نحو تقنين ثقافة القطع وترشيدها

الأستاذ يوسف فرحات
 
من خصائص هذا الدين المركزية: الوسطية، والتي من معالمها الرئيسية: التيسير والمرونة التي تجعل أحكامه صالحة لكل زمان ومكان، وهذا جاء من أن مساحة الظنيات في هذا الدين هي الأوسع، بينما منطقة القطعيات ضيقة للغاية، وهذه من رحمة الله بنا. لكن أبى فريق من الناس من طلاب العلم أو المتعالمين، إلا أن يضيقوا واسعاً، حيث سيطر على ثقافتهم منطق القطع والحسم، فتراهم مولعين بهذه المصطلحات: أجمعوا، قطعًا، حتماً، حرام، بالإتفاق ونحو ذلك.
 
مع العلم أن ما اشتهر عند كثير من طلاب العلم أنه من منطقة القطعيات فيه أيضًا مساحة للظنيات، ومن ثم الاجتهاد مثل بعض مسائل العقيدة.
 
لذلك وجدنا بعض علماء السلف قد دعوا لترشيد هذه الثقافة، وعدم التسرع في حسم الأمور، أو وضعها في دائرة الحسم. فهذا الإمام أحمد رضي الله عنه يقول لولده: لا تقل أجمعوا، وما أدراك لعل الناس قد اختلفوا، ولكن قل: لا أعلم فيه خلاف.         
 
كما نقل عن السلف رضي الله عنهم تحوطهم في إطلاق الحلال والحرام ، فقد  روى الإمام الشافعي في كتابه (الأم) عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: " أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. وحدثنا بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا!!
 
كما نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يُسألُ عن الأمر فيقول: أكرهه أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه . ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر الأئمة رضي الله عنهم.
 
من هنا أدعو طلاب العلم والمشايخ ألا يتسرعوا في إعطاء صبغة القطع والحسم في فتاوهم، إلا ما كان قطعياً لا يقبل التأويل، لأن القطع من شأنه أن يُوقع الناس في فتنة، وأن يفقدوا ثقتهم في العلماء والمشايخ، لأن هناك كثيرًا من المسائل، حسمناها في الماضي بمنطق التحريم القطعي، صدر اليوم فتاوى بخلافها. لذا فإن الأمانة العلمية تقتضي أن يُذكر الرأي والرأي الآخر، وألا نستخف برأي مادام معه الدليل، حتى ولو كان صاحبه متأولاً.
 
ثم أقول لمن يستهويهم ثقافة القطع والحسم: لا تغتروا بما يُنقل عن بعض العلماء من دعوى الإجماع في بعض المسائل، فأكثر هذه الدعاوى مردودة، مثل: إجماعات النووي وابن العربي
 
وابن عبد البر، كما لا يخفى على كل ذي لب بصير
 
 
فيا أيها العلماء يا طلاب العلم، أما آن لنا ونحن في عصر الثورة المعلوماتية، حيث لم يعد أحد قادرا أن يحرم الآخرين من أي معلومة، أما آن لنا أن نكون أكثر تسامحًا، وأكثر عدلاً ومرونة في التعاطي مع الأمور والمستجدات.
 
طبعًا هذا لا يعني ألا نسلك سبيل الترجيح، الذي يسعفه الدليل، لكن يبقى فرق كبير بين الترجيح والحسم؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين