أستاذنا الإمام الدبان والوقت - الوقت عند الغلامة عبد الكريم الدبان
أستاذنا الإمام الدبان والوقت
د. عبد الحكيم الأنيس
 كبير باحثين في دائرة الشؤون الإسلامية بدبي  
كان للوقت عند شيخنا العلامة الكبير الأستاذ الشيخ عبد الكريم الدبان ( المتوفى سنة 1413 هـ) ـ رحمه الله ـ ([1]) قيمة بالغة الأهمية ، تتجلى في دقة تعامله معه ، وفي حرصه الشديد على ألا تمر دقيقةٌ دون أن تكون ظَرْفاً لعلمٍ نافع أو عمل مأجور .
وكان قد حدثنا أنه لا ينام من الليل إلا ساعتين أو أكثر قليلاً ، وإذا ما انتبه نهض من فراشه فوراً وجاء إلى مجلسه للمطالعة ، وقال : إنه ينام من النهار ليرتاح ، فجال في خاطرنا أنها ولا بُدَّ نومة تمتد نوعاً ما ، وسأله أحد الأخوة الحاضرين : كم تستغرق هذه النومة ؟ فقال مصححاً ما جال في الخاطر من الوهم : نصف ساعة تقريباً .
وكان الشيخ ـ رحمه الله ـ يقضي أكثر وقته ـ إن لم أقل كله ـ في القراءة ، تلك القراءة السريعة والجادة في الوقت نفسه ، ونقرأ قوله في آخر شرح الدواني للرسالة العضدية صـ 158 من نسخته التي كتبها بخطه الجميل : ” هذا الكتاب من الكتب المقررة في المدارس الدينية ، وقد درستُهُ في بداية سنة 1353 هـ على شيخنا مدرس مدرسة سامراء العلمية السيد عبد الوهاب البدري أكرمه الله وجزاه خير الجزاء ... وقد أطلعني بعض الأفاضل على حاشيةٍ لمحمد عبده المصري ، فنظرت فيها يوماً أو بعض يوم ، وأعدتها إلى صاحبها بعد أن استوعبتها ونقلتُ عنها مسائل “ .
ولم ندخل على الشيخ يوماً إلا رأينا طبقات الكتب بجانبه وهو ينظر في واحدٍ منها ، وحين يرهقه المرض يضطجع ويأخذ كتاباً يقرأ فيه .
وله قصيدة لطيفة جداً يعبِّر فيها عن نفسه أبرعَ تعبير أجتزئ منها هذين البيتين :
وكم ليلةٍ أحييتُ والناسُ نوّمٌ * أنادمُ فيها ما لنا القومُ خَلَّفُوا
فيسحرني هذا الكتابُ بما حوى * ويغمرني بالطيفِ ذاك الـمُصَنَّفُ
وهو نادر الخروج من المنزل ، ولا يرغب في السفر كما قال لنا مرة . كلُّ ذلك لاعتكافه على العلم والمطالعة والتدريس ، وحفاظه على الوقت من أن يضيع سُدى ، وقد يطول به الجلوس عشر ساعات لا يقوم من مجلسه إلا للوضوء والصلاة وما شابه ذلك ، وهذا شيءٌ عجيب ونادر في زماننا ، وكم قال لنا ـ مشجِّعاً ـ والشمس تقترب من قبة السماء : لي من الساعة الثانية ليلاً على هذه الجلسة .
وهو يحب ليالي الشتاء لطولها ، وقديماً قيل : الشتاء ربيع الطالب . كما إِنّه مولعٌ بشرب القهوة الـمُرَّة ، ويقول : إنها تساعدني على السهر .
ومرةً جاءه أخ مساءً بكتابٍ في الفقه المقارن كثير الصفحات ، وردَّه إليه في الصباح بعد أن أحاط به ، وتحدث إلى مَنْ معه من الطلاب عما حواه ذلك الكتاب ، مع إبداء ملاحظات دقيقة حوله .
ومن اللطائف المستملحة ما حُدِّثت به أنه جرى بحضرته ذكرُ عالمٍ قَدْ ظهر الأثرُ في مرفقيه من كثرة ما اعتمد عليهما حال كونه جالساً يطالع ، إذ كانوا يضعون الكتاب أمام ركبهم ويميلون عليه كالمحتضِن ، فكشف الشيخ ـ رحمه الله ـ عن مرفقيه فكان فيهما أثر واضح من جراء ذلك .
ومن توفيق الله له أن دروسه التي كان يلقيها على الطلبة قد تبلغ اثني عشر درساً يومياً : من بعد الفجر إلى ما بعد العشاء ـ عدا يومي الجمعة والثلاثاء ـ وكلها دروس محققة مدققة بأسلوب أخاذ ، وتوضيح غريب ، دون أي ملل أو كلل ، مع أنه في العقد الثامن من العمر ، وقد لا يخلو شهرٌ من وعكات في صحته .
وهو في هذا يذكرنا بحال العلماء السابقين الذين كان لهم في حفظ الوقت حكايات وأحوالٌ يقصر دونها الوصفُ والتصديق ، مما لا نملك أمامه إلا أعظم الإكبار وأكبر الإعظام لأولئك الأئمة الذين كانت حياتهم مسابقة مع الزمن ([2]) .
وكان من فقه أستاذنا ـ رحمه الله ـ بالوقت ، ومعرفته بطوارق العوارض ، ومداهمة المشاغل أنه رفض الطريقة التقليدية في التدريس ، فهو لا يرى من اللازم قراءة الكتاب كله عليه ، ولذلك تراه يترك خطبة الكتاب مثلاً ، وإذا ما أوصل الطالبَ إلى نقطة يستطيعُ بعدها الفهم بنفسه يفوِّض الشيخ إليه قراءة الباقي قائلاً له : راجعني عند أي إشكال يعرض لك . ويأخذ في تقرير كتاب أعلى ، وهكذا ...
ومن أقواله : ” لقد تغير الزمن ولم يعد كما كان سابقاً ، كان الطالب يقيم في المدرسة ولا يخرج منها إلا نادراً ، ويستوعب وقته بالقراءة والحفظ والمراجعة ، وهذا غيرُ متيسِّرٍ الآن ، لذلك كان لزماً علينا أَنْ نختط خطة تناسب وقتنا “ . ونقل لنا قول أحد العلماء : ” مَنْ جهل وقته فهو جاهل “ .
وقال لي يوماً ـ وأنا أقرأ عليه ـ : ” إنما أسرع معك مخافة أن يدركني الأجل ، أريد أن أغتنم هذه الفرصة فأعطيك ما عندي من هذه المعلومات القليلة “ .
وقال : ” اقرأ أنت في البيت ، وما تقرؤه هناك نتجاوزه هنا ، وإذا كانت هناك إشكالات نحلها ، كي نكسب الوقت “ .
وكما أنَّ الشيخ سريعٌ في القراءة ، فكذلك هو سريعٌ في الكتابة سرعةً فائقة ، مع الخط الرائق ، والأمن من الغلط ، وقد يكتب خمسين صفحة في دفعة واحدة .
وكان دائماً يحض على العلم والقراءة المتنوعة ، ويأخذ على الطلبة قلةَ مطالعتهم . وما أعذب قوله حين قال مع كثير من التواضع الأصيل في نفسه : ” لقد أدبتني كثرةُ المطالعة ، لأني إذا طالعت كتاباً وجدتُ فيه ما لم أكن أعرفه ، وهذا يعني أني قبل قراءته كنتُ جاهلاً ، وإِنْ وجدت فيه تصحيحاً لما كنتُ أعرفه فهذا يعني أني كنت على خطأ “ . ومن جميل كلامه ما له مناسبة هنا : ” لا أتذكر المال إلا في موضعين : حين أَمُرّ بسوق المكتبات وتطلب نفسي الكتب ، وحين أرى فقيراً معوزاً “ .
وكان من دلائل تقدير أستاذنا ـ تغمده الله برحمته ورضوانه ـ للوقت ملؤه بكل مفيد دائماً ، فحين يتأخر طالبٌ عن جماعته يذاكر الشيخ الحاضرين بمسائل علمية قيّمة أخرى إلى أن يحضر مَنْ تأخر من الطلاب . وحين ينتهي الدرس ويتسع المجال يحدثنا عن أخبار العلماء وأحوال مشايخه ، شحذاً منه للهمم ، وتنشيطاً للعزائم ، وتشويقاً للعلم والمعرفة ، وكثيراً ما نقل لنا قول بعضِ العلماء القدامى حينما سئل : بأي شيء حصّلت هذا العلم ؟ فقال : بمقابلة المصباح والسهر إلى الصباح .
ومن لطيف ما روى لنا عن شيخه العلامة داود التكريتي المتوفى سنة 1360 هـ ـ رحمه الله ـ أنه في شبابه ذهب إلى مدينة الموصل لطلب العلم ، وكان أهله فقراء لا يستطيعون تزويده بشيء ، فاضطر إلى العمل ، فكان يعمل عند حائكٍ من الصباح إلى الظهر ، ويأخذ ثلاثة فلوس ، فلساً للخبز ، وآخر للتمر ، والثالث يشتري به شمعاً ثم ينصرف للدراسة ، ومرت عليه فترةٌ طويلة ، وذاتَ يوم نَزَعَ عمامته ليغسلها ، ولكنه ما إن نشرها حتى تداعتْ بين يديه خيوطاً ، وكان قد مضى زمن طويل دون أَن ينتبه لها ، فتهرت وهو عنها مشغولٌ في طلب العلم والتفاني فيه ، وبذل كل ما في وسعه لأجله .
ومن المستعذب ما حدّثنا به أيضاً عن شيخه الذي يسميه : ” أستاذ الجيل “ العلامة عبد الوهاب البدري السامرائي ( المتوفى سنة 1371 هـ ) رحمه الله ، قال : كنت أرى على كتب الشيخ [ عبد الوهاب ] آثارَ بللٍ ومحو ، وقصّ عليَّ خادمُ المدرسة أن هذا من دموع الشيخ لما كان طالباً ، فقد كانت عيناه تؤلمانه ، ومع ذلك لا يكف عن القراءة في الليل على ضوء شمعة أو مصباح ضعيف ، وتؤثر على عينيه فتدمعان على الكتاب الذي بين يديه .
هذا وإِنّ من أخبار أستاذنا ـ رفع الله مقامه ـ أيام الطلب شغفه بالكتب واستعارته لها أينما وُجدت ، وكم كان فرحُهُ عظيماً حين أَذِنَ له شيخه العلامة أحمد الراوي ـ المدرس الأول في المدرسة الدينية العلمية في سامراء المتوفى سنة 1385 هـ رحمه الله ـ أن يأخذ من مكتبته ما يشاء من الكتب . وكانت لدى الشيخ الراوي مكتبة ضخمة .
وحدثنا أنه لما كان طالباً في مدرسة سامراء ـ وقد أقام فيها أربع سنوات ـ كان لا يخرج منها إلا نادراً ، ويضع عند بعض الطلبة دراهم ليشتري له ما يحتاج إليه ، ولا يرغب في التفسح كما يرغب الطلبة انكباباً على التحصيل . قال : ومرة ألحَّ عليَّ الطلاب بطلب الخروج معهم سفرة إلى ” الملوية “ فوافقتُ ، وبينما نحن وقوف على باب المدرسة يوم الثلاثاء ننتظر قدوم بعض الإخوة إذ انتبهتُ إلى تغير لون الباب ، فسألتُهم : متى صُبغ هذا الباب ؟ فقالوا : قد مضى عليه سبعة عشر يوماً !
وكل هذا التوفر والحذر من أن يكون الوقتُ سيفاً قاطعاً في سبيل الاستزادة والاستفادة ، ولهذا كان لا يدع حاشية ولا شرحاً ولا تقريراً يتعلق بدرسه في أي علمٍ كان إلا قتلها بالبحث والتمحيص والتنقيب .
ومما يُلقي الضوء على تلك الأيام ما رواه لنا فقال : كنا في أيام الصيف ننام على سطح المدرسة ، وكنت أصعد معي بعضَ الكتب والأقلام ، ومِنَ الطلبة مَنْ يأتي بكتاب ليقرأ ، ومنهم مَنْ يأتي بدفاتر وأقلام ليكتب ، ويتوزعون على السطح .. فكنت أرفع رأسي فأرى نصفهم قد نام ، وأرفعه أخرى فأراهم كلَّهم نياماً ، وبعضهم رأسه على المخدّة ، وبعضهم لا ، وأحياناً كنت أقوم وأغطيهم جيداً ، وأعود للقراءة ، ولا أنتبه لنفسي إلا على صوت المؤذن ، وقد ارفع رأسي فأرى ضوء الصباح منتشراً والمصباح بجانبي يتوقد مع عدم حاجتي إليه ، فكنت أصلي الفجر وأنام الضحى .
إذاً فقد كان يحق له أَنْ يُنشد قول القائل :
أأبيت سهران الدجى وتبيته * هملاً وتبغي بعد ذاك لحاقي ؟
وما أراه إلا قد عنى نفسه الكريمة يوم قال : رأينا أناساً يسهرون ويطلع الصباح وهم لا يدرون .
وبعد : فهذه كلمة كتبتها للذكرى والتذكير ، ولبث الفائدة ، وتنشيط الهمة في الوقت الذي تنخفض فيه ” قيمة الوقت “ إلى حد أنه يصبح أسهلَ ضائعٍ وأهون مفقود ، لعلها تبعث كامناً وتحرك ساكناً ، مع علمي بعزوف نفس الشيخ الشديد عن الكتابة والتحدث عنه في حياته ، ولكن لا بُدَّ للورود والزهور من أن يضوع عطرها ويعم طيبها .
رحم الله الشيخ ، وجزاه عن العلم والدين والمسلمين خير ما جزى عالماً عاملاً ، والحمد لله رب العالمين ([3]) .


 

([1]) انظر نبذة عن الشيخ في صدر ” رسالة في التفسير على صورة أسئلة وأجوبة “ صـ 10-14 ، دار البحوث ـ دبي ، ط1 (1424 هـ ـ 2003 م) .
([2]) انظر الرسالة القيمة ” قيمة الزمن عند العلماء “ للأستاذ العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله .
([3]) كتبت هذا المقال في حياة الشيخ عام 1405 هـ ، وعرضتُهُ عليه ، والآن عدت إليه ، وحورت بعض الكلمات من الحاضر إلى الماضي ، وقد بقي الشيخ إلى حين وفاته في (16/11/1413 هـ) يؤلف ويدرّس ويطالع ويفتي ، رحمه الله ورضي عنه ، ورفع مقامه في عليين .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين