الحلقة الثالثة والأخيرة من الحوار  مع الشيخ خلدون عبد العزيز مخلوطة

 

 

الحلقة الثالثة والأخيرة من الحوار

 

حوار مع فضيلة الشيخ خلدون عبد العزيز مخلوطة

 

 

 

ماهر سقا أميني

 

  
السؤال الخامس:

 

   أ) هناك من يقول أننا يمكن أن نستمد الأحكام من القرآن والسنة مباشرة كما كان الصحابة والتابعون يفعلون ودون الحاجة إلى المذاهب التي وجدت متأخرة أصلاً؟

 

إن الكتاب والسنة هما الأصلان الأصيلان، والمنهلان الصافيان لاستنباط الأحكام، انطلاقاً من قوله تعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر))، فالردُّ إلى الله يكون بالرد إلى كتابه، والردُّ إلى الرسول يكون بالردُّ إلى سنته، ولكن هناك أصول وقواعد في التعامل معهما، وأسس ومعالم لفهم ما جاء فيهما، فمن أتقنها وتمكن منها حق له القيام باستمداد الأحكام منهما مباشرة، وهذا يكون عبر معرفته بآيات الأحكام وحفظه لها، وما يتعلق بناسخ القرآن ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيَّده، كما يتطلب ذلك علماً بأحاديث الأحكام، وأسانيدها ورجالها، وما يتعلق بهم من جرح وتعديل، وكذلك تمكن من اللغة العربية لتساعده في معرفة دلالات ألفاظ النصوص، ودراسة واعية لعلم أصول الفقه ليساعده في كيفية استخراج الحكم، مع اطلاعه على مواضع إجماع العلماء وما اختلفوا فيه لأنه إذا لم يعلم ذلك لا يؤمن عليه أن يخرق إجماع من كان قبله، ويتوج ذلك معرفته بمقاصد الشريعة وغاياتها السامية، فمن توفرت فيه هذه المؤهلات، وتحققت فيه شروط الاجتهاد فواجبه الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة.
 
أما من لم تتوفر فيه وسائل الاجتهاد، ولم يتبصر بطرق الاستنباط فواجبه استفتاء العلماء، وتقليد الأئمة المجتهدين امتثالاً لقوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))، وبذلك يضمن سلامة دينه بسؤاله أهل الاختصاص في الفتيا والتقوى، كما أن العلوم الدنيوية كالطب والهندسة لا يسمح لغير المختصين بها في مزاولتها بالعلاج والتصميم، فكذلك أحكام الدين لا تؤخذ إلا عن علماء راسخين وفقهاء معتبرين.
 
وقد قرأت في الآونة الأخيرة لأحد كبار دعاة اللامذهبية كيف كان يوجِّه تلامذته إلى الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة فتربى على دعوته وأفكاره بعض الشباب، وساروا على هذا المنهج، فإذا بهم تصدر عنهم فتاوى شاذة، وفهوم عجيبة، وآراء غريبة، فصار أحدهم يقول: إنني أرى في المسألة كذا، وأُفتي بكذا، وقد أخطأ العالم الفلاني وسأصدر كتاباً أرد عليه، بل وصل بهم الحال إلى تبديع مخالفيهم، إن لم يصدروا فتاوى بتكفيرهم، فعندما رأى ما صاروا إليه، والحال الذين بلغوه تراجع وندم، ودعاهم إلى الرجوع إلى كتب الفقه، واحترام أفهام العلماء، والتقيد بما أجمعوا عليه، ووصفهم بالعجب والغرور، وحذر من هذا السلوك الخاطئ، حيث إنهم طاروا قبل أن يريشوا، وأصبحوا زبيباً قبل أن يكونوا حصرماً وعنباً، لأنهم يتعالمون بغير علم، ويتفيقهون بغير فقه.

ب) إن هذه المذاهب قد وجدت من حوالي الألف عام وقد استجد في الحياة كثير من الأمور فلماذا الوقوف عندها؟
إن نشأة المذاهب قبل ألف عام لا يعني إلغاؤها وعدم اعتبارها، ذلك لأن الآراء الفقهية، واجتهادات الأئمة لا تموت بموت أصحابها، كما أن الأقوال والأخبار والأشعار لا تلغى بسبب موت قائليها وناقليها، وخاصة وأن الذين صدرت عنهم هذه الاجتهادات والفتاوى ممن اتفقت الأمة على عدالتهم، وعلو شأنهم، وقوة إتقانهم، ومتانة دينهم، وقد تمذهب على مذاهبهم، وتعبد الله بفتاويهم آلافٌ بل ملايين من العلماء الراسخين، والعارفين الربانيين، والأتقياء الصالحين على مدى التاريخ، وخير دليل على ذلك أنك إذا بحثت في بطون كتب التراجم، وحياة العلماء فلا تجد عالماً إلا وقد اتبع أحد هؤلاء الأئمة الأربعة، وربى على ذلك تلامذته، ونقله إلى من بعده.
أما وقد استجد في الحياة قضايا جديدة فواجب علماء الأمة وفقهاؤها البحث فيها، والنظر في أحوالها لاستخراج الحكم الشرعي المناسب لها، وإن من يتربى على كتب الفقه وآراء الأئمة المجتهدين، ويمارس ذلك بفاعلية وإتقان، تصبح عنده ملكة فقهية، وموهبة علمية يستطيع من خلالها الوصول إلى الأحكام المناسبة لكل المستجدات والقضايا الحديثة، والفقيه الواعي يجد في تراثنا الفقهي حلولاً مناسبة وفق ضوابط شرعية.
 
ب) هل يحتاج المسلم إلى التمذهب على أحد المذاهب وقراءة كتب مذهبه حتى يقوم بما طلب منه مع أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم اختصر الأمر لصحابته وقال صلوا كما رأيتموني أصلي.
 
طالما أن المسلم المعاصر لم تتوفر فيه أهلية الاجتهاد، ولم يتمكن من آلياته وشروطه، فواجبه سؤال أهل العلم واتباعهم، ولعل أفضل طريقة لطلبه العلم وللمفكرين والمثقفين التفقه على مذهب من المذاهب، ودراسة كتاب معاصر مبسط متخصص، والالتزام بما جاء فيه بعيداً عن التعصب والجمود، وذلك للأسباب الآتية: الأول: أن الله هيأ لهذه المذاهب وخاصة المذاهب الأربعة (الحنفي -والمالكي -والشافعي -والحنبلي) علماء أجلاء، وفقهاء متقنين قاموا على خدمتها، وحرروا أقوالها، ونقحوها ورتبوها، وتوالت عليها عمليات رائعة من الغربلة والتصفية من الأقوال الشاذة والضعيفة، واعتمدوا القوي منها المستند لدليل وحجة، الثاني: أنها تقرب أحكام الكتاب والسنة لأنها تنهل من معينهما، وتسهل على القارئ فهمها لأنها معروضة بطريقة منظمة، ومنهجية رائعة، الثالث: إن التزام المذهب الواحد عند ابتداء طلب العلم يجعل صاحبه في رسوخ من الفقه، وتثبت من الأحكام، وهو بذلك يتيقن شيئاً معيناً ثم بعد ذلك إذا أراد التوسع والمقارنة مع المذاهب الأخرى، فحينئذ يستطيع بما ثبت عنده أن يدخل إلى ما هو أوسع منه فلا يقع في حيرة ودهشة واضطراب.
 
ولا أبالغ إذا ما قلت إننا في هذا العصر أشد ما تكون حاجة إلى التزام مذهب فقهي معتبر، وذلك بسبب الاعلام فهو كما أنه قرب البعيد إلا أنه سبب نوعاً من الارتباك لدى المستمع، حيث إن القنوات الفضائية والصحف والمجلات والشبكة العنكبوتية تستضيف علماء وفقهاء (وأحياناً أنصاف فقهاء) كل يفتي حسب مذهبه وقناعته الفقهية ومشربه، والمتلقي يسمع من هنا وهناك، آراء متعددة وأحياناً متعارضة، فيقع في تشتت وتناقض فلا يدري من يتبع، وعندما يكون ملتزماً بمذهب فلن يقع في ذلك، بل إن ما يسمعه يستفيد منه ويزيد في حصيلته الفقهية، وهذا أمر ليس بمبتدع أو مستغرب فقد كان الناس في عهد السلف يلتزمون فتاوى ابن عباس وتلامذته كعطاء ومجاهد في مكة دون نكير، وكان يصيح منادي الخليفة ألا يفتي الناس إلا هؤلاء، وكذلك أهل العراق عاشوا أمداً طويلاً يلتزمون فقه عبدالله بن مسعود، وهذا الحافظ الذهبي في رسالته "زغل العلم" يذكر أهل المذاهب ويثني عليهم، ويذكر خصائصهم، ويقرهم على الأخذ من أئمتهم والتزام اجتهاداتهم دون نكير.
 
إلا أن البعض عندما يسمع تقرير إلتزام المذهب، فلا يفهم من ذلك إلا التعصب المقيت، ولا يخطر على باله إلا أنها تصادم ما جاء في الكتاب والسنة، فيدعو إلى ما يسمى بفقه السلف أو فقه الحديث أو اتباع الدليل، والحقيقة أن الائمة الأربعة هم من كبار علماء السلف وعاشوا في القرون المشهود لها بالخيرية، فمن اتبعهم فإنه لم يخرج عن اتباع السلف، أما فقه الحديث واتباع الدليل فكلنا يدعو إليه، ولكن هذا له أهله ورجاله، والمقارنة بين الأدلة والترجيح بينهما لها أصولها وقواعدها، ولا يصل المتفقه إلى ذلك إلا بعد مشوار علمي طويل، وتدريب على علماء راسخين وفقهاء معتبرين، وليس كما نرى ونسمع بهذه العجالة المختزلة: الراجح كذا، والحق فيها كذا، وقد لا يستطيع أن يقرأ الفاتحة قراءة صحيحة، وهؤلاء إنما يأخذون ذلك عن مشايخ معينين يقلدونهم في آرائهم ويُحرِّمون على الناس تقليد واتباع مذاهب الائمة الأربعة.
 
السؤال السادس:
أ) يقال إن الحق واحد لا يتعدد، ولكنه في الفقه الاسلامي يتعدد، والأحكام تتغير من مذهب إلى مذهب وأنتم تقولون الحكم ونقبضه صحيحان، قد يصعب على العقل تقبل هذا؟
 
اتفق الأصوليون على أن الأحكام القطعية المعلومة من الدين بالضرورة، وقضايا العقيدة الثابتة الحق فيها واحد لا يتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه مثاب، والمخطئ آثم محاسب، كمسألة الإيمان بالله واليوم الآخر، ومسألة وجوب الصلاة على المكلف.
 
أما المسائل الفقهية الظنية فهي محل الاجتهاد (أي الأحكام التي ليس فيها دليل قطعي) وجمهور العلماء على أن الحق فيها واحد، والمصيب واحد له أجران، والمخطئ له أجر واحد، لأن حكم الله واحد في كل مسألة، وهذا لا يتعدد في الواقع وفي نفس الأمر وفيما عند الله، وبالنسبة للمجتهد فإن ما توصل إليه إجتهاده هو الحق الواجب عليه اتباعه، فهو بحسب تصوره واجتهاده حق لا يحيد عنه، وهو حكم الله في حقه، وفي حق مقلديه ومن اتبعه، طالما أنه لم يظهر دليل على بطلان ما توصل إليه، فمن تمذهب على مذهب من المذاهب فهو بحسب قناعته إنه هو الأصوب والأقرب إلى الحق، وغيره يظن خلاف ذلك، وليس معنى هذا أن الحكم ونقيضه صحيحان، بل الحق فيها نسبي، ومثاله أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال للصحابة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فمنهم من أخذ بظاهر الكلام فلم يصل العصر إلا بعد وصوله لبني قريظة، وكان ذلك بعد المغرب، ومنهم من أخذ بفحوى النص، وأن المقصود هو السرعة في الذهاب، فنزل وصلى العصر في الطريق، وقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم الفريقين، فهنا الحق بالنسبة للفريقين متعدد نسبي حسب ما أدى إليه اجتهادهم، وليس من جهة الحق نفسه، وفي هذا تيسير على الأمة، ورفع للمشقة عنها، وما أجمل ما قاله الحافظ السيوطي: (اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون.... والمذاهب على اختلافها كشرائع متعددة، كل مأمور به في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها شرائع بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بجميعها، وفي ذلك توسعة زائدة لها، وفخامة عظيمة لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوصية له على سائر الأنبياء، حيث بعث كل منهم بحكم واحدة، وهو بعث بأحكام متنوعة).
ب) ثم إن هذه المذاهب قد أورثت في فترات من التاريخ نوعاً من العصبية والتفرقة بين المسلمين، حتى قيل إن جماعات متعددة كانت تقوم في المسجد الواحد لاختلاف المذهب.
الالتزام بالمذهب شيء، والتعصب المذهبي شيء آخر، الالتزام بالمذهب يعني اتباع مجتهد أعتقد فيه العلم والتقوى، مع اعتقادي بجواز الانتقال لغيره من المذاهب، وإذا رأيت حكماً في مذهب معتمد فلا مانع من الأخذ به وفق ضوابط بعيداً عن التشهي والأهواء، أو تطلباً لرخص موافقة لأغراض شخصية، مع الاحترام والتقدير للمذاهب الأخرى والاعتراف بفضلهم، أما التعصب المذهبي فهو ممقوت بكل أشكاله، ومذموم بكل صوره، وذلك عندما يقصر الحق على رأي إمامه في الفروع الفقهية، ويريد أن يلزم الآخرين بذلك، ويضيق ذرعاً بمخالفيه، وقد يتهمهم بالضلال، أو يمتنع عن الصلاة خلفهم والتعامل معهم، وهذا جهل شنيع، يدل على ضيق أفق وفساد في التصور، ومرض في الفكر، وقد مرّ التاريخ الاسلامي بفترة محدودة مظلمة من مثل هذا، ثم تعافت الأمة بفضل الله من هذا الداء، وأصبحنا نرى الجميع يصلي وراء بعضهم البعض، ويحترمون جميع المذاهب، ولا يذكرونهم إلا بأحسن الألقاب.
ج) لماذا لا يجتمع العلماء على وضع فقه واحد صالح لكل الناس، وفيما يلزم فقط، دون تفصيل في المسائل التي فات زمنها، والمسائل التي قد لا تلزم إلا المتخصصين، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
إن الدعوة لفقه واحد في ظاهرها براقة مفيدة، ولكن تحمل في طياتها عواقب وخيمة، وتؤدي إلى نتائج سلبية، لأننا بذلك نريد أن نضع قوالب محددة للعقول، تفهم فهماً واحداً، وتفكر تفكيراً محدداً في تناول دلالات الآيات والأحاديث واللغة ومقاصد الشرعية، وهذا خلاف ما فطر الله عليه العقول والأفهام، وكذلك هذا يدعونا لإلغاء قسم كبير من الروايات والأحاديث الصحيحة التي صحت لدى الأئمة المجتهدين واعتمدوا عليها، وهذا يجعلنا لا نحيد عن قول واحد في جميع مجالات العبادة والمعاملات والأحوال الشخصية، وفي هذا مشقة أيما مشقة، وتعسير على الأمة، لذلك رفض الإمام مالك رحمه الله ما عرضه عليه الخليفة أبو جعفر المنصور من حمله الناس على التقيد بما جاء في كتابه "الموطأ" عندما قال: (والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق، ولأحملنهم عليه)، فقال الإمام مالك: (لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، وإن تفعل تكن فتنة)، ويقول الفقيه العلامة مصطفى الزرقا: (توحيد الفقه تصور خيالي ساذج وغير ممكن، واختلاف الفقهاء سعة ورحمة، وإن الخير والأفضل في اختلاف فهومهم واجتهاداتهم، لأن هذا الاختلاف في الفهم والاستنتاج من النصوص، يوجد في الأمة ثروة من الفكر التشريعي هي محل اعتزاز وامتياز للأمة، ويفتح مجالات واسعة لاختيار الحلول الأفضل كلما دعت الحاجة.
السؤال السابع:
 سيدي يقول البعض إن المسلمين قد بالغوا في التفصيل والتعقيد في العلوم الشرعية بقصد وجود طبقة كهنوتية تحتكر العلم والمعرفة والقدرة على الحكم والفتوى، وهذه الطبقة ربما تنحاز لصالح أشخاص أو زعامات أو طبقات معينة، سيدي إن الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم وهم خير الخلق بعد الأنبياء لا يستطيعون تأليف كتاب في العقيدة والفقه والمواريث كالموجودة اليوم، فما الذي يرد به على هؤلاء؟
ينبغي ألا نتسرع في إصدار مثل هذه الأحكام الجائزة القاسية على الجهود الرائعة التي خلفها لنا علماء الأمة وفقهاؤها، لأننا بذلك نجلد ذاتنا، ونقابل إحسانهم وفضلهم بالنكران، وإذا كانت طريقة التأليف في تلك العصور قد شاعت بهذه المنهجية، وكان فناً متعارفاً عليه بينهم، وأسلوب متداول مفهوم بين العلماء وطلبة العلم، فلماذا نلومهم، وهل من العدل أن نقارن أساليبهم مع أساليبنا المعاصرة في التأليف، ثم نعيبهم على ذلك دون مراعاة لطرق ولغة وأسلوب كل عصر وتطوره، أيليق بالبعض عندما يقرأ قصيدة من الشعر العربي القديم ولا يفهمها، فيضيق ذرعاً ويقوم باتهام قائلها بصعوبة منطقه ووعورة كلامه، دون مراعاة لزمن القصيدة ومستوى بلاغتهم.
ولا أساس على الإطلاق لهذه المزاعم الباطلة من تخصيص العلم لفئة دون فئة في حياة المسملين، فلم يكن محتكراً لطبقة معينة في تاريخ الأمة الإسلامية، وهذه كتب التاريخ والتراجم والطبقات امتلأت بحياة العلماء والفقهاء من شتى طبقات المجتمع، وتحدثنا عن مواقف خالدة لهم وقفوا مع الحق، وقاوموا الظلم والظالمين، وانتصروا للضعفاء المظلومين، وهذا كتاب "الإسلام بين العلماء والحكام" خير دليل على ذلك، قضية احتكار العلم فريه يقصد بها تشويه تاريخ أمتنا، وتشبيهه بالمجتمعات الغربية عندما كانت تعيش تحت مطرقة القساوسة وسندان الملك، فلماذا ننقل الأمراض التي ابتلي بها الغرب فنجعلها في جسد أمتنا المعافى من ذلك، إذا كان أصحاب الكهنوت ورجال الدين في أوروبا احتكروا الدين والبحث فيه، وأحاطوا أنفسهم بقداسة، وتسلطوا على الناس بما يسمى بصكوك الغفران، وانحازوا للملوك ضد الشعوب، ووقفوا ضد العلم والعلماء، فكل ذلك ليس موجوداً في تاريخ أمتنا، فلماذا التنكر لجهود علمائنا، ولكن هذا شأن فاقد الهوية وضعيف الانتماء لأمته.
أما ما ذكرتموه عن الصحابة واستطاعتهم للتأليف في الفقه والعقيدة فإنها مغالطة صادرة عن جهل مركب بنشأة العلوم وتطورها، وعدم معرفة الدواعي والأسباب التي أدت إلى تدوينها، وتحديد مواضيعها، وضبط مصطلحاتها، وما صاحب ذلك من أفكار وفلسفات، وما استجد من قضايا ونوازل، فكيف تريد من الصحابة من أن يردوا على من يقول بقدم العالم وأزلية المادة ولم يكن ذلك منتشراً بينهم، وكيف تريد منهم أن يحلوا مسألة من مسائل المناسخات في علم الميراث ولم تحدث في عصرهم.
السؤال الثامن:
سيدي تصدر كل يوم فتاوى غريبة وشاذة وبعضها قد يجعلنا مثار ضحك للعالم، وأنتم أعلم بما أقول، أولاً نريد أن نسأل ما هي ضوابط إصدار الفتاوى ومن هو الشخص المؤهل للإفتاء وكيف يتم الوصول إلى مثل هذه الفتاوى، أنا لا أريد تأصيلاً معرفياً فقط لأن الحديث العام اليوم لم يعد يجدي، أريد منكم ضرب أمثلة مع التأصيل لكي نفهم ما هي الآلية التي تنتج هذه الفتاوى الشاذة!
 إننا أمام واقع مرير يستدعي المعالجة، والتحذير من عواقبه الوخيمة، ولعل مشكلة هذه الفتاوى الغريبة والشاذة تتمثل في جهتين:
الجهة الأولى: هم المستفتون والسائلون الذين يظنون أن كل متحدث في الدين أو محاضر أو داعية أهلاً للفتوى، بل آل الأمر إلى توجيه أسئلة لشخصيات أسلمت حديثاً أو لبعض من الفنانين والفنانات التائبين في قضايا شائكة ومعضلة كالاستنساخ ونقل الأجنة، والذي غاب عن كثير من الناس أن علوم الشريعة الإسلامية لها تخصصات وفروع كما هو الحال في العلوم الدنيوية ومجالات المعرفة، بل أصبح هناك تخصصات ضمن التخصص الواحد، فكما أن الإنسان لا يسأل مهندساً في قضية طبية، أو طبيباً في قضية هندسية، فكذلك الأمر في الفتوى تعتبر تخصصاً فقهياً أصولياً، فليس من درس في أحد علوم الشريعة كتفسير القرآن الكريم والحديث النبوي وشؤون الدعوة أصبح أهلاً للفتيا، فلا تؤخذ الفتوى إلا عن عالم فقيه، منضبط بتعاليم الكتاب والسنة وأقوال أئمة الاجتهاد، ذو يقظة ووعي، متمرس بالفتوى على أيدي علماء موثيقين، عارف بمعاملات الناس، خبير بأحوالهم، بعيد عن اختيار الأقوال الشاذة الساقطة، مع الحلم والأناة والتريث، والحرص على الاستشارة ومداولة الأمر مع العلماء الراسخين.
الجهة الثانية: أولئك الذين يتجرؤون على الفتوى، ويتحمسون للإجابة على أسئلة المستمعين، ولم يمارسوها ممارسة متقنة، ولم يأخذوها من كتب الفقه والفتوى المعتمدة، وقد غاب عن هؤلاء أن الفتوى في حقيقتها إخبار عن الله بما هو مطلوب شرعاً من المستفتي، فإن لم يكن على علم ويقين بما يفتي للناس فإنه يكذب على الله، ويفسد على الناس دينهم، يقول أحد علماء التابعين: (المفتي يدخل بين الله وخلقه، فلينظر كيف يفعل، فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر)، من هنا كان الصحابة يتدافعونها فيما بينهم، ويودّ أحدهم لو كفاه مؤونتها خشية الوقوع في الزلل، حتى أن بعضهم اعتبر من يفتي بغير علم كارثة ومصيبة، يقول الإمام مالك رحمه الله: (دخلت على ربيعة بن الرحمن فوجدته يبكي، فقلت له: ما يبكيك أَمُصيبة نزلت بك؟ قال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، ووقع في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق).
وإذا تأملنا في الأسباب الداعية لظهور هذه الفتاوى الشاذة الساقطة نجدها تعود لما يأتي:
1- حباً في الشهرة والسمعة لتتناقل وسائل الإعلام المختلفة اسمه، ويشار إليه بالبنان، فيدخل التاريخ من مزبلته وأبشع أبوابه، كالفتوى التي صدرت عمن يجيز رضاعة الرجل من المرأة لجواز الخلوة بها.
2- إرضاء أذواق الناس، ومسايرة لهم بحجة التيسير والبعد عن المشقة، كالفتوى التي أباحت للمرأة المسلمة الزواج من الكتابي لإبعادها عن الزنا، أو عدم وقوع الطلاق إلا أمام القاضي للحد من الطلاق ولأجل المحافظة على الأسرة.
3- إرضاء لجهات معينة من أصحاب النفوذ والمناصب والسلطان، أو لمصالح خاصة كالفتوى بإباحة الفوائد البنكية مع إجماع المجامع الفقهية على حرمتها.
4- الانفراد عن جميع علماء الأمة بفهم خاص دون مراعاة للمخاطر التي تحدق بالمسلمين، وما يتربص به أعداؤهم كالفتوى التي تدعو المسلمين للهجرة من فلسطين حتى لا يكون لليهود عليهم ولاية، ثم الجهاد لإخراج اليهود منها، وبذلك نحقق لليهود أعظم أمنية يسعون لتحقيقها من سنوات بعيدة.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين