مفارقات بين الاغترار والانكسار

أ.د.صلاح الدين سلطان

الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر
 
الاغترار مرض عضال يصيب القلب فيُهلك الإنسان في الدارين، لما رواه مسلم في صحيحه بسنده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" وقد كانت أول كبيرة وجريمة ترتكب في الوجود هي الاغترار والاستكبار من إبليس اللعين عندما أمره الله تعالى أن يسجد لآدم فأصابته لعنة الغرور فقال: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" (الأعراف:12)، ولذا يُسمى إبليس " الغَرور" كما جاء في تفسير قوله تعالى " فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" (فاطر:5) أي الشيطان، ثم صار داء الفراعنة الظالمين الاغترار والاستكبار، فهذا فرعون يحتقر قومه مستكبرا عليهم فيقول: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" (غافر:29)، وقال: "ما علمت لكم من إله غيري" (القصص:38)، فكان مصيره هو الغرق، وصار يهتف أنه مثل أي واحد من بني إسرائيل فقال له ربه: "آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية" (يونس:91).
 
والعجيب أن يتحول الإنسان إلى حالة من الاغترار والاستكبار تفوق إبليس نفسه، فقد كان ولا يزال إبليس يعترف أن الله تعالى هو اللهوحده لا شريك له، لكن فراعنة هذا الزمان قد أصيبوا بداء الاستكبار على الله تعالى بالكفر والعناد، واستكبروا على الناس حتى ظنوا أن العباد جميعا خلقوا لخدمتهم وربما لعبادتهم، واليوم ترى من بقايا الفراعين جزار الأسد الذي يستكبر عن الرجوع للحق، ويمعن في القتل بأبشع ما عرف على مدار التاريخ، وأرذل ما يحدث نحو النساء والأطفال، وقد ظل من هو أطول عمرا في الطغيان والاغترار وهو حسني مبارك يسخر من شعبه الذي يسخط من نتائج الانتخابات المفضوحة في التزوير؛ فيقول: "خليهم يتسلوا" وظل القذافي مستكبرا مهددا أنه سيسحق الجرذان "أي شعبه" في كل "دار دار، وزنجة زنجة..." حتى قُتل في ماسورة مجاري؛ بكبره على الله ثم الناس، وهناك من اعتبروا شعبهم كله صراصير لا تستحق غير الاحتقار والسحق وقتما يريد الجزار صاحب الاغترار.
 
وعلى كل تأبى إرادة الله إلا أن تذل أنف المغرورين والمستكبرين، وقد أقسم لي أحد المسجونين أنه يعرف ظالما كان من أوغاد التعذيب للإسلاميين، وكان عندما يرجع لبيته لا تضربه زوجته إلا بالحذاء على رأسه، فيأبى عدل الله تعالى إلا أن يذل ويكسر كل أنف تورم على الله، أو تعالى على الضعاف من عباد الله، أو استكبر واغترَّ أن يرجع إلى الحق الأبلج الذي يسطع مثل الشمس في رابعة النهار، فيتكرر قانون الله تعالى على كل الفراعين الصغار أو الكبار، لأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن عاد وثمود والفرعون قال عنهم جميعا:"الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (الفجر:11-14) فالمرصاد سيظل وراء كل أصحاب الاغترار والاستكبار، ولابد من اليقين أن الله تعالى لا يرضى أن يبقى في ملكه مستكبرٌ على الله ذلةً وعبادةً، وعلى الخلق تواضعًا ورعايةً إلا قصمه وأذله وكسره وهزمه وقهره وقطع دابره، حتى قال تعالى بعد عدد من القصص القرآني في سورة القمر: "أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر* سيهزم الجمع ويولون الدبر"(القمر: 43-44).
أما أهل الانكسار بين يدي الله تعالى فيذرفون الدمع سخيا كما قال تعالى: "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا" (مريم:58) فهم أصحاب سجدات اقتراب لا اغتراب، وقلوبهم لا تعرف مع الله غير الذلة والانكسار، وهم أبعد ما يكونون عن الاستكبار كما قال تعالى:"إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون" (السجدة:15) وهؤلاء من فرط انكسارهم في الدعاء متضرعين، وانغماسهم في الذكر خاشعين، لا يرون النعمة قبل المنعم، ولا يرون أنهم مهما أُتوا من المال أو الجاه أو العلم إلا أن هذا محض فضل على عبد لا يستحق منه شيئا فهو هبة وليس عوضا، وفضل وليس عدلا، ومنحة لا محنة، وخير لا شر فيه، ونور لا ظلمة معه، فالفضل منه وإليه، وهو سبحانه وحده ذو الجلال والإكرام لقوله تعالى حصرا وقصرا:"وما بكم من نعمة فمن الله" (النحل:53)، فهذه نكرة "من نعمة " في سياق النفي "وما بكم" فتشمل كل النعم دقِّها وجلِّها صغيرها وكبيرها، فيتضلع المسلم مع معين العبودية لله تعالى، حتى إذا خرج إلى الخلق لم يرَ له عليهم من مزية، بل يرى الناس دوما خيرا منه بميزان ومنهج عمر بن الخطاب عندما قال: (إني لأوقِّر الكبير لأنه أكثر مني فعلًا للخيرات، وأقدِّر الصغير لأنه أقل مني فعلا للسيئات)، ولله در سيدنا إبراهيم خليل الله على علو منزلته، وحفيده الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم عندما كان دعاؤهما: "توفني مسلما وألحقني بالصالحين" (يوسف: 101)، ومن هذه الشجرة العظيمة الرائدة في التواضع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو كثيرا:"اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين" (رواه الترمذي من حديث أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب) ولما دخل مكة كان يخفض رأسه ويسبح ربه مستغفرا، حتى إن لحيته الشريفة لتكاد تلمس ظهر دابته لا بطرا على الحق، ولا غمطا للخلق، ولا شماتة في أحد بل تواضع القوي، وعفو الأبي:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فكانت منازله عند لقاء ربه سبحانه أن قال صلى الله عليه وسلم:" اللهم الرفيق الأعلى" (البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها)، فمن أراد أن يقترب من الحبيب محمد صلى الله عليه في الملأ الأعلى فليغترف من فقه الانكسار مع الحق، والتواضع مع الخلق، ومن أراد أن يصل إلى السحيق الأدني فليسلك مسلك أصحاب الاستكبار والاغترار، لكن مع اليقين أن قاصمة الظهر قادمة لا محالة، "فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" (فاطر: 43)، فتخلُّوا عن الاغترار وتحلُّوا بالانكسار يرضَ عنكم الله الواحد الغفار.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين