مفارقات بين رحيل حاكم ظالم ومجيء حاكم عادل

أ.د. صلاح الدين سلطان

الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
 
كنت في اليومين على منصة التحرير، وهناك فرق بينهما كما بين السماء والأرض، وإن اشتركا في فرحة غامرة ملأت قلوب أكثر المصريين، بل ملايين البشر في العالم عبَّروا عن فرحتهم لمصر والأمة والعالم، لأن مصر كما قال الشيخ علي الطنطاوي العالم السوري: "هي مصدر الخير والشر لأمة الإسلام فما يجري فيها ينتقل تلقائيا في دول العالم العربي والإسلامي بحذافيره"، ولذا كان يوم رحيل مبارك أسود يوم على بني صهيون وأعداء الإسلام، وأشد سوادا منه يوم نجاح د.محمد مرسي بالانتخاب وليس بالقهر والتزوير، وقد عبَّر القرآن عن فرحة المسلم بذهاب الظالمين في قوله تعالى: " فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام:45)، واليوم في ذكرى رحيل مبارك أذكر لحظة في غاية الأهمية وهي وقت صلاة الجمعة، وقصتها أنني جئت وأسرتي كلها من البحرين وأمريكا للتحرير مشاركين الشباب والرجال والنساء والفتيات، واتصلت بأمي الحنون رحمها الله قائلا: أستسمحك أماه أنني لن آتي من المطار إلى حضنك الدافئ كعادتي وحقك، بل سأذهب للتحرير بإذن الله ولن أخرج حتى يرحل عن كاهل مصر حسني مبارك، فرضيت أمي وأمطرتني ومصر بوابل من دعواتها الثرية النقية القوية، وفي يوم الخميس توقع العالم كله أن يتنازل لكنه ظل معاندا حتى النفَس الأخير، وهنا رأيت في التحرير شبابا وفتيات رفعوا الأحذية، وهتفوا صارخين بسقوطه ونظامه، وأغشي على بعضهم، وطلبت الكلمة، وكان مما قلته يومها: إنَّ فتْح العراق وخراسان، والشام وفلسطين، وليبيا والمغرب العربي لم يستغرق من كل فاتح سوى عدة أشهر، إلا مصر فقد استغرقت أربع سنوات من الصحابي الجليل، والقائد الحكيم، والسياسي البارع، والعسكري المحنك، عمرو بن العاص ومعه خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بنا بذنوبنا، وأن الصحابة قد صبروا لفتح مصر سنوات أربع حتى وصل الإسلام إلينا، فإذا ظننتم أن 18 عشر يوما تكفي لتغيير وجه التاريخ بمصر فأنتم واهمون، ودعوت لصمود الرجال، وصبر الأبطال، وعزائم الأحرار، واحتساب الأبرار، وفي يوم الجمعة صباحًا توافد الملايين على الميدان فاقتُرح أن تكون هناك خطبة ثانية، تستوعب هذه الملايين، وبسرعة تم إعداد منصة أخرى للجمعة في مواجهة المتحف المصري، ورُشحت أن أكون خطيب الجمعة فوافقت، وخرجت للجمعة سائلا ربي أن يجعلني سببا في رحيل الظالمين عن كاهل مصر، وبدأت خطبتي أرد على المفتي آنئذ وبعض التيارات التي أفتت بحرمة الخروج على حسني مبارك تحديدا، وأن من فعل ذلك لعنه الله لأن الفتنة نائمة ملعون من أيقظها، وأخذت أدلل على وجوب الرباط حتى يرحل مبارك ونظامه وأوله عمر سليمان، وذكرت من ألوان مخازيهم من الاستهزاء بالله وبرسوله، وبالقهر للمؤمنين، والذلة على الكافرين، خاصة الصهاينة المعتدين، وسلب ونهب عرق وجهد الكادحين، وقلت يومها إن مبارك وعائلته وحاشيته قد سرقوا من كل مواطن 120 ألف جنيه على الأقل، وأثناء الخطبة كان هناك أمران: الأول هو الكارت الذي جاءني من أحد مسئولي الميدان ومنصة الجمعة أمام المتحف المصري، وهو المهندس سعد الحسيني محافظ كفر الشيخ الآن، فغير مسار الخطبة في اتجاه أسهم - بفضل الله - في سرعة رحيله في هذا اليوم، وأترك تفصيله للمهندس المحافظ، لكنه كان بحق آية من آيات الله، والأمر الثاني هو الدعاء الذي ألهمه الله للشيخ محمد جبريل بعد خطبة الشيخ مظهر شاهين، وكنت لازلت في الخطبة الثانية أدعو على حسني مبارك وزبانيته، وساعتها أقسم بالله أني نظرت لوجوه المصريين الصادقين المرابطين، وهم يؤَمِّنون من قلوبهم، ويتوسلون من أعماقهم، ونظرت في سماء التحرير، وشعرت بأن الأبواب كلها مفتَّحة للقبول، وجاءني يقين لا شعور بأن هذه آخر أيام مبارك، وخشيت من ذنوبي أن أعلن ذلك، وقد جاءت البشارة ونحن نصلي المغرب في الحديقة أمام مجمع التحرير، بعد حديث رائق مع الشباب الحيارى عن الأمل والرباط، وكانت كلمات د.م.محمد سعد، ود.أيمن الغايش بلسمًا لهذا الشباب، وجاءت البشارة ونحن بالمحراب نصلي سجودا نتوسل إلى الله، فمنَّا من أتم صلاته وسجد شكرا لله أولا، ومنا من أخذه الحدث فخرج من صلاته مهللا مكبرا، فرحا باكيا، سعيدا مندهشا، راغبا وراهبا، جاريا وماشيا، صارخا وصامتا، مسلِّما مهنِّئا، ودخلت الميدان مع أسرتي، ثم طلبت من زوجتي وبناتي أن يتخذن مكانا ثابتا، ونزلت لقعر الميدان فكان أول منظر أراه سربًا من الشباب يمسك بطرف الآخر قائلا منشدا بالمصري: "بُكرة أتوظّف وأتجوِّز"، ولا يجوز لنا الآن أن ننسى في خططنا هذا الشباب توظيفا وتزويجا، فلولا الله ثم صمود الشباب ما كانت ثورة ولا رحيل حسني مبارك، ومجيء د.محمد مرسي.
 
أما يوم نجاح د.مرسي فقد كان آية أخرى، حيث كنت على المنصة أجد الشباب والسياسيين يتكلمون ويهددون من تزوير الانتخابات، وقلت يومها على المنصة: أحذر المجلس العسكري من الإشراف والضغط لتزوير الانتخابات لصالح شفيق- حيث كانت كل الدلائل تشير لذلك – وقد غرد مصطفى بكري المقرب من المجلس العسكري - أن الحرس الجمهوري توجه صباحا لبيت أحمد شفيق ليستلم الأمر أول إعلان النتيجة وقلت: لن نترك الميدان إن زورت الانتخابات، وقد كان مبارك أقوى شكيمة وقد أودعه الله السجون هو وأولاده بظلمه وتزويره وعناده، وكان الحديث السياسي غالبا، لكني رأيت رجلا من خيرة العلماء والمرابطين، وأعتقد أنه أكثر العلماء رباطا في التحرير، ووجودا في المواقف الصعبة، وهو الشيخ الدكتور جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية، وجدته قد نزل من على المنصة واتخذ من دون الناس حجابا تحتها يدعو متوسلا، ويتبتل متضرعا بمنهج: " فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا" (الأنعام: من الآية43)، وهنا جاءتني فكرة عرضتها على إخواني في المنصة وأوصلوها للدكتور أسامة ياسين وزير الشباب مسئول المنصة آنئذ، وهي أن نتوقف قبل إعلان النتيجة بساعة عن كل الكلام في السياسة، وأن ندعو الله مع الميدان كله أن يختار لمصر من يصلحها، وأن يلهم القضاة العدل والإنصاف، وألا يدخلوا على مصر تزويرا بعد الثورة، وكان اقتراحي أن يكون الدعاء من شيخنا د جمال عبد الهادي، ووافق الجميع على الفكرة لأن القلوب كلها كانت قد بلغت الحناجر من توقع التزوير لصالح شفيق وأذناب مبارك، لكن د.جمال اعتذر لضعف صوته، وقال لهم: "خلُّوا د صلاح يدعو ونحن نؤَمِّن"، فقلت لهم: والله لدعوة منه – مع ضعف صوته - خيرمن دعائنا جميعا، لكنه أصر على الرفض، وقبلت الأمر، وفتح الله قلبي برحمته في التبتل والدعاء، ورأيت وجوه المرابطين في التحرير، وتأمينهم من أعماق قلوبهم، فتذكرت لحظة رحيل حسني مبارك وقت الدعاء أثناء وبعد خطبة الجمعة فأيقنت مرة أخرى أن اليوم سيكون تاريخيا في نجاح العالم المهندس السياسي الحافظ الدكتور محمد مرسي وجاءت صلاة العصر فصلينا، وجاء الفرج قويا مؤثرا، وسجد الجميع شكرا لله كما سجدوا يوم رحيل مبارك، وعلت الأصوات بالحمد والثناء على الله والتهليل والتكبير، كأن يوم رحيل حسني مبارك قد افترقا في ذهاب حاكم ظالم ومجيء عالم عادل أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا، واجتمعا في الفرحة الغامرة بفضل الله على مصر والعالم.

يا قوم بالأمل والعمل والدعاء والقنوت ننال الحسنيين التمكين والنصرة في الدنيا، والمغفرة والجنة في الآخرة، والمشوار طويل أكثر من زمن الصحابة قطعا، لكن المفتاح كما هو الأمل والعمل والدعاء وحسن التوكل على الله تعالى، قال تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا" (سورة الطلاق من الآية: 7). ن هذا آخر أيام مبارك

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين