كيف صاغ النبي الشباب 3 - طلحة ابن عبيد الله ومعاذ بن جبل
كيف صاغ النبيصلى الله عليه وسلم الشباب 3
قدمنا في الحلقتين السابقتين نماذج من الشباب الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم ونتابع في هذه الحلقة استعراض نموذجين جديدين هما: طلحة بين عبيد الله ، ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما .
 طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه :
كما نلحظ من المنهج الثابت لدى رسول الله r في تربية الشباب؛ ملاحظتُهُ طاقةَ القوة والشجاعة لديهم وتوجيهها واستثمارها الاستثمارَ الأمثل الأكمل.
ومن ذلك ما حدّث به جابر بن عبد الله فقال: لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول الله في ناحية في اثني عشر رجلاً، منهم طلحةُ الأنصاري، فأدركهم المشركون، فقال النبي: مَنْ للقوم، فقال طلحة: أنا، فقال r: كما أنت [ أي اجلس ولا تقم فقال رجل: أنا، قال: أنت، فقاتل حتى قتل، ثم التفت فإذا المشركون، فقال: من للقوم، فقال طلحة: أنا، فقال: كما أنت، فقال رجل: أنا، فقال: أنت، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى بقي مع نبي الله طلحةُ فقط، فقال: من للقوم، فقال طلحة: أنا، فقاتل طلحة قتال الأحدَ عشرَ حتى قطعت أصابعه، فقال طلحة: حس([1] فقال r: لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، ثم رد الله المشركين([2]).
وهكذا نرى كيف ادخر رسولُ الله r طلحةَ للمهمة الأعظم، لما علمَ منه، وكيف وجه طاقات الشباب في مكانها، حتى في ميدان الجهاد والشهادة والتضحية، وهو الميدان الأرقى شأناً.
معاذ بن جبل رضي الله عنه :
ونقف مع أنموذج آخر هو معاذ بن جبل، ومعاذ هو أحد أولئك الشباب الذين تخرجوا من مدرسة النبوة العظيمة، وكان فتىً في مقتبل العمر لما قدم رسول الله r المدينة، فلزمه معاذ ملازمةَ الظل لصاحبه، وأخذ عنه القرآن، وتلقى عليه شرائع الإسلام، فكان من آثار ذلك ما حدثنا به يزيد بن قُطيب قال: دخلت مسجد حمصَ فإذا أنا بفتى جَعْدِ الشعرِ، قد اجتمع حوله الناس، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ، فقلت: من هذا ؟ فقالوا: معاذ بن جبل.
وحسب معاذ شهادة رسول الله r له: أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ([3])، وكان أحدَ الستةِ الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله r .
ولقد وضع رسولنا r هذه الطاقات العلمية الفريدة في خدمة الإسلام والمسلمين، فلما فتحت مكة وأقبل الناس على الإسلام عهد النبي r لعتاب بن أُسيدٍ ليخلُف رسول الله r على مكة واستبقى معه معاذاً ليعلم الناس القرآن ويفقههم.
ولما جاءت رسل ملوك اليمن إلى رسول الله r تعلن إسلامها وتسأله أن يبعث معها من يعلم الناس؛ انتدبَ لهذه المهمةِ نفراً من الدعاةِ، وأمّر عليهم معاذ بن جبل.
كل ذلك ولم يكن معاذٌ قد بلغ سن الثلاثين.
إذن كان من هديه r في صياغة الشباب أن يوجههم نحو العلم والامتلاء منه، لمن يرى فيه أهليةً لذلك، ثم يحملهم مسؤولية الدعوة والتعليم، ليقوموا بها على أحسن وجه، وليكونَ ذلك معلماً من معالم صياغة الشباب والإفادة منهم.
تلك أيها الإخوة نماذجُ من هدي النبي r في هدي الشباب وصياغتهم وحسن التعامل معهم، وفهم شؤونهم وتوجيه تطلعاتهم وطاقاتهم، نضعها بين يدي الآباء والأمهات والشباب أنفسهم، لنقول: نعمْ نحن أحوجُ ما نكون إلى الارتقاء نحو تطلعات شبابنا والغوص على عميق مكنوناتهم وأسرارهم، واستثارة طاقاتهم وحسن التعامل معهم وكسب قلوبهم.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة.
وبعد، فإن في السنة النبوية ومنها السيرة العطرة كنوز عظيمة لشبابنا، وما ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض من هدي النبوة، فحري بكل شاب مؤمن أن يقرأ سيرة نبيه r وسيرة أصحابه الأعلام، فإنها تنير الطريق، وتوضح السبيل، وتنهض بالهمم، وترتقي بتطلعات النفس إلى العلى.
 ([1]) « حس » : كلمة توجع، مثل « أوه » ، يقولها الإنسان إذا أصابه أذى أو جرح أو حرق.
([2]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى رقم 4357 و 10455، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 1، ص 27: ورواته ثقات.
([3]) روي بلفظ: « وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل » ، أخرجه الترمذي في جامعه رقم 3790 وقال: « هذا حديث حسن غريب » ، والنسائي رقم 8242 ، وأحمد في المسند 14022 ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين رقم 5784 وقال: « هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه » ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بترتيب ابن بلبان رقم 7131 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين