمّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شاء) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
 
 يتضمن ثناء الأعرابي المؤمن حقائق إيمانية عديدة:
 
أ‌-       منها ما يعود على ذات الحق سبحانه : فإنه ( لا تراه العيون) فلا تراه العيون في الدنيا، ولا بهذه العيون في الآخرة وإنما بعيون باقية ، يعطيها الله سبخانه طاقة وقوة، وبتجل خاص منه سبحانه، وإنه (لا تخالط الظنون) فلا يتطرأ الظن لعلمه عز وجل لأن علمه عن يقين ، فهو العالم بخفيات الأمور ودقائقها كما يعلم بظواهرها وجلياتها ، وإنه (لا يصفه الواصفون) فمهما أوتي الواصفون من بلاغة وبيان فلا يستطيعون وصفه ، وتعجز العبارات عن نعته جل جلاله ، فلا أحد من عباده يقدر على إحصاء الثناء عليه والوصف له ، بل هو كما أثنى على نفسه (ولا يحيطون به علما).
 
ب‌-   ثم انتقل إلى بيان بعض من مظاهر قدرة الله ، فهو سبحانه : (لا تغيره الحوادث ) : فالحوادث الكائنة في الزمان ، والتصارف والنوازل على اختلاف أنواعها لا تؤثر في قدرته لأنه هو خالقها ومقدرها، إنما يتغير بتغيرها العالم الحادث لا القديم الواجب الوجود سبحانه ، وهو (لا يخشى الدوائر) : فالدواهي وعظائم الأمر لا يخشاها ولا يأبه بها لأنه مدبرها وموجدها.
 
ت‌- ثم انتقل لبيان بعض من مظاهر ما وسعه علمه سبحانه : فمن علمه مقادير وزنه الجبال، ومقدار مكيال ما في البحار، وقد أحصى عدد قطر الأمطار ، وورق الأشجار، ويعلم ما غطاه ظلام الليل وإشراق النهار في هذا العالم الكائن بالأرض من حيوان وجماد ، وهو جل وعلا يعلم الأشياء كما هي فلا يحجبها عنه حاجب ولا يحول بينه وبينها حائل ولا سماء ولا أرض ، ولا بحر ولا جبل، لأن علمه سبحانه ذاتي لا يعتمد على الوسائط .
 
4-   الوقفة الرابعة: وبعد هذا الثناء العطر يلح في دعائه لتحقيق قضايا سامية تدل على سمو صاحبها ، ونفس ذات همته عالية تتطلع إلى معالي الأمور ، لأنه وعى من النبي صلى الله عليه وسلم أهمية حسن الخاتمة وخطرها عندما قال (وإنما الأعمال بالخواتيم) ، لذلك تدرج بها تدرجا عجيبا في الطلب ، فهو يرجو من الله أن يجعل خير أيامه آخرها ، ثم لتكون أيامه فيها الخير سأل الله أن يجعل له فيها خير أعماله الزاكية المتقبلة التي يختم بها حياته ، وكل ذلك لمقصد علوي شريف ليلقى الله بأجمل أيامه ، وأسعد لحظات حياته ، من خلال أعمال صالحة تفضل بها الحق سبحانه عليه. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين