ابن تيمية في محراب العبادة

 
بقلم عبد الحكيم الأنيس
          كان الإمام العلامة الشيخ تقي الدين ابن تيمية عالماً عاملاً, ملأ الدنيا وشغل الناس بعلمه, وردوده, وجدله, ونقده لكثير من الآراء والأفكار والظواهر, وفي حياته جانبٌ قلما يتوقفُ عنده الدارسون, وهو تبتُّله الشديد, وذكرُه لله الدائم, وإدامتُه الأوراد والأذكار, وفيما يأتي عددٌ من النصوص التي تجلِّي هذا الجانب في حياته, وهو إضاءة سريعة, للفت النظر, وإثارة الاهتمام بدراسة عبادة الشيخ بصورة تفصيلية، ومن الله العون
.
 
          قال تلميذُه الإمام الذهبي في "الدرة اليتيمية في السيرة التيمية": "نشأ في تصوُّن تام, وعفاف وتعبُّد, واقتصاد في الملبس والمأكل".
         
وقال في "المُعجم المختص بالمحدِّثين": "كان إماماً متبحِّراً في علوم الديانة... فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع, لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه، والعمل بمقتضاه".
         
وقال في "الدرة اليتيمية": "كان معظّماً لحرمات الله, دائمَ الابتهال, كثير الاستعانة بالله, قوي التوكل, ثابت الجأش, له أوراد وأذكار يديمها...
         
ولما سافر على البريد إلى القاهرة سنة 700, وحَضَّ على الجهاد, رُتِّبَ له مرتبٌ في كل يوم, وهو دينار وتحفة, وجاءته بقجة قُماش - أي صرة-, فلم يقبلْ من ذلك شيئاً".
         
وقال في كلامه على حبسه الأخير: "وآل الأمرُ إلى أنْ مُنِعَ من الكتابة والمطالعة, وما تركوا عنده كرّاساً ولا دواة, وبقي أشهراً على ذلك, فأقبلَ على التلاوة والتهجُّد والعبادة حتى أتاه اليقين".
         
وقال: "ولم أر مثله في ابتهاله، واستغاثته، وكثرة توجهه".
         
وقال تلميذه الإمام ابنُ القيم في كتابه "الوابل الصيِّب من الكلم الطيِّب": "وسمعته - قدس الله تعالى روحه- يقول: الذكرُ للقلب مثلُ الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟
         
وحضرتُه مرةً: صلّى الفجر, ثم جَلَس يذكرُ الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار, ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدّ -هذا- الغداء سقطتْ قوتي, أو كلاماً قريباً من هذا.
         
وقال لي مرة: لا أتركُ الذكرَ إلا بنيةِ إجمام نفسي وإراحتها, لأستعدَّ بتلك الراحة لذكر آخر, أو كلاماً هذا معناه"[1].
 
وقال ابنُ القيم أيضاً: "وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطِّه ، وعلى ظهرها أبياتٌ بخطه من نظمه :
 
أنا الفقيرُ إلى ربِّ البريَّات - أنا المُسَيْكينُ فى مجموع حالاتي
أنا الظلومُ لنفسي وهْي ظالمتي - والخير إنْ يأتنا مِن عنده ياتي
لا أستطيعُ لنفسي جلبَ منفعة - ولا عن النفس لي دفع المضراتِ
وليس لي دونه مولى يدبِّرني - ولا شفيعٌ إذا حاطتْ خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا - إلى الشفيع كما جاء في الاياتِ
ولستُ أملكُ شيئاً دونه أبداً - ولا شريك أنا فى بعض ذراتِ
ولا ظهير له كي يَستعين به - كما يكون لأرباب الولايات
والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبداً - كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
وهذه الحال حالُ الخلقِ أجمعهم - وكلُّهم عنده عبدٌ له آتي
فمَنْ بغى مطلباً من غير خالقه - فهو الجهولُ الظلومُ المشركُ العاتي
والحمدُ لله ملء الكونِ أجمعهِ - ما كان منه وما مِن بعدُ قد  ياتي2
وهذه مناجاة تنبعثُ مِن قلب حي، ونفسٍ غمرها اللجوءُ إلى الله والاستظلالُ بظل كرمه.
 
 


[1]- أخذتُ هذه النصوص من كتاب "العلماء العزّاب الذين آثروا العلم على الزواج" للأستاذ الجليل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله, ط4, ص 167 و 166 و 171 و 176 و 178. وانظر: المعجم المختص بالمحدثين للذهبي ص 25، والكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية للشيخ مرعي الحنبلي المقدسي ص83.
2- مدارج السالكين(1/524-525).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين