حوار مع الدكتور عبد الحكيم الأنيس


د. عبدالحكيم : من أعلى فوائد العلم (الشرعي والكوني) أَنْ يدل الانسان على الإيمان بالله إيماناً صحيحاً راسخاً
 
حوار: محمد توفيق
 
 
س- ما هي نظرة الإسلام إلى العلم؟
 
الإسلام دين العلم، وحسبُنا أن نقول: إن أول آية نزلت – كما هو معلوم للجميع – قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وقد كان هذا إيذاناً بعصر جديد يُمَجَّدُ فيه العلم، ويُحض عليه ويُطلب، ويُذم الجهل ويُحذَّر منه ويُهجر، وقد تتابعت الآيات التي تشير إلى قيمة العلم وفضله وأثره في بناء الانسان والمجتمع، وجاء بعضُها بصيغةٍ تُحَرِّك العقول وتثير العزائم كقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [سورة الزمر:9].
 
ولسعة العلوم والمعارف وتنوعها وتطورها وتقدّمها جاء الأمر الرباني مُعَلِّماً ومُرْشِداً (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) [طه:114] وفي هذا يقول الإمام الطبري: "يقول تعالى ذكره: وقل يا محمد: رب زدني علماً إلى ما علمتني. أمَرَهُ بمسئلته من فوائد العلم ما لا يَعَلْمُ" وهذا وإن كان في ظاهره خطاباً خاصاً إلا أنّ التوجيه الذي تضمنه توجيهُ عام لأنَّ القضية قضيةُ عامة فالازديادُ من العلم أمرٌ لا يستغني عنه أحد، وكلما ازداد الانسان علماً ازداد تمسكاً به، وازدادت معرفته بما كان عليه سابقاً من نقص علمه وقلة معرفته.
 
ونلحظ في الآية المذكورة: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) أن كلمة "علماً" جاءت مُنَكَّرةً والتنكير يفيد العموم، والمطلوب من الانسان أن يسأل الله أن يزيده علماً شرعياً وعلماً كونياً، وهما في الواقع مترابطان متلازمان، وكلاهما يُعَرِّفانِ بالله ويدلان عليه ويسعدان الانسان.
 
كل هذا يدلنا على أنَّ العلم من حيثُ هُوَ قيمةٌ رفيعةٌ، ومنزلةٌ عالية، وأمرٌ خطيرٌ ينبغي للأمة أن تحرص عليه أشد الحرص.
 
 
س- للعلم- بلا شك- فوائد كثيرة فما هي – يا ترى- هذه الفوائد ؟
 
إنَّ من أعلى فوائد العلم (الشرعي والكوني) أَنْ يدل الانسان على الإيمان بالله إيماناً صحيحاً راسخاً والإيمان بما أمرَ اللهُ بالإيمانِ به، ومعرفةِ شرائعه لخلقه، والالتزام بهديه والتمسط بصراطه.
 
إذا كانت السعادةُ الدنيوية أعلى مطلبٍ للانسان يسعى لحصولها وتحقيقها والتنعم بها، فإنَّ الإيمان كفيلٌ بأَنْ يحقق هذه السعادة، وليس في الدنيا فَحسبُ بل في الدنيا والآخرة معاً.
 
والعلم يفتِّح مداركَ الانسانَ، ويوسِّع آفاقه، ويُهذِّبُ فكره، ويشذِّبُ طباعه، ويكشف له أسرار الوجود، وحقائق الأشياء.
 
وهو في حدِّ ذاته مُتعةٌ، عقلية لا تعْدِلُها متعةٌ، ولهذا آثرها عددٌ غير قليل من العلماء الكبار حتى على متعة الزواج والسكن الزوجي فنراهم قد تفرغوا للعلم وتوسيعه وتفتيحه، وطلبه وتدريسه، وتصنيفه وحفظه، ولم يلتفتوا إلى نداء الجسد مهما كان صوتُهُ عالياً، وما ذلك إلا لاستغراقهم في هذه المتع العقلية والذهنية.
 
 
س- نحن في العالم الإسلامي لا نأتي في المراتب الأولى في سلم البحث العلمي، فما هي الانعكاسات السلبية التي نعاني منها من جراء ذلك؟ وما هو الطريق لتجنب تلك الانعكاسات؟
 
 
الآثار السلبية التي نعاني منها واضحةٌ ملموسة في مجالات كثيرة، فنحن نعتمد على غيرنا اعتماداً كلياً أو شِبْه كلي في سائر أمور حياتنا، فغذاؤنا مستورد، وسلاحنا مستورد، وتعليمنا مستورد، ولغتنا مستوردة، وهذا يعني أن الأمة مرتهنة وليس لديها الاستقلال المطلوب في قراراتها ومواقفها وأنها أصبحت أمةً مستهلِكة فقط، والأصل أن يكون أمةً مُنْتِجَةً، تُعطي قبل أنْ تأخذ، وتصدِّر قبل أن تستورد، وتفكر بطريقتها الخاصة، وتقرر حسب قناعاتها ومعتقداتها وموروثها.
 
  وطغيانُ الاستهلاك علينا جَعَلَ عقولَنا في سباتٍ، وأيادينا في شللٍ، وَربَطنا بثقافةِ المورد ربطاً تاماً.
 
والمرجو أن تعيد الأمةُ النظرَ في واقعها، وتعيد الخطط اللازمة لمستقبلها، وتسعى حثيثاً لكفاية ذاتها بذاتها في أمورها الصغيرة والكبيرة.
 
إنَّ أهمَ أمرٍ أن يكون لدينا العزمُ والتَصميمُ على التصحيح وعلى تحرير قرارنا، وحفظ سيادتنا، وأن نتخلى عن ثقافة الاستهلاك، وأن نعمل بالترشيد في مفاصل حياتنا كلها، وأن نستغل أراضينا، ونشغِّل أبناءنا، ونستثمر أموالنا وطاقاتنا بأنفسنا.
 
ونحن لا ندعو إلى مقاطعة العالم، فهذا غير ممكن بداهةً، وإنما ندعو إلى ما يلحقنا بركب الحضارات التي كنا ساداتها وصُنَّاعَها ورُوادها، وندعو إلى تنشيط الحركة الصناعية في بلاد المسلمين، ونقصد الحركة الصناعية الكبرى التي تهتم بالطائرة كما تهتم بالابرة، كما ندعو إلى تنويع مصادر الدخل التي تتيح لنا حرية الاختيار وتؤمن لنا البديل حين تمسُ الحاجةُ إلى وجود هذا البديل، فلا بُدَّ أن يكون إلى جانب النفط – مثلاً - تجاراتٌ وصناعاتٌ وزراعاتٌ قويةٌ فاعلة ناهضة يسير بعضُها إلى جنبِ البعض في اتجاهٍ واحد.
 
 
    لقد قَدَّمنا للعالم الكثيرَ الكثيرَ في سائر جوانب الحضارة والرقي والثقافة والعلوم والمعارف والآداب، ومن حقنا أن نعود إلى ما كنا عليه، وهذا بإمكاننا حقاً.وإنني هنا أدعو شبابنا وشوابنا وأدعو الأجيال إلى القراءة الواعية لما جاء في الكتب الآتية:
 
   "حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي" للأستاذ جلال مظهر.
 
   و"الإسلام والحضارة العربية" للأستاذ محمد كرد علي.
 
   و"شمس العرب تطلع على الغرب" للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه.
 
 و" أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية" الذي صدر باشراف مركز تبادل القيم الثقافية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة لتربية والعلوم والثقافة (يونسكو).
 
و"أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية" للأستاذ أحمد علي الملا.
 
و" دور الحضارة العربية الإسلامية في النهضة الأوربية" للأستاذين هاني المبارك وشوقي أبو خليل.
 
وأخيراً كتاب " تاريخ ضائع: التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه" للكاتب الأمريكي مايكل هاميلتون مورجان، وفي هذا يقول الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك عن الحضارة العربية بأنها: " هي التي أنقذت أوروبا عندما كانت جاهلة، متعصبة، منغلقة على ذاتها".
 
            لقد كان وعيُنا الحضاري، ومعرفتُنا بقيمة الزمن، ونظرتنا العاليةُ للعمل، وتفانينا في الاتقان، ورغبتُنا الأكيدةُ في التجديد، وصدقُنا في طلب العلم، وانسجامُنا مع مقررات ديننا ... لقد كان كل هذا قائماً واضحاً يحكم مسيرتنا الحياتية، وينظِّم كلَّ مفرداتها ... ولا أدري ما الذي أصابنا فرجعنا وتأخرنا، وتقهقرنا وصرنا عالة على الآخرين حتى في اللقمة التي نأكلها والثوب الذي نلبسه، واللغة التي نتفاهم بها!!
 
    لا بُدَّ من الاعتراف أننا متأخرون كثيراً، وجامعاتنا تخرِّجُ أجيالاً مكرورة معادة لا تُحسن الابداع والابتكار، والبحث العلمي عندنا متأخر ولا يُنفق عليه الانفاق المطلوبَ الذي يشجعه ويُخْرِجُه من عزلته المميتة، ونحن حين نقارن الانفاق على البحث العلمي في الدول العربية بالانفاق في الدول المتقدمة صناعياً وتقنياً نشعر بالخجل والأسف والحيرة، فهل نراجع حساباتنا وهل نعمل جادين للتغلب على معوقات البحث والنهوض والتقدم؟ نأمل ذلك.
 
- هل الأمة الإسلامية مؤهلة في ظل أوضاعنا الحالية لحمل راية التقدم والحضارة من جديد؟
 
     أقول من غير تردد ولا تلبّث: نعم، وإنما يبزغ الفجرُ بعد اشتداد الظلام، وكيف يسعُ مسلماً أن يقول: لا واللهُ عز وجل يقول: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9]. وهذا وعدٌ رباني صريح فلا بد أن يظهر هذا الدين وأهله ويقودوا البشرية من جديد.
 
            والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ مبلغ الليل و النهار و لا يترك اللهُ بيتَ مدر و لا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز وبذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام، و يذل الله به الكفر)) رواه أحمد (16998).
 
   والمبشرات في ذلك كثيرة.
 
   وإذا رجعنا إلى الأمة الإسلامية وجدناها لا تشكو من قلة عدد ولا مالٍ ولا كفاءات ولا عقول مبدعة، فقد حباها الله من ذلك كله الشيء الكثير على اختلاف أقطارها.
 
            وكثير من نهضة الغرب راجع إلى عقول عربية مسلمة في الحاضر والماضي.
 
   نعم إن الأمة الآن تفتقر إلى (إرادة النهوض) من جديد، فإذا وجدت الإرادة المرتبطة بالاستعانة بالله، والمستهدية بالتوجه القرآني إعداداً واستعداداً، وتخطيطاً وتنفيذاً حققتْ عند ذلك ما تطمحُ إليه.
 
   وإنّ لها مٍن تاريخها المجيد، وانجازاتها الرائعة، وتجاربها الغنية ما يُساعدها على حمل الراية، والوصول إلى الغاية، شريطة أنْ توحِّد التلبيةَ، وتجمِّع الألويةَ، وتحرر قرارها، وتصحيح مسارها.
 
   وأقول:
    إِنّ قوماً بنوا حضارة َ أمسٍ                وهي حبٌ ورفعةٌ وصلاةُ
    سيعودون والإسلامُ نشيدٌ                  يملأ الأفقَ والقلوبُ شداةُ
    تتهادى مواكبُ الحب فيهم               وتدانى المواكب الأشتاتُ
 
وإنَّ من أشد الدواعي إلى عودة الأمة إلى مكانتها الريادية والقيادية حاجة العالم المنكوب إليها، وإلى ما عندها من هداياتِ الوحي الأخير، هذه الهدايات الربانية الهادية الكفيلة باستنقاذ الإنسان من عذابه وآلامه وحيرته وضياعه.
 
            وعلى كل مسلم أن يعمل لهذا الهدف النبيل، أينما كان موقعه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين