إرادة الاعتقاد

 
 
ماهر سقا أميني
 
إرادة الاعتقاد مصطلح فلسفي نحته الفيلسوف وليم جيمس في بداية القرن العشرين، وبعيداً عن السياق الفلسفي للموضوع فإنني أطرحه هنا في سياق ترشيد الخطاب الإسلامي وصولاً به إلى أعلى مستويات الأداء والتفاعل مع المسلمين وغيرهم، فالعلاقة بين الحقيقة والاعتقاد بها ليست علاقة بسيطة وخطية كما يتصور معظم أصحاب الخطاب الإسلامي، إننا - كبشر- كثيراً ما نعتقد بأشياء لأننا نريد الاعتقاد بها، وإرادتنا هذه آتية من مجموعة معقدة من العوامل المتشابكة النفسية الداخلية والخارجية البيئية، فالإنسان المتدين الذي يعتقد بعوالم الغيب ربما نشأ وعاش ويعيش في بيئة لديها هذا الإيمان، والخروج عنها قد يعرضه لضغوط اجتماعية هو في غنى عنها، كما أنه يمكن أن يكون ممن يحققون توازناتهم النفسية ودفاعاتهم - بالتعلم والاكتساب - من خلال هذا الإيمان، في حين أن الملحد يمكن أن يكون ممن يرون في التدين التزامات أخلاقية وسلوكية لا يرتاح لها، كما أن لدور البيئة المحيطة به دوراً محتملاً في تغذية الإلحاد عنده .
 
إن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فإرادة الاعتقاد تستمر في تغذية اعتقادها من خلال (الإدراك) الذي ثبت أنه انتقائي، بمعنى أن من يريد شيئاً يلتقط بصورة غير واعية كل ما يحقق له هذه الإرادة، ومن يؤمن بشيء لا يدرك من واقعه إلا ما يتفق مع إيمانه ويستبعد إدراكه بصورة آلية غير واعية كل ما يصدم إيمانه، فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الأفعال الإرادية نجد أن المؤمن بشيء يتابع من الأخبار والأفكار ما يتفق مع إيمانه ، ويدخل في علاقات اجتماعية كالصداقات والجمعيات والندوات وحتى العلاقات الافتراضية اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي تجعله مرتاحاً إلى ما اختار من اعتقاد، الملحد كذلك يغذي إلحاده ويرتاح إليه عن طريق تتبع كل ما يدعم سياق فكره الذي يحوم حول الإلحاد، إذن فالاعتقاد ليس مجرد نتيجة مباشرة لعرض الحقيقة أمام الإنسان، ولا يكفي مجرد إيراد الأدلة والوعظ للوصول بالمرء إلى الاعتقاد .
 
ويمكن القول إن الاعتقاد جهاز نفسي وفكري معقد، وعلى من يريد أن يدعو الناس إلى الإسلام أو الايمان أو تفاصيلهما أن يعي هذه الحقيقة ويدرك أن خطابه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ليس مجرد ما يراه حقائق واضحة كالشمس وإنما أيضاً المخاطب بكل تعقيدات العوامل وراء إيمانه أو إسلامه أو إلحاده .
 
سأضرب مثالاً يبسط القضية قليلاً، فالإنسان المدخن لا يميل إلى الاقتناع بأضرار التدخين، ويعلل نفسه ويبرر للآخرين أنه يعرف كثيرين عاشوا أعماراً طويلة وهم يدخنون، وهو يتهرب من سماع أية أخبار أو معلومات تتصل بأضرار التدخين، ويدخل في صداقات مع مدخنين تكون له جلساته معهم مما يكرس عادة التدخين لديه بارتباطها بجلسات السمر التي يتم التدخين فيها، ومثل هذا الإنسان إن جلست تعظه حول أضرار التدخين مئة عام فلن يغير من أمره شيئاً، وهو (لا يريد) أن يعتقد بأضرار التدخين، لأسباب كثيرة منها النشأة بين مدخنين والإدمان النفسي والعضوي على التدخين وكون هذا الأخير قد ارتبط لديه عبر سنوات بساعات الهم يفرج به عن نفسه، وبساعات السعادة يزيد به متعته وبساعات التفكير ينبه به دماغه، وباختصار فإن مجرد الوعظ في حالة كهذه وفي كل حالات الاعتقاد والرأي لا يجدي مادمنا لا ننظر إلى جهاز الاعتقاد والإيمان على أنه جهاز نفسي عقلي معقد لا بد من إيجاد مدخل إليه لتغييره من داخله لا مجرد الانهيال عليه بالنصائح والعظات والأحكام والمعلومات .
 
فإذا انتقلنا إلى الإيمان وجدنا أنه يزيد على الاعتقاد - الذي قد ينجم عن معلومات أو محاكمات - بجانب نفسي عاطفي فيه كثير من الثقة والتسليم، إن المؤمن لا يقف عند حدود ما اقتنع به عقله، بل يزيد على ذلك إيماناً بقضايا يبنيها على الثقة المعتمدة على اعتقاده الذي وصل إليه، أضف إلى ذلك الحمية لما يعتقد به والذي تحول إلى هوية تسمه في مجتمعه بحيث أن الاعتداء عليها يعتبر اعتداء عليه هو نفسه، ومن هنا نجد بعض الملحدين يتساءلون أو يستهزئون بقضايا إيمانية قافزين فوق (الاعتقاد) نفسه الذي أدى عند المؤمنين إلى التسليم بها .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين