نماذج رائعة في أدب الاختلاف بين علماء الأمة

 
 
 
الشيخ : خلدون مخلوطة
 
 
المحافظة على الألفة والأخوة مع الاختلاف في فروع المسائل الاعتقادية والفقهية من صفات العلماء الراسخين ، ومن شأن الدعاة الربانيين ، وفيه دلالة على تقديم مصلحة الدعوة ، ووعي بما يدور من مؤامرات لتمزيق الأمة .
 
كم نحن بحاجة ماسة في هذا العصر إلى نشر الوعي بفقه آدب الاختلاف ، وترسيخ قواعد التعامل بين أفراد الأمة مع تعدد مشاربها ومذاهبها المنطوية تحت مظلة أهل السنة والجماعة ، والتي حددها الإمام السفاريني الحنبلي في كتابه "لوامع الأنوار البهية" 1/73: بقوله: (أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل، والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري. والماتريدية: وإمامهم أبو منصور الماتريدي).
 
وكما وقع الخلاف بين سلف الأمة من الصحابة والتابعين ، ومن جاء بعدهم من العلماء الراسخين في القضايا الفقهية، كذلك تعددت وجهات نظرهم في فروع المسائل الاعتقادية ، ومع ذلك استمرت اللحمة الأخوية بينهم، وساد الاحترام والتقدير، وعذر بعضهم بعضاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى 19/122: ( وقد اتفق الصحابة في مسائل ....وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة ، وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا ، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف ، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه وهل يقال له : مصيب أو مخطئ ؟ فيه نزاع . ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر ، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ)، وتأمل أخي القارئ على تأكيده على أمرين مهمين:
 1) بقاء الجماعة والألفة رغم وقوع النزاع بينهم في مسائل علمية وعقدية
 2) أن المخطئ معذور ومأجور لأنه قام بما هو واجب عليه حسب قوة إدراكه.
 
وسأعرض نماذج رائعة لكبار علماء الأمة كيف كان التقدير لبعضهم مع اختلاف التوجهات ، من ذلك ما جرى بين الحافظ الدارقطني وهو على مذهب أهل الحديث في الصفات ، والإمام أبي بكر الباقلاني وهو مذهب الإمام الأشعري ، قال الحافظ الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء ص:559/ج17 : (قال أبو الوليد الباجي في كتاب "اختصار فرق الفقهاء" من تأليفه في ذكر القاضي ابن الباقلاني([1]) : لقد أخبرني الشيخ أبو ذر([2]) وكان يميل إلى مذهبه ، فسألته : من أين لك هذا ؟ قال : إني كنت ماشيا ببغداد مع الحافظ الدارقطني ، فلقينا أبا بكر بن الطيب فالتزمه الشيخ أبو الحسن ، وقبل وجهه وعينيه ، فلما فارقناه ، قلت له : من هذا الذي صنعت به ما لم أعتقد أنك تصنعه وأنت إمام وقتك ؟ فقال : هذا إمام المسلمين ، والذَّابُّ عن الدين ، هذا القاضي أبو بكر محمد بن الطيب . قال أبو ذر : فمن ذلك الوقت تكررت إليه مع أبي ، كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لا يُشار فيها إلى أحد من أهل السُّنة إلا مَنْ كان على مذهبه وطريقه.
 
قلت: -أي الحافظ الذهبي - قلت : هو الذي كان ببغداد يناظر عن السنة وطريقة الحديث بالجدل والبرهان ، وبالحضرة رءوس المعتزلة والرافضة والقدرية وألوان البدع ، ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية ، وكان يرد على الكرامية ، وينصر الحنابلة عليهم ، وبينه وبين أهل الحديث عامر ، وإن كانوا قد يختلفون في مسائل دقيقة ، فلهذا عامله الدارقطني بالاحترام ).
 
ثم ينقل الحافظ الذهبي ( أن الشيخ شيخ الحنابلة أبا الفضل التميمي حضر يوم وفاته العزاء مع إخوته واصحابه وأمر أن ينادى بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ورقة ردًا على الملحدين. وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة في الدار).
 
نستنج مما سبق أربعة أمور مهمة:
 
1- التعامل الراقي ، والاحترام والتبجيل الذي عامل به الحافظ الدراقطني القاضي أبا الباقلاني مع بينهما من اختلاف.
 
2- وصفُ الدراقطني للبلاقاني بـ "إمام المسلمين ، والذاب عن الدين" ، وهذا أدب رفيع يحتاجه طلاب العلم في التأدب مع علماء الأمة حتى ولو كانوا في خلاف معهم.
 
3- ما فعله شيخ الحنابلة في عصره العلامة أبو الفضل التميمي من الصلاة على الباقلاني ، ووصفه له بأنه ناصر السنة والدين ، دليل آخر على ما كان يسود بين علماء الأمة من أدب واحترام.
 
4-   قول الحافظ الذهبي (وإن كانوا قد يختلفون في مسائل دقيقة) إقرار بوجود الخلاف بينهم في قضايا فرعية عقدية، ومع ذلك عذر بعضهم بعضا، ولم يؤد ذلك إلى الفرقة ، أو إلقاء التهم بالتبديع والتضليل.
 
 
([1] ) قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: ( الإمام العلامة أوحد المتكلمين مقدم الأصوليين: القاضي أبو بكر محمد بن الطيب ، ابن الباقلاني صاحب التصانيف، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه... وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية، وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه.. وقد ذكره القاضي عياض في طبقات المالكية فقال: هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة المتكلم على لسان أهل الحديث وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته).
 
( [2]) الحافظ الإمام المجود ، العلامة ، شيخ الحرم ، أبو ذر ، عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير بن محمد ، المعروف ببلده بابن السماك ، الأنصاري الخراساني الهروي المالكي ، صاحب التصانيف.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين