فلسفة التاريخ


 

 

د.أحمد محمد كنعان

 

 

 

·         كلنا نحب أن نرى الجانب المضيء من تاريخنا ولو كان ذلك على حساب الحقيقة !

 


     التاريخ .. هو الماضي ، هو كل ما حصل قبل اللحظة التي كتبت فيها هذه الكلمات ، بل قبل اللحظة التي تقرأ فيها عزيزي القارئ هذه الكلمات ، فحتى مقالتي هذه أصبحت الآن جزءاً من الماضي ، جزءاً من التاريخ .. فما الذي يعنيه هذا ؟ إنه يعني أن الفاصل ما بين الحاضر وتاريخه ما هو إلا فاصل وهمي ، فما يكاد الحدث يظهر إلى الوجود حتى تطويه سجلات التاريخ بين سطورها إلى غير رجعة .

ومادام الحاضر هو حياتنا الفعلية ، ومادام يتسرب من بين أيدينا بهذه السهولة ليغدو جزءاً من الماضي .. من التاريخ .. فلا غرابة أن يهتم الإنسان بتاريخه ، ويحرص على تدوينه ليرجع إليه بين الحين والآخر ، ربما ليستعيد لحظات حياته الهاربة ويوهم نفسه بتوقف الزمن والاستمرارية والخلود !

          ومما لاشك فيه أن للتاريخ وقعاً خاصاً في مشاعرنا ، فإن كلاً منا يحس بالحنين إلى الماضي ، ونتمنى من أعماقنا لو عادت بنا الحياة إلى أفياء الأيام الخوالي ، ومع تسليمنا بأن هذا الإحساس  إحساس إنساني مبرر ومفهوم لأنه يُشبع فينا رغبة دفينة إلى الخلود ، فإننا لا يصح أن نكون ماضويين بتفكيرنا وتصرفاتنا لأن الحاضر هو الحقل الذي نستطيع التأثير فيه ، أما الماضي فإن بيننا وبينه برزخاً وحجراً محجوراً يحول بيننا وبين التأثير فيه ، وهذه الحقيقة لا تعني انفصالنا التام عن الماضي وعدم الاستفادة منه ، فليس ثمة ماضٍ خالٍ من الإضافة إلى الحاضر ، لكن المهم أن نلتقط من الماضي ما يخدم الحاضر ويعيننا على بناء مستقبل أفضل ، أما ما يمثله الماضي من إشكاليات وملابسات فنحن في غنى عنها .

 

 

الفارق بين التاريخ والتأريخ :

والحديث عن التاريخ يعيدنا إلى البدايات ، لنميز بين مصطلحين كثيراً ما يختلط أحدهما بالآخر ، أولهما مصطلح التاريخ ( History ) الذي يعني مجموعة الأحداث التي وقعت فعلاً منذ بدء الخليقة وحتى اللحظة الراهنة ، وثانيهما التأريخ ( Historiography ) ويعني العملية التي يمارسها المؤرخ لتدوين تلك الأحداث ويستعين فيها بالأخبار والآثار والروايات والسجلات والمذكرات والوثائق ليستخرج منها المادة التاريخية التي يعمل على تدوينها .

التاريخ إذن هو وقائع موضوعية وقعت فعلاً في الماضي ، أما التأريخ فهو عمل بشري يمارسه المؤرخ في الحاضر ، فيسجل تلك الوقائع تسجيلاً قد يطابق تلك الوقائع ، وقد لا يطابقها ، ويطلق المؤرخون مصطلح ما قبل التاريخ ( Prehistoric ) على الأزمنة الغابرة التي سبقت وجود أية مدونات أو رسومات أو كتابات تؤرخ لحياة الإنسان ، ويطلقون مصطلح ما قبل الميلاد الذي يختصرونه بالحرفين ( ق.م ) وبالإنكليزية ( BC ) اختصاراً من جملة ( Before christ ) للدلالة على الفترات من حياة الإنسان منذ بدأ يترك آثاراً تدل على تاريخه القديم وإلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام ، وارتباط هذا المصطلح بالسيد المسيح يدل على أن المؤرخين المسيحيين هم الذين وضعوا هذا المصطلح الذي شاع فيما بعد عند عامة المؤرخين ، وهو مصطلح ينفع في التأريخ للوقائع القريبة نسبياً التي وقعت في القرون القليلة التي سبقت ميلاد السيد المسيح ، لا للعصور الغابرة التي يستخدم للدلالة عليها مصطلح ما قبل التاريخ كما أشرنا آنفاً .

وقد بدأ البشر قبل الميلاد بزمن طويل يمارسون عملية التأريخ ، وكانوا يمارسونها بصورة شفوية جيلاً بعد جيل ، إلى أن عرفوا الكتابة والقراءة فبدؤوا يدونون تاريخهم بصورة بدائية غير منظمة ، وقد وجدت بالفعل سجلات تاريخية مكتوبة تعود إلى ما قبل الميلاد في كل من مصر القديمة وبابل والصين ، إلا أن تلك السجلات كانت تفتقر إلى التنظيم والدقة والترابط والترتيب ، وقد بقي حال التأريخ هكذا حتى جاء المؤرخ الإغريقي هيرودوت ( 484 ـ 425ق.م ) الذي يعده المؤرخون أبا التأريخ لأنه أول من دوَّن الحوادث التاريخية تدويناً منظماً ، ورجع في تأريخه إلى أقدم العصور التي وصلته أخبارها ، ودوَّنها في كتابه "تاريخ هيرودوت" الذي لم يتوقف فيه عند سرد الأحداث السياسية فحسب ، بل دوَّن فيه أيضاً تاريخ الأساطير والعادات والتقاليد ، ما أضفى على كتابه مسحة موسوعية تدعو للإعجاب حقاً !

أما العرب فقد اهتموا بالتأريخ اهتماماً بالغاً منذ العصر الجاهلي قبل الإسلام ، فقد اشتهروا بحفظ الأنساب ، وأخبار الأمم الغابرة ، وكانت لهم روايات كثيرة سارت بها الركبان ، إلا أنها لم تكن روايات موثقة ، ولم تخل من مسحة أسطورية اختلط فيها الخيال بالواقع ، حتى جاء الإسلام فوجد المسلمون لزاماً عليهم تحري الدقة الشديدة في الروايات لما لها من مكانة في التشريع الإسلامي ، وبخاصة عند تدوينهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعد المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم ، وقد بلغت عنايتهم بالروايات حداً جعلهم يؤسسون علماً جديداً لم يعرفه المؤرخون من قبل ، أطلقوا عليه مصطلح ( الجَرْح والتَّعْديل ) وهو العلم الذي ميزوا به ما بين الرواة الثقات والرواة الضعفاء ، والرواة الوضَّاعين الذين وضعوا الكثير من الروايات الكاذبة التي لا أساس لها في الواقع ، وقيَّموا به أيضاً متن الروايات من حيث القوة والضعف ، وبهذا سبق المؤرخون المسلمون غيرهم من الأمم بتمحيص الروايات وتدقيقها ونقدها والحرص الشديد على صحتها ، وقد بلغ من عناية المؤرخين المسلمين أنهم كانوا يؤرخون الوقائع بالسنة والشهر واليوم ، وهو عمل لم يسبقهم إليه أحد من المؤرخين ، حتى إن المؤرخ الشهير ( باكل ) صرَّح أن هذا العمل الدقيق الذي أسسه المسلمون لم يحدث مثله في أوروبا إلا في عام 1597 أي بعد أن درج عليه المؤرخون المسلمون بقرون طويلة[1] ، في حين أن الروح الناقدة لدى المؤرخين الأوروبيين في العصور الوسطى كبتت كبتاً شديداً تحت سطوة أرباب الكنيسة ، لأن التعليم وقتئذ اقتصر على رجال الدين الذين حصرت  عملية التأريخ بهم ، وكانوا معروفين بتعصبهم الكنيس وانحيازهم إلى الملوك ، وهذا ما نلاحظه مثلاً عند القديس أوغسطين ( 354 - 430م ) في كتابه "مدينة الله" الذي نشره في عام 420م .

وبسبب هذه النزعة غير المحايدة التي وسمت كتابات مؤرخي العصور الوسطى عامة فقد ثار مؤرخو عصر النهضة الأوروبية على المؤلفات التاريخية التي دوِّنت في تلك الحقبة ، ووجدوا أن لا مندوحة من إعادة كتابتها لتصحيح ما انطوت عليه من مغالطات تاريخية فاضحة ، وقد شرعوا بهذه المراجعة في مطلع القرن السابع عشر ، فجمعوا المصادر التاريخية القديمة ، وراحوا يفحصونها ويمحِّصون ما جاء فيها من أخبار ، مفتتحين بهذا العمل عصر التأريخ الحديث ، وبهذا بدأ علم التأريخ يقترب أكثر فأكثر من الموضوعية ، وفي أواخر القرن الثامن عشر ظهر علمان جديدان ساندا علم التأريخ مساندة قوية ، هما علم الأحافير ( PALEONTOLOGY ) وعلم أصول اللغات ( LINGUISTICS ) اللذان ساهما مساهمة كبيرة في نقد الروايات التاريخية ودراسة التاريخ دراسة أكثر موضوعية ، ومع مطلع القرن العشرين ظهرت مدارس تاريخية جديدة ، وتخصصات تاريخية عديدة ، تساندها علوم أخرى عديدة ، وبخاصة منها العلوم الإنسانية ، مثل علم البشريات ( ANTHTOPOLOGY ) وعلم النفس ( PSYCHOLOGY ) وعلم الاجتماع ( SOCIOLOGY ) وبهذا غدت عملية التأريخ عملية معقدة تحتاج إلى فريق عمل يضم إلى جانب المؤرخين علماء آخرين متخصصين في بقية العلوم ذات الصلة .

 

 

إعادة كتابة التاريخ :

ومما يسترعي الانتباه في سيرة المؤرخين أن أكثرهم لم يتوقف عند التأريخ لعصورهم فحسب بل اهتموا اهتماماً ملفتاً للنظر بالتأريخ لهذا الوجود من مبتداه ، بل حاول بعضهم استشراف نهاية التاريخ ، وتزخر رفوف المكتبات القديمة منها والحديثة بأعداد لا تحصى من الكتب التي انتهجت هذا المبدأ ، ولم يكن مؤرخو الإسلام بعيدين عن هذا النهج ، وتعود بواكير المدونات التاريخية الإسلامية إلى أواسط القرن الأول الهجري ، ولعل أولها كتاب عبيد بن شريه ( ت 70هـ) الذي سماه "الملوك وأخبار الماضي" ثم جاء بعده لفيف من المؤرخين الذين تركوا العديد من المدونات التاريخية القيمة ، منهم محمد بن عمر الواقدي ( ت 207 هـ ) الذي يعد أول المؤرخين المحققين في العصر الإسلامي ، والإمام المؤرخ المفسر محمد بن جرير الطبري ( ت 310هـ ) ، والعلامة المؤرِّخ ابن كثير ( ت 774هـ ) في كتابه "البداية والنهاية" الذي يعد أول وأشمل ما كتبه العرب حول تاريخ الوجود من مبتداه وحتى عصر الكاتب نفسه ، وقد أضاف له فصلاً أفرده للحديث عن الآخرة ومظاهر قرب الساعة وعلاماتها ، فكأنه بهذه الإضافة إلى تاريخه أراد استكمال قراءة تاريخ الوجود حتى النهاية !

ويبدو لي أن اشتغال بعض المؤرخين في كل عصر بتدوين تاريخ الوجود من أوله وحتى نهايته المنتظرة يدلُّ دلالة واضحة على الحاجة المتجددة في كل عصر لإعادة قراءة تاريخ العالم مرة بعد مرة ، إما لتصحيح المعلومات التي لم يدوِّنها السابقون بالدقة العلمية الكافية ، وإما لإضافة ما استجد من حوادث ، وإما لأغراض أخرى علمية أو سياسية ، مبررة أو غير مبررة ، ولا غرو بأن هذه الحاجة المتجددة لإعادة كتابة التاريخ ، وهذا التعديل المتواصل في سجلات المؤرخين ، يدل دلالة واضحة على ما يعتري العمل البشري عادةً من قصور وعلل ، ويدل كذلك على أن العلم البشري مهما حقق من الإنجاز فإنه يبقى علماً قاصراً عن تحقيق الكمال ، مصداقاً لقوله تعالى : (( وَمَا أُوتيتُم منَ العِلْمِ إلا قَليلاً )) سورة الإسراء 85 ، وربما كانت عملية التأريخ من أكثر الأنشطة البشرية عرضة لمثل هذا القصور !

 

 

التأريخ في العصر الحديث :

تعود بداية التأريخ في العصر الحديث إلى منتصف القرن السابع عشر ، حين بدأ تدوين وجمع مجموعات ضخمة من مصادر التاريخ ، وبدأ المؤرخون يكشفون عن المصادر القديمة ، ويفحصونها ويدققونها ، ومن هؤلاء الفيلسوف الإيطالي جيوفاني باتيستا فيكو ( 1668 ـ 1744 ) صاحب النظرة الكلية للتاريخ ، الذي حاول تطبيق المنهج العلمي على دراسة التاريخ ، وذهب إلى أن تطور الحضارة البشرية مرَّ بثلاث مراحل ، هي : المرحلة الدينية أو الثيوقراطية ، والمرحلة الأرستقراطية ، والمرحلة الديمقراطية ، وأن كل مرحلة كانت تحمل في طياتها عناصر انحلالها ، وقد كان لهذا الفيلسوف تأثير عميق في معظم المؤرخين الذين أتوا من بعده .

ثم جاء الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو ( 1689 - 1755 ) الذي نشر كتاب " الملكية العالمية " وقسم فيه الشعوب إلى شمالية وجنوبية ، وادعى أن الفرق في المناخ هو السبب الأساسي للاختلاف بين شعوب الشمال وشعوب الجنوب ، وقد حازت نظرياته على كثير من المؤيدين في أوروبا ثم في بقية أنحاء العالم ، وجاء في نفس الفترة تقريباً الفيلسوف الفرنسي فولتير ( 1694 ـ 1778 ) الذي عني عناية خاصة بالدقة في كتبه التاريخية .

أما المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكا ( 1795 ـ 1886 ) فقد أسس المدرسة التاريخية الحديثة ، وحاول إعادة عرض وتركيب الأحداث التاريخية متجنباً وضع النتائج قبل دراسة الأحداث دراسة علمية موضوعية ، وقد تناولت كتاباته تاريخ جميع الأمم الأوروبية ، وبلغت 54 كتاباً ضخماً كل منها يقع في عدة مجلدات ، وآخرها "تاريخ العالم" في 9 مجلدات ، وقد أسس رانكا وخلفاؤه مبادئ جديدة في نقد المناهج التاريخية ، منهم الفيلسوف الألماني هيجل ( 1770 ـ 1831 ) صاحب التفسير المثالي للتاريخ ، والمؤرخ الألماني تيودور ممسن (1817 ـ 1903) ، والفيلسوف الألماني اشبنجلر ( 1880 ـ 1936 ) الذين أسسوا ما عرف بالمدرسة الألمانية التي جعلت كتابة التاريخ مهنة يتفرغ لها الأساتذة المؤرخون .

وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأ علماء الحفريات وأصول اللغات يساهمون إسهامات كبيرة بتطوير المدونات التاريخية التي بلغت أوج ازدهارها في القرن التاسع عشر مع مدونات المؤرخ الألماني كارل لامبرخت ( 1856 ـ 1915 ) الذي ذهب إلى ضرورة كتابة التاريخ وفق منهج جديد يقوم على الاتجاهات الاجتماعية والثقافية والنفسية ، من أهم مؤلفاته مجموعة من المقالات نشرت عام 1905 بعنوان "ما هو التاريخ" .

وفي أوائل القرن العشرين برز اسم المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ( 1889 ـ 1975 ) الذي عرض في كتابه "دراسة في التاريخ" وجهة نظره في نمو الحضارات وتطورها وانحلالها ، وتناول مشكلات التاريخ على أسس من تاريخ الطوائف الثقافية والخلقية أكثر من بحثه في التاريخ المجرد ، وقد حاول تفسير التاريخ على مبدأ ( التحدي والاستجابة ) وأنكر جريان التاريخ على فلسفة قدرية ، وذهب إلى أن التاريخ تضبطه وتسيره قوى نفسية أكثر منها قوى مادية ، وأن ظاهرة الحضارات العليا وجدت منذ بداية التاريخ ، وأنه في جميع الأحوال ساد نفس قانون توالي الحضارات ، وأصبح ينظر إلى التاريخ العالمي على أنه مؤلف من وحدات أو حضارات أو دوائر حضارية .. ومازال المؤرخون في كل جيل وفي كل عصر يضيفون ويحذفون ويعدِّلون ، مؤكدين بهذه الممارسات أن عملية التأريخ لن تصل في يوم من الأيام إلى الكمال ، وأنها عملية محفوفة بالكثير من العلل !

 

 

علل التأريخ :

يعترف المؤرخون قبل غيرهم أن كتب التاريخ ـ على اختلاف مواضيعها وتَنَوُّع مناهجها ومدارسها ومشاربها ـ لا يكاد يخلو واحد منها من بعض الروايات الضعيفة ، أو الأخبار الملفقة التي لا أساس لها من الصحة ، أو الأساطير والحكايات والروايات الغريبة التي تناقلتها الأمم جيلاً بعد جيل دون تمحيص حتى أمست جزءاً لا يتجزأ من تراث التاريخ البشري ، ولعل هذه العلل وأمثالها مما يعتري عملية التأريخ هي التي دفعت واحداً من أبرز الفلاسفة المسلمين المهتمين بالتاريخ هو ابن خلدون ( 1332 ـ 1406م ) لإفراد فصل كامل في "المقدمة" للحديث عما يعرض للمؤرخين من المغالط ، ومما كتبه ( .. أن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرَّد النقل ، ولم تُحَكِّم أصولَ العادة ، وقواعد السياسة ، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب ، فربما لم يُؤْمَن فيها من العثور ومََزلَّة القدم ، والحَيْد عن جادة الصدق ، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ، ولم يعرضوها على أصولها ، ولا قاسوها بأشباهها ، ولا سبروها بمعيار الحكمة ، والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فَضَلُّوا عن الحقِّ وتاهوا في بيداء الوَهْم والغَلَط .. )[2] ، وقد عاب ابن خلدون على المؤرخين الكثير من المثالب التي تتخلل مصنفاتهم ، ودعاهم للتزود بالعلم الواسع الذي يمكنهم من تدوين وقائع التاريخ تدويناً أميناً يقوم على أساس متين من النقل والعقل ، والابتعاد عن التشهير والتضليل والتزوير ، لأن مهمة المؤرخ هي كشف الحقائق وإرشاد الناس وليس انتقاصهم !

ويكاد المؤرخون يجمعون على أن صور الوقائع التي المدونة في كتب التاريخ ليست هي تفس الوقائع التي وقعت فعلاً عبر التاريخ ، وذلك لأن عملية التأريخ تنفذ في العادة من خلال الوثائق والأخبار والروايات والشواهد التي تصل إلى المؤرخ ، وتبدأ إشكالية التأريخ في اللحظة التي يصطحب فيها المؤرخ هذه المعطيات إلى منزله حيث يطبخها بالطريقة التي تروق له ، ويرشّ عليها ما يحلو له من بهارات فكره ومعتقداته وميوله ونزعاته الشخصية ، وربما شطحات خياله أيضاً ، ليقدِّمها لنا آخر المطاف في حُلَّة جديدة لا يكاد يجمع بينها وبين الأصل في معظم الحالات إلا العناوين ، وهذا ما دفع واحداً من أشهر الصحافيين المعاصرين المهتمين بالتاريخ هو س.ب.سكوت إلى القول : ( إن الحقائق تتكلم فقط عندما يطلب المؤرخ منها ذلك ، فهو الذي يقرر نوع الحقائق التي ستعطى حقَّ الكلام ، وسياق هذا الكلام )[3] ، وهذا ما يجعل كتب التاريخ صدى لأمزجة المؤرخين المتقلبة ، فالمؤرخ عندما ينوي الكتابة لا يدخر وسعاً في أن يخفي صوت مزاجه لكي يظهر لقرائه في ثوب الموضوعية والتجرد والحياد ، وهو يحاول جاهداً أن ينظم آراءه في إطار متماسك من المقدمات والنتائج ، لكي يخفي نوازعه الشخصية التي يخشى أن تفضح نواياه المبيتة مسبقاً .. وبتعبير آخر .. فإن المؤرخ يظل رهن مزاجه الشخصي ، وعن هذا المزاج تصدر مختلف آرائه وأحكامه ومصنفاته ، وهو يرنو غالباً لتقديم صورة للتاريخ تعبِّر عن رغباته الدفينة بأن يكون التاريخ قد سار بموجبها ، أكثر من أن تعبر عما جرى فعلاً !

وتؤكد الدراسات التاريخية المقارنة ( Comparative Historical Studies ) أن هذه العلة مستحكمة في معظم المؤرخين ، لأن المؤرخ غالباً ما ينطلق في تدوينه للتاريخ من موقف فكريٍّ أو عقائديٍّ مسبق ، فنراه يتخير من وقائع التاريخ ما يؤيد موقفه الشخصي أو يبرِّره ، وبهذا يتحوَّل التاريخ بين يدي المؤرخ إلى أبجدية مفتوحة تتيح له أن يصوغ منها الحكاية التي يريد ، وبهذا تغيم الرؤية ، وتضيع الحقيقة ، ويتعذَّر علينا فهم مسيرة التاريخ فهماً صحيحاً .

وقد سبق للمؤرخ والباحث اللساني الأمريكي المعاصر مارتن برنال أن وقف على أكبر وأضخم عملية اختلاق في التاريخ الحديث ، في كتابه أثينا السوداء[4] الذي عرَّى فيه عملية اختلاق وفبركة الثقافة الغربية الحديثة لتاريخها الممتد من اليونان القديمة ، ذلك التاريخ الملفَّق الذي لم يتأتَّ للغرب إلا بإقصاء الجذور الأفروآسيوية للحضارة الإغريقية القديمة لتكون اليونان أوروبية النشأة والثقافة والحضارة ، ولتكون أوروبا ـ موطن الجنس الأبيض ـ هي الأحق بالسيادة والتفوق منذ القدم !

وفي عام 1983 ظهر كتاب قيم للمؤرخين البريطانيين أريك هوبزباوم و تيرينس رينغر بعنوان "اختراع التراث" تناولا فيه الطريقة التي سلكتها السلطات السياسية البريطانية منذ العام 1850 لاختراع واختلاق شعائر ومواقف وهويات زعمت أنها قديمة قدم الدهر ، من أجل تسويغ كل تراث الاستعمار الذي جرى تبريره عبر سَرْديَّة تُقرِّر أن الاستعمار لم يكن إلا أداة للتغيير والتحديث[5] .. فأين هي الموضوعية التاريخية التي يتشدق بها كثير من المؤرخين الذين لا يفتؤون في مقدمات كتبهم عن الادعاء بأنهم قد التزموا أقصى درجات الدقة العلمية والموضوعية والحياد والنزاهة ، إلى آخر هذه الأوصاف التي يبدو أن لا رصيد لها إلا في عقل المؤرخ !

وإن من يتفحص سجلات التاريخ يجدها حافلة بمثل هذه العمليات الملفقة التي تختلق وقائع لم تقع إلا في خيال المؤرخين الكَذَبة ، ولهذا يرى المؤرخ اليهودي الأمريكي كيث وايتلام رئيس قسم الدراسات الدينية في جامعة استيرلنج في كتابه اختلاق إسرائيل القديمة[6] أن عملية التأريخ عملية في غاية الصعوبة ، لا لقلة الوثائق ، بل لأن عملية التأريخ عملية سياسية بالدرجة الأولى .

ويرى المؤرخ الفيلسوف البلغاري تزفيتان تودوروف في كتابه "فتح أمريكا" أن مأساة التاريخ لا تكمن فقط في شطب صفحات منه ، بل أيضاً بالتلاعب به ، وإعادة صياغته وتأويله أو إساءة تأويله عن قصد ، ونقطة الانطلاق لكل تاريخ هي أشكال الحذف والإزاحة والإسقاط والتحوير لكومة الأحداث والمواقف التي تكوِّن ما يسمى بالتاريخ[7] .

 

علل التأريخ إذن كثيرة باعتراف أساتذة التاريخ أنفسهم ، ولعل من علله أيضاً إصرار المؤرخ على قراءة التاريخ في ضوء مصباحه الخاص ، والمؤرخ إذ يفعل هذا فإنه لا يجد حرجاً باستغلال مواهبه الفنية بالتصوير ، فنراه يسلط الضوء على بعض المناطق المظلمة محولاً إياها إلى بقع مضيئة زاهية الألوان ، ويحجب الضوء عن مناطق أخرى تاركاً إياها غارقة بالعتمة ، وبهذا يجبرنا المؤرخ على أن نرى من الصورة ما يريد هو أن نراه ، وهذا السلوك من المؤرخ يشبه عمل البستاني الذي لا يفتأ يشذِّب الأشجار بمنشاره الحاد لكي تبدو حديقته أكثر نضارةً وبهاء ، فكذلك المؤرخ المنحاز لا يفتأ يستخدم منشاره القاطع فيحذف من هنا ويضيف من هناك ، ليقدم لنا في النهاية قطعة تاريخية قد تكون في غاية الجمال والبهاء ، لكنها للأسف الشديد قطعة مزيفة ، تخون الحقيقة ، وتفتقر إلى الصدق والأمانة !

وقد يخيل إلينا اليوم أن التقدم العلمي الهائل في وقتنا الراهن الذي وفَّر لنا وسائل التوثيق الحديثة ( مسجلات صوت ، كاميرات تصوير ، كومبيوتر ، تلفزة فضائية مباشرة ، وسائل اتصال فوري كالجوالات والإنترنت .. ) قد جعل عملية التأريخ أكثر دقة وأقرب إلى الموضوعية ، وهذا الظن غير صحيح على الإطلاق ، فإن الكلمة الأولى والأخيرة في عملية التأريخ تظل للعامل البشري .. للمؤرخ .. الذي يمكن أن يُسَخِّر هذه الوسائل التقنية القيِّمة بقدر كبير من الحياد ، ويمكنه بالمقابل أن يحرِّفها أو يعدِّلها لتظهر على النحو الذي يريد ، ولسنا مبالغين إذا قلنا إن الوسائل الحديثة قد أتاحت للمؤرخ غير النزيه فرصة أكبر للتزوير بما وفرته من إمكانيات هائلة للتلاعب بالصوت والصورة والوثائق ، على نحو يمكن أن يقلب الحقائق رأساً على عقب !

وثمة علة أخرى من علل التأريخ ، لا يكاد يتفطن لها كثير من الباحثين ، هي أن المؤرخ يبقى ابن عصره وبيئته ، وتظل القضايا التي تشغل بال عصره هي شغله الشاغل ، وهذا ما يُفقد أغلب كتب التاريخ قيمتها بعد فترة من الزمن ، عندما يتغير العصر وتتبدل الأحوال وتمسي رواية التاريخ مجرد حكاية مسلية لا علاقة لها البتة بقضايا الواقع الجديد .

ومن علل التاريخ كذلك اهتمام المؤرخين إجمالاً بالتأريخ لحياة الملوك والزعماء والشخصيات الدينية والأبطال القوميين ، وإهمالهم تأريخ الشعوب والأمم وما كابدته من مشكلات ومآس ونكبات ، وترجع هذه النزعة غالباً إلى رغبة الملوك والزعماء بتخليد ذكراهم وإنجازاتهم التي كثيراً ما يبالغ المؤرخون الانتهازيين بتضخيمها طمعاً بالحصول على العطايا والهِبات ، وقد ترجع هذه النزعة عند مؤرخين آخرين إلى إعجاب المؤرخ نفسه ببعض الزعماء أو الشخصيات الدينية أو الأبطال القوميين ، فيلجأ إلى تلميع الصورة وتضخيم الإنجازات ، ويغضُّ النظر عن النقائص والأخطاء والشرور والعيوب ، ويضفي كافة السجايا الحسنة على من يحب ، ولو كان ذلك على حساب الأمانة التاريخية !

ومادامت عملية التأريخ تنفذ في الغالب على هذه الصورة من الإغراء حيناً ، والطمع حيناً آخر ، والإعجاب الشديد أحياناً أخرى ، فلا عجب أن تفتقر معظم كتب التاريخ إلى الموضوعية ، ولا غرابة أيضاً أن يخالطها الكثير من المبالغات والافتراءات والمزاعم والمواقف التي لا تمتُّ إلى الحقيقة إلا بخيوط أوهى من بيت العنكبوت ، ويكفي للدلالة على هذه العلة أن تقرأ مثلاً ما كتبه أحد المؤرخين عن البطل الذي يحب لترى كيف أضفى عليه كل الخصال الحميدة ، وجعله قادراً على فعل المعجزات ، ورفعه إلى مرتبة دونها مرتبة الملائكة والأنبياء ، فإذا انتقلت بعد ذلك لقراءة ما كتبه مؤرخ آخر مناوئ لذلك البطل فإنك سوف ترى صورة البطل نفسه وقد انقلبت رأساً على عقب ، من جراء ما خلع عليه المؤرخ المناوئ من نقائص نزلت به إلى أسفل سافلين ، حتى بدا وكأنه شيطان رجيم .. وهذه مفارقة عجيبة يعرفها كل من كانت له صلة حميمة بكتب التاريخ !

وثمة علة أخرى من علل التاريخ ـ وهي ليست الأخيرة ـ قلما يتوقف عندها نقاد التاريخ ، وهي علة لا تتعلق بالتاريخ نفسه ، ولا بالمؤرخين ، ولا بعملية التأريخ ، بل تتعلق بنا نحن قراء التاريخ ، فربما كان تجنينا على التاريخ أكبر من تجني المؤرخين عليه ، فقد يقلب أحدنا حقائق التاريخ رأساً على عقب دون أن يشعر ، وذلك لأننا حين نقرأ التاريخ فإن كلاً منا يقرؤه على ضوء معتقداته الخاصة والمسلمات التي يؤمن بها ، ولهذا ترانا عندما نقرأ التاريخ نعيد إنتاجه بصورة جديدة لا دخل للأحداث ولا للمؤرخ فيها ، وعندئذ تأخذ الوقائع التاريخية مسارها الخاص في أذهاننا ، وتتطور إلى حقائق أو أوهام أو مغالطات ، وهذا ما يستدعي وقوفنا طويلاً أمام العلاقة الجدلية ما بين كتابة التاريخ وبين قراءة التاريخ ، وهي علاقة يعتريها الكثير من الإشكاليات ، ولا مخرج منها في رأينا إلا بأن ننتقل في عملية التأريخ من تفاصيل الوقائع إلى القوانين أو السنن التي تتحكم بتلك الوقائع ، على طريقة القرآن الكريم الفريدة في التأريخ .

 

 

منهج القرآن الكريم في التأريخ :

لقد حفل القرآن الكريم بالكثير من الوقائع التاريخية التي تناولت حياة العديد من الشخصيات والأمم الغابرة ، المؤمنة منها والكافرة ، ويشكل التاريخ محوراً أساسياً من محاور القرآن الكريم ، وذلك لأن التاريخ بمنظور القرآن الكريم هو المختبر الحقيقي لصواب الفعل البشري ، فمن أراد أن يتجنب أخطاء الماضي فليعد إلى صفحات التاريخ ، ومن أراد أن يتعلم سنن النهوض الحضاري فليعد إلى سجلات التاريخ كما ورد في قوله تعالى : (( قُلْ سيروا في الأرضِ فانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الذينَ مِنْ قَبْلُ )) سورة الروم 42 ، فالقرآن الكريم يعد التاريخ مرجعية موثوقة للتصويب الحضاري ، وما من شك بأن هذه المرجعية لا يمكن أن تفيدنا إلا إذا تعاملنا معها تعاملاً موضوعياً صحيحاً ، ولهذا يسلك بنا القرآن الكريم طريقة تأريخية موضوعية فريدة ، فهو يدعونا ابتداء للنزاهة والحياد والإنصاف في تقييم الآخرين وتسجيل مواقفهم كما وقعت فعلاً ، مهما كانت مواقفنا منهم ، أو مواقفهم منا ، ومن ذلك مثلاً قوله تعالى : (( يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُونُوا قوَّامينَ للهِ شُهَداءَ بالقِسْطِ ، ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ على ألا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ  للتَّقْوى ، واتَّقُوا اللهَ ، إنَّ اللهَ خبيرٌ بما تَعْمَلُون )) سورة المائدة 8 .

 

ويحذرنا القرآن الكريم كذلك من الظنِّ والوَهْم والهوى وكل ما من شأنه أن ينأى بنا عن رؤية الواقع على حقيقته ، فيقول تعالى : (( وما يَتَّبعُ أكثرُهم إلا ظَنَّاً ، إنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً ، إنَّ اللهَ عليمٌ بما يَفْعَلُونَ )) سورة يونس 36 ، فالقرآن الكريم يريد منا أن نقرأ التاريخ كما جرى فعلاً ، لا كما نتمنى لو أنه جرى ، وهذه مسألة حساسة تستحق منا الكثير من التأمل ، لأننا حين نقرأ التاريخ كما جرى فعلاً نستطيع استنباط السنن التي تحكم مسيرة التاريخ ، وبهذا نكتسب المزيد من القدرة على توجيه الأحداث القادمة وفق أهدافنا ، أما حين نقرأ التاريخ كما نتمنى لو أنه جرى فإن الفائدة الوحيدة التي نجنيها من هذه القراءة الموهومة أنها تجعلنا نحقد على التاريخ لأنه لم يجر كما نريد !

ومن سمات المنهج القرآني في التأريخ أيضاً أنه لا يكتفي بالتوجيهات النظرية التي تحذِّر من علل التأريخ ، بل يقدِّم لنا من خلال قصصه المختلفة شواهد واقعية على منهجه الفريد بالتزام الموضوعية ، فنراه يصوِّر لحظات الضعف البشري التي انتابت بعض الأنبياء عليهم السلام في مناسبات عديدة ، وذلك حرصاً من القرآن الكريم على تقديم الوقائع كما جرت فعلاً ، حتى وإن كانت تتعلق بأفضل الخلق ، وبهذا المنهج الإلهي الفريد قدَّم لنا القرآنُ الكريمُ المثلَ الأعلى في الموضوعية التاريخية .

ومن الأمثلة على هذا المنهج القرآني الفريد بالتزام الموضوعية تلك الآيات التي تضمنت العتاب لرسول الله e على بعض تصرفاته ، مثل تصرفه مع مولاه زيد الذي كان يرغب بتطليق زوجته بينما ظل النبي يمنعه ويخفي عنه الأمر الإلهي بأن يطلقها منه ويتزوجها هو : (( وإذ تقولُ للذي أَنعَمَ اللهُ عليهِ وأنعمتَ عليهِ أمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ اللهَ وتُخفي في نفسكَ ما اللهُ مُبْديهِ وتخشى الناسَ واللهُ أحَقُّ أن تخشاه )) سورة الأحزاب 37 ، ومن الأمثلة أيضاً عتاب القرآن الكريم للنبي e لقبوله الفداء في أسرى بدر : (( ما كانَ لنبيٍّ أن يكونَ لهُ أسْرى حتى يُثْخِنَ في الأرضِ  ، تُريدُونَ عَرَضَ الدُّنيا واللهُ يُريدُ الآخِرَةَ ، واللهُ عزيزٌ حكيمٌ )) سورة الأنفال 67 ، ومنها أيضاً عتابه للنبي e بشأن الصحابي الأعمى الذي جاء يسأله عن الإسلام ، فأعرض عنه النبي e لانشغاله بدعوة زعماء قريش الكبار ، فنزل فيه قوله تعالى : (( عَبَسَ وتولَّى 0 أنْ جاءَهُ الأعمى 0 وما يُدريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى 0 أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى 0 أمَّا من استغنى فأنتَ لهُ تَصَدَّى 0 وما عليكَ ألا يَزَّكَّى 0 وأمَّا من جاءَكَ يَسْعى 0 وهو يخشى 0 فأنتَ عنه تَلَهَّى 0 كلا إنَّها تَذكرة )) سورة عبس 1 ـ 11 ، والشواهد في القرآن الكريم كثيرة جداً على هذا المنهج الفريد في تأريخ الأحداث تأريخاً دقيقاً أميناً .

ومن الملاحظات الجديرة بالملاحظة أيضاً حول طريقة القرآن الكريم في التأريخ أنه عندما يروي واقعة تاريخية ما فإنه لا يحفل كثيراً بذكر التفاصيل التي قد تشوش الرؤية ، بل يكتفي بذكر ما يخدم باستنباط سنن التاريخ ، ويعطي العبرة ، فهو في الغالب لا يذكر تاريخ الواقعة ، ولا اسم المكان الذي وقعت فيه ، ولا يصرح بالأسماء الصريحة للأشخاص الذين شاركوا فيها ، بل يركِّز على ذكر الخطوط العريضة للواقعة حتى يصوغها في النهاية على شكل معادلة رياضية تصلح للتطبيق على الوقائع المماثلة ، في أي زمان وأي مكان ، وبهذا المنهج القرآني الدقيق تغدو عملية ( التأريخ ) علماً كالرياضيات والكيمياء والفيزياء ، لأنها تقدم لنا التاريخ بصورة قوانين قابلة للتطبيق ، وبهذا نكتسب القدرة على تسخير الأحداث وتوجيهها على النحو الذي نريد ، ويكسبنا كذلك القدرة على صناعة  المستقبل الذي نريد .

ومن الأمثلة على هذا المنهج القرآني الفريد في التأريخ حديثُ القرآن الكريم عن الفتية أصحاب الكهف ، فمن هم أولئك الفتية ؟ ومتى وقعت قصتهم ؟ وأين يقع الكهف الذي آواهم ؟ وكم كان عددهم ؟ ومن هو الملك الظالم الذي فروا بدينهم منه ؟ إن هذه الأسئلة وأمثالها لا يتوقف القرآن الكريم عندها بل يمضي لبيان العبرة من القصة ، دون أن يحفل بالتفاصيل التي لا تقدم ولا تؤخر .

ومن الأمثلة على هذا المنهج الفريد أيضاً حديث القرآن الكريم عن (( الذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خاويةٌ على عُرُوشِها 0 قالَ أنَّى يُحْيي هذهِ اللهُ بعدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللهُ مائةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ .. )) سورة البقرة 259 ، فمن هو الذي مر ؟ وما اسم القرية التي مرَّ عليها ؟ ومتى كان مروره ؟ إن هذه التفاصيل وأمثالها لا يحفل القرآن الكريم بها ، بل يتوجه لذكر الخطوط الرئيسية للواقعة من أجل إظهار السنن الإلهية التي تحكمها ، والعبرة التي ترمي إليها .

وهكذا يظهر لنا الفارق الأهم بين منهج القرآن الكريم في التأريخ ومنهج المؤرخين الذين يكتفون عادة بسرد الوقائع ، ويسهبون في ذكر التفاصيل ، ولا يحفلون من قريب أو بعيد ببيان السنن الإلهية التي تحكم مسيرة الأحداث ،

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين