الدين والتراث


ماهر سقا أميني
 
إذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة المشرفة هما أصل الدين الموحى من السماء فإن ما تراكم خلال القرون من تفسيرات وشروحات واستنباطات وأحكام هي جهود بشرية يمكن أن يكون لها وعليها، ويمكن أن تكون صالحة لزماننا كما يمكن أن تكون مما لا يصلح إلا للزمان الذي وقعت فيه، على ألا يعني ذلك استخفافاً بكل التراث الفقهي والكلامي - ومعظمه نافع ومجدٍ وثري - ولا تضييعاً لجهود من سبقونا إلى الاجتهاد والفهم والتفسير والتحليل .
 
وتقرير هذه الحقيقة لازم وضروري لأن معظم من يتحدث اليوم باسم الإسلام يتعامل مع كثير من أقوال من سبق كأنها من أصل الدين لا تمكن مناقشتها أو مراجعتها، فنحن بين فريقين: الأول يعتبر كل ما قيل وكتب في الإسلام وعنه منه، والثاني لا يعترف إلا بالقرآن الكريم وأحياناً بصحيح السنة ناسفاً جهود كل من سبق ولحق وصولاً إلى أن الإسلام لا يزيد في أحوال كهذه عن قيم وأخلاق عامة وبعض العبادات والمعاملات، ومن الواضح أن الفريقين ليسا على حق، وأنه لا بد من وجود ضوابط لفرز القيم والثابت والمشترك من جهود السابقين واللاحقين عن الغث والمتغير والمؤقت مما يمكن تجاوزه وإهماله وعدم الالتفات إليه .
 
مشكلة (التراث) الإسلامي مشكلة استنفدت الكثير من الجهود والبحوث، كما أثارت وأثير حولها الكثير من المعارك، والأصل في المسألة تحديد ما هو المقصود من كلمة (التراث)، فإن كان مما تعنيه أنه مما ورثه جيل عن جيل من جهد بشري معرفي ثقافي أو علمي، فإنه من المؤكد عندها أن (القرآن الكريم) و(السنة المطهرة الصحيحة) ليسا من التراث بأي معنى من المعاني، لأنهما وحيان من السماء وهما فوق التاريخ وأدواره في إنشائهما، ولكن معظم المشاريع الفكرية الحداثوية تتجاهل عن قصد أو عمد هذا التفريق لتجعل من القرآن والسنة جزءاً من التراث الإسلامي يصدق عليهما ما يصدق على غيرهما، وما يقوله الحداثيون عن طبيعة القرآن الكريم والسنة المشرفة المرحلية هو مجرد كلام عام أصله (عدم الإيمان)، وإن واربوه، وهم لا يملكون مثالاً واحداً على ادعاءاتهم، فمن جهة هم يتجاهلون (المشترك الإنساني العام ) عبر التاريخ مع أنهم لا ينسونه أو يتناسونه عندما يتحدثون عن أرسطو أو أفلاطون أو يوريبيدس، ومن جهة ثانية لا يؤمنون بقدرة الله عزوجل مع علمه الأزلي على تنزيل وحي يكون فوق المتغيرات البشرية ويصلح لجميعها، بل يصلح (بضم الياء وكسر اللام) جميعها، يتحدث البعض عن التنجيم في التنزيل (تنزيل الآيات تباعاً خلال فترة الوحي بكاملها)، وعن نسخ قليل من آيات القرآن الكريم تلاوة أو حكماً، وعن أسباب النزول حيث نزلت بعض الآيات استجابة لظروف أو أحداث معينة في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويعتبرون ذلك دليلاً على أن الواقع لعب دوراً أو أدواراً في صياغة النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومن الواضح أن هذه الحيل مردودة على أصحابها من منطلق الإيمان بإله قادر حكيم عليم، علمه أزلي وأبدي، وحكمته لا حدود لها، وقد شاء بصفاته العلية هذه أن يكون الوحي على هذه الهيئة المتفاعلة مع مجتمع أريد إنشاؤه ليكون نموذجاً لمجتمع رباني تقاس إليه أحوال المجتمعات .
 
القرآن الكريم والسنة الصحيحة المشرفة وحيان من السماء وهما فوق التاريخ ومتغيراته، وكل ما عداهما تراث قابل للأخذ والرد والتفسير والتأويل، وهذا من منطق الإيمان .
 
ربما كانت المشكلة عند كثيرين من الحداثيين أنهم لا يريدون المجاهرة بعدم إيمانهم، ولذلك تراهم يدورون ويلفون حول معان توحي بأن القرآن الكريم والسنة المشرفة ابنا البيئة التي وجدا فيها ويحملان كل ملامحها، وذلك يوهم بأنهما ليس من قبيل الوحي النازل من السماء، بيما المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يقرؤون القرآن الكريم والأحاديث النبوية ولا يشعرون بهذا الذي يلح عليه الحداثيون، بل يشعرون بأن القرآن والحديث كأنهما يتنزلان الآن ويخاطبان كل مسلم بنفسه مع اختلاف الأعراق والشعوب والأمكنة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين