الموقف من

 

د.أحمد محمد كنعان

 

لقد كان القرآن الكريم هو رسالة الله الأخيرة إلى أهل الأرض ، ولهذا نجده يتوجه بخطابه إلى العالمين كافة دون تمييز ، ويدعوهم إلى كلمة سواء ، تقوم على مبدأين أساسيين هما : التوحيد والعدل ، لأن توحيد الخالق عزَّ وجلَّ هو أساس الأديان السماوية كلها ، وإشاعة العدل بين الناس هو مقصد الأديان ومبتغاها ، ومن أجل إرساء هذين المبدأين فقد مرت الدعوة الإسلامية في فترة التأسيس ـ فترة البعثة النبوية التي استغرقت ثلاثاً وعشرين سنة ـ بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى هذا الفضاء الرحب الذي يسع كل الناس .

    فقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم أن أصل الجنس البشري واحد ( كلكم من آدم ) وأنهم متساوون ابتداءً في الإنسانية وفي الحقوق والواجبات ، وقرر أن لا تمييز بين الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأعراقهم ( يا أيها الناس ، ألا إن ربكم عز وجل واحد ، ألا وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى .. الحديث ) وحذَّر من تعصب بعضهم لبعض لما فيه من إشاعة العداوة والبغضاء والقطيعة بين الناس ، وقرَّر أنَّ أصل الدين واحد , وأنَّ الأنبياء جميعاً مبلِّغون عن الله تبارك وتعالى , وأن الكتب السماوية جميعها من وحيه سبحانه , وأن الخصومة باسم الدين تتنافى مع مقاصد الدين , وأن السَّلام هو أصل العلاقة بين الناس ، وأقام التعامل بين المسلمين وغيرهم من أهل العقائد والأديان على أساس المصلحة الاجتماعية العامة وتحقيق الخير للناس كافة ، ودعا إلى التناصح والتعاون على البِرِّ والتقوى ، وأرشدنا للحوار مع الآخرين بالحسنى ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) وبهذا وضع الإسلام أسس التعامل مع الآخرين بما يخفِّف أو يقضي على عوامل الفُرقة والخلاف والنِّزاع بين الناس .

      ولم يكتفِ الإسلامُ بتقرير الأصول النظرية للأخوَّة الإنسانية ، بل رسم وسائل التنفيذ العملي لها من خلال الشَّعائر والشَّرائع التي قرَّرها .

      غير أن الإسلام مع كل هذا الميل نحو تحقيق الأخوة الإنسانية فإنه دين واقعي ، لا يَدَع الناس يُحَلَِّقون في عالم المثاليات ، ولا يتجاهل طبيعة الفطرة البشرية التي تتنازعها غرائز شتى ومطامع وأهواء وشهوات ، وهو يدرك أن بين الناس من لا يتورَّعون عن ارتكاب أشدِّ الحماقات في حقِّ الآخرين ، ومن ثم فقد تمسي المواجهة بالقوة أمراً لا مندوحة عنه للحدِّ من أذى هؤلاء وحماية المجتمع البشري من الانهيار والفساد ، فقال تعالى : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )) سورة البقرة 251 .

     إلا أن الصدام مع "الآخر" ليس هو القاعدة في الإسلام ، وإنما هو حالة طارئة ، وحَلٌّ لا مندوحة عنه عند الضرورة ، وذلك في بعض الظروف لا في كلها ، فإذا اعتدى "الآخر" على حُرُمات الله ، أو ظَلَم أحداً من الناس ، فإن الإسلام لا يقف مكتوف الأيدي ، ولا يتردد حينئذ بالمبادرة للقيام بواجبه الإنساني لردع المعتدي وإعادته إلى جادة الصواب ، وهذا ما حصل عندما ظهر الإسلام لأول مرة ، فإن الإسلام لما كان ناسخاً للأديان السابقة كلها ، مخالفاً للعادات والتقاليد والأعراف الجاهلية ، فقد كان من الطبيعي أن تحصل بعض المواجهات بينه وبين "الآخر" الذي كان يمثل تلك الديانات والعادات والتقاليد والأعراف ، وقد أسفرت تلك المواجهات عن تطور العلاقة بين المسلمين وبين "الآخر" على مدى سنوات عديدة ، وواكب التشريع السماوي هذه التطورات ، فتدرج بتنظيم العلاقة بين المسلمين والآخرين حتى وصل بهذه العلاقة إلى صورتها الإنسانية النبيلة التي قرر فيها الإسلام أن ( السلام ) هو خيار البشرية النهائي .

 

الموقف من الآخر في العهد النبوي :

ومن المعلوم تاريخياً أن الدعوة الإسلامية بدأت في مكة المكرمة التي كان معظم أهلها على الشرك وعبادة الأوثان ، وقد اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة بالدعوة السِّلمية ، وعانى هو وأصحابه في تلك الفترة الكثير من أذى الآخرين ، فقد قتل المشركون بعض أصحابه ، وعذِّبوا الكثيرين ، حتى اضطر نفر من المؤمنين للهجرة والتشرُّد في أصقاع الأرض !

إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من المعاناة الشديدة ظل صابراً ، واستمرَّ يُصَبِّر أصحابه ويعدهم بأن هذا الوضع مؤقت ، وأن الله عز وجل سوف ينصر دينه ويعم الأمن والسلام في الأرض ، وقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال يدعو الناس إلى الدين الجديد بالبلاغ السلمي المبين زهاء ثلاثة عشر عاماً ، ثم أمره ربه بالهجرة إلى يثرب ( المدينة المنورة ) فهاجر هو ومن آمن معه ، وأسس هناك أول دولة للإسلام ، وعندئذ طرأت تحولات جديدة على العلاقة ما بين المسلمين و "الآخر" المتمثل بزعماء قريش الذين راحوا يُعِدُّون العُدَّة للقضاء على الدولة الإسلامية الوليدة ، فنشبت بين الطرفين مواجهات عنيفة استمرت زهاء عشر سنين انتهت بفتح مكة المكرمة من قبل المسلمين ، وعندئذ راح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، واستقر الأمر في جزيرة العرب للإسلام .

وقد لخص الإمام الفقيه ( ابن القيم ) رحمه الله تعالى تطور العلاقة بين الإسلام و "الآخر" خلال هذه الفترة النبوية على النحو الآتي : ( أول ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ الناس بالدعوة الجديدة . ثم أمره ربه أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم قومه ، ثم من حولهم من العرب ، ثم العرب قاطبة ، ثم العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة مع الصبر والصفح والكفِّ عن القتال . ثم أذن له بالهجرة إلى المدينة حيث أقام دولة الإسلام الأولى . ثم أذن له بقتال من قاتله ، والكفِّ عمن اعتزله ، فأصبح الكفار معه ثلاثة أقسام : أهل عهد ، وأهل ذمة ، وأهل حرب . أما أهل العهد فقد أمره أن يتم للموفي بعهده منهم عهده إلى مدته ، وأجَّل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وقاتل الناقض لعهده ، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . أما أهل الذمة فضرب عليهم الجزية . وأما المحاربون له فأصبحوا خائفين منه . فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، ومحارب خائف ) وهكذا نجد أن الأحكام التي تنظم العلاقة ما بين المسلمين و "الآخر" قد سارت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على نهج من التدرج حتى آلت إلى المهادنة والسلم إلا المحاربين منهم .

 

الموقف من الآخر بعد العهد النبوي :

غير أن الإسلام لم يكد يصفي حسابه وينظم علاقته بالآخر ، داخل الجزيرة العربية ، حتى برز الآخر على حدود الجزيرة متمثلاً بالروم والفرس ، الذين شعروا بخطر الدولة الإسلامية الوليدة على مُلكهم فبدؤوا يهددونها ويعدون العدة للقضاء عليها ، وعندئذ بدأ عصر جديد لتنظيم العلاقة مع "الآخر" على المستوى الدولي ، وهو ما عرف تاريخياً بعصر الفتوحات التي أسفرت خلال سنوات قليلة عن إنهاء سيطرة الروم والفرس على المنطقة العربية ، وانتشار الإسلام في معظم أرجاء العالم القديم .

ومع تسليمنا بأن تلك المرحلة من الفتوحات كانت لازمة ، بل كانت في الغالب مفروضة على المسلمين بحكم التهديدات الخطيرة التي وجهت إليهم من هنا أو من هناك ، إلا أننا لا مندوحة من الاعتراف بأن مفهوم الموقف من "الآخر" بدأ يعتريه بعض اللبس بعد العهد النبوي وبعد الخلافة الراشدة ، فقد صاغ بعض الفقهاء مفهوماً جديداً للجهاد مفاده ( أنه ينبغي أن لا يترك الجهاد كل سنة مرة على الأقل ، ومعنى ذلك أن يوجِّه الإمام كل سنة طائفة ، ويزجُّ بنفسه معها أو يُخرج بدله من يثق به ، ليدعو الكفار للإسلام ، ويرغبهم فيه ، ثم يقاتلهم إذا أبَوْا ، لأن في تعطيله أكثر من سنة ما يُطمع العدو في المسلمين ، فإن دعت الحاجة في السَّنة لأكثر من مرة وَجَبَ ، لأنه فرض على الكفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه )[1] .

ويبدو من هذه الرؤية الفقهية وكأن الجهاد في الإسلام إعلان حرب دائمة على "الآخر" بغض النظر عن تبدل الأحوال والأزمان والعلاقات بين الأمم وكأن العالم يعيش حالة حرب دائمة ، وهذه في اعتقادنا نظرة فقهية تحتاج إلى مراجعة هادئة وعميقة ، لأنها بنيت على ظروف أملتها في الغالب رغبة بعض الأمراء المتأخرين في التوسع والغنيمة والثراء ، أكثر مما أملتها ضرورات المرحلة ، وهي كما نرى نظرة لا تتماشى مع التدرج بالتشريع الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وانتهى فيه إلى أن الأصل في العلاقة مع "الآخر" هو حالة السلم ، ثم .. كيف لنا أن نرغب الآخرين بالدخول في الإسلام وهم تحت تهديد السلاح كما جاء آنفاً في تعليل الفقهاء دعوتهم للجهاد ؟!

وهذه نقطة دقيقة لا يمكن أن نوفيها حقها في هذه الوقفة ، لكن حسبنا الإشارة إليها لكي ندرك بوضوح أن النظرة الفقهية القديمة للجهاد ينبغي أن يعاد النظر فيها على ضوء ما سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم في تعاملهم مع الآخر ، إذ كان السلام هو الأصل في هذه العلاقة ، ولم يلجأ النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون لمواجهة الآخر بالقوة إلا حين بادر الآخر بالعدوان أو بدأ يعد العدة للعدوان ، كما بيَّن ابن القيم آنفاً ، فإذا لم يبادر "الآخر" للعدوان فإن العلاقة معه تظل في إطار السلام والتعاون على الخير لصالح العباد والبلاد ، وهذا ما أشارت إليه آيات عديدات من كتاب الله ، منها قوله تعالى : (( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عن الذينَ لم يُقاتلوكُم في الدِّينِ ولم يُخرجوكُم من ديارِكُم أنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهم ، إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ 0 إنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عن الذينَ قاتَلوكُم في الدِّينِ وأخْرَجوكُم من دياركُم وظاهَرُوا على إخراجكُم أنْ تَوَلَّوهُم ، ومن يَتَوَلَّهُمْ فأولئكَ هُمُ الظالمون )) سورة الممتحنة 8 ـ 9 .

كما دعا القرآن الكريم مراراً وتكراراً للتعامل النبيل مع الآخرين حتى وإن كانوا أعداء ، ومن ذلك قوله تعالى : (( ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ، ادفعْ بالتي هيَ أحسنُ فإذا الذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنهُ وَلِيٌّ حَميمٌ 0 وما يُلَقَّاها إلا الذينَ صَبَروا وما يُلَقَّاها إلا ذو حَظٍّ عظيمٍ )) سورة فصلت 34 ـ 35 ، فإذا كان هذا هو موقف الإسلام تجاه الذين يقفون منه مواقف عدائية فما بالك بالذين ليس لهم منه مواقف عدائية ؟ لاشك بأن التعامل معهم والتعاون على الخير هو أمر مندوب ومرغوب فيه ، بل أكاد أقول هو أمر واجب لما فيه من إشاعة روح التآخي الإنساني ، وتحفيز النفوس على حب الخير ، والتأليف بينها ، وتحضيرها للدخول في دين الله .

 

الإسلام والتوجه نحو ( العالَمية ) :

ويبدو جلياً مما قدمناه أن الصدام مع الآخر ـ بمنظور الإسلام ـ ليس سوى حالة طارئة قد تقتضيها بعض الظروف ، فإذا زالت هذه الظروف عادت العلاقة مع الآخر إلى أصلها ، وهو السلام والتناصح والتعاون على ما فيه خير البشرية ، وهذا التوجه في الإسلام يتماشى مع سنن الله في خلقه ، فقد شاءت العناية الإلهية أن يكون بين أعضاء الأسرة البشرية شيء من الاختلاف ، لا من أجل الصراع والقتال وقضاء بعضهم على بعض ، بل من أجل أن تتكامل أعضاء الأسرة البشرية كما تتكامل أعضاء الجنين في بطن أمه ، فكما يبدأ خلق الجنين من خليتين مختلفتين إحداهما عن الأخرى (نطفة الذكر وبيضة الأنثى) ثم تتكاثران وتشكلان أعضاءه وأجهزته ليخرج آخر المطاف خلقاً سوياً قابلاً للحياة ، فكذلك بدأ تشكيل المجتمع البشري من ( رجل وامرأة ) ثم بثَّ الله منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، فتشكلت الأسر الصغيرة ، ثم العائلات الكبيرة ، فالعشائر ، فالقبائل .. فالدول .. ولم يتوقف المجتمع البشري عند هذه المرحلة من التطور ، بل واصل مشواره ، وبدأت دوله تتجمع في اتحادات كبيرة ، مثل ( الاتحاد الأوروبي ) وغيره ، ولا نستبعد أن يأتي يوم على أهل الأرض لينضووا كلهم في اتحاد عالمي واحد يجمع شملهم بعد هذه الفرقة الطويلة ليعودوا من جديد أسرة واحدة ، ولتبدأ مرحلة جديدة في هذا التطور البشري ، هي مرحلة اللقاء مع "الآخر" الذي يسكن الكواكب الأخرى ، والذي قد لا يمضي وقت طويل حتى نلتقي به ، ولا نستبعد أن تحصل بيننا وبينه بعض المواجهات العنيفة أول الأمر ، كما حصل بين البشر في البدايات ، ثم ننتهي معه إلى حالة من السلم والتعاون !

ونلاحظ أن هذا التطور في علاقات البشر على الأرض قد ترافق بتطوير قانون دولي استغرقت ولادته أجيالاً عديدة ، واستهدف تنظيم العلاقات المختلفة بين أعضاء الأسرة البشرية ، وقد بدأت هذه المحاولات منذ زمن بعيد حين حاولت بعض الإمبراطوريات القديمة توحيد العالم وإخضاعه لسلطتها ، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل ، لأنها كانت محاولات قسرية أرادت فرض قانونها على العالم بالقوة !

وتدل الوقائع على أن محاولات بعض البشر لإخضاع بعضهم لبعض لم تتوقف على مدار التاريخ ، إلا أنها في العصر الراهن أخذت منحى مختلفاً عما كانت في الماضي ، وقد تمثل هذا المنحى بتأسيس منظمات عالمية تضم تحت جناحها كافة دول العالم ، مع صياغة "قانون عالمي" يذعن له الجميع ، وقد تبلور هذا المنحى في أعقاب الحرب العالمية الأولى حين بادرت الدول التي خرجت منتصرة من الحرب إلى تأسيس ( عصبة الأمم ) في عام 1919 ، وأعلنت أن الهدف من هذه الخطوة فضُّ النزاعات بين البشر بالوسائل السلمية لمنع تكرار مآسي الحرب العالمية التي أهلكت أكثر من عشرة ملايين نفس وخلفت ملايين لا تحصى من الأرامل والأيتام والمعاقين والمشردين ، ودمرت عشرات المدن !

وفي عام 1945 طورت الفكرة بتأسيس ( هيئة الأمم المتحدة ) التي حلت محل عصبة الأمم ، وتوسعت المشاركة الدولية فيها حتى جمعت تحت سقفها كل دول العالم قبيل نهاية القرن العشرين ، وكان لهذا التطور البشري دور لا ينكر في الاستقرار العالمي ، وفي تنظيم العلاقات بين الدول ، ولا يغير من هذه الحقيقة ما يطرأ على هذه المسيرة بين الحين والآخر من انتكاسات وانكسارات وانتهاكات ، فالمحصلة الأخيرة تبقى آخر الأمر إيجابية ، ويبقى توجه البشر نحو لمِّ الشمل أظهر وأقوى من محاولات التشتت والتمزق ، ولا يستطيع منصف أن ينكر ما أحرزته البشرية حتى اليوم من تحسن ملموس في التنظيم الإداري والقانوني والسياسي على المستوى العالمي .

نعم .. مازالت هناك حروب ومآسٍ وحماقات بشرية ترتكب بين الحين والآخر ، هنا أو هناك ، ومازال هناك من القوى العظمى من يحاول بين الحين والآخر أن يسخِّر هذه المسيرة لمصالحه الشخصية ، إلا أننا حين نقارن الوضع الحالي للمجتمع البشري بالأوضاع التي كان عليها في العصور الخالية نجده قد أحرز تحسناً كبيراً يستحق التأييد والمؤازرة ، ولاسيما في ظل المخاطر الكثيرة التي باتت تهدد كوكبنا بكوارث مدمرة لا يمكن مواجهتها بغير تكاتف الجهود العالمية ، منها على سبيل المثال : النمو السكاني المتسارع ، والتلوث البيئي الذي بات يهدد كافة أشكال الحياة في الأرض ، وظهور أوبئة فتاكة لا عهد للبشرية بها ، وانتشار البطالة والفقر المدقع ، وشُحُّ المياه ، وغير ذلك من القضايا والمشكلات العالمية المعقدة التي باتت تؤرق المجتمع البشري قاطبة[2] ، وأمام هذه الأوضاع الحرجة بدأ الجميع يستشعرون ضرورة التوجه نحو لم الشمل أو ما بات يعرف باسم "العولمة (globalization) لأن هذه الأوضاع لا يمكن لأية دولة أن تواجهها منفردة مهما كان لديها من إمكانيات علمية ومادية وبشرية !

ومع تسليمنا بأن الوضع الدولي الراهن ليس هو الوضع الأمثل الذي نتوق إليه ، فإننا نعتقد في الوقت نفسه أن ما أنجزته البشرية حتى الآن في سبيل صياغة قانونها الدولي يمثل تطوراً مهماً في تاريخ الاجتماع البشري ، ونعتقد أن البشرية لن تلبث طويلاً حتى تستكمل النقص الذي مازال يعتري تجربتها حتى الآن ، وبخاصة بعد أن أقيمت في أنحاء العالم عشرات الهيئات والمنظمات والمؤسسات التي تهتم بالقضايا الإنسانية ، وبعد أن أصبح لهذه الهيئات والمنظمات والمؤسسات تأثير قوي يساهم في تشكيل رأي عام عالمي يؤمن بضرورة التقارب بين الأمم ، ويعمل على ترسيخ قيم العدل والسلام وحقوق الإنسان ، ونتوقع أن يسفر هذا الوضع لأول مرة في التاريخ البشري عن ولادة حضارة عالمية يقوم دستورها على الوصايا الإنسانية التي نادت بها مختلف الأديان السماوية على مر العصور ، وهذه مسألة دقيقة تحتاج منا إلى الكثير من التأمل والتدبر وبُعد النظر .

وإن لنا نحن المسلمين أسوة حسنة في التشريع التدريجي الذي سلكه القرآن الكريم للتعامل مع الآخر ، وانتهى به إلى حالة السلم العالمي ، والتعاون على البر والتقوى ، وإن في نصوص الوحي من الرحابة ما يجعلها قادرة على المساهمة الخلاقة بهذا التوجه نحو العالمية ، وإضفاء روح إنسانية نبيلة على هذا التوجه الذي بتنا اليوم في أمسِّ الحاجة إليه .

ونعود هنا إلى المثال الذي ضربناه آنفاً عن تكامل أعضاء الجنين ، فكما أن تكامل هذه الأعضاء ضروري ليخرج الجنين خلقاً سوياً قابلاً للحياة ، فإن تكامل أعضاء الأسرة الدولية ضروري أيضاً لاستقرارها وقيامها بمسؤولياتها ، وهذا ما ينبغي أن يكون حاضراً بصورة خاصة في أذهان الذين يصوغون اليوم نظامنا العالمي الجديد ، الذين عليهم أن يعوا جيداً أن الأسرة الدولية باتت اليوم أحوج من أي يوم مضى لأن يُعَبِّر كلٌّ منها عن انتمائه الإنساني ليس من خلال الاعتقاد بأنه هو وحده القادر على تحقيق المستقبل المنشود للبشرية ، بل من خلال الاعتقاد بأن هذا المستقبل لا يمكن أن يتحقق إلا بتعاون أعضاء الأسرة الدولية بعضهم مع بعض كما تتعاون الأعضاء في تكوين الجنين ، فكما أنه لا يسوغ لأي عضو من أعضاء الجسد أن يدعي قدرته وحده على تكوين الجنين ، حتى وإن كان هو أشرف الأعضاء ، كالقلب أو الدماغ ، فليس لأي عضو من أعضاء الأسرة الدولية أيضاً أن يدعي قدرته وحده على القيام بأمانة الاستخلاف في الأرض مهما بلغ من الغني أو العلم أو القوة !

 


[1] - انظر على سبيل المثال : ابن عابدين 3/218 ، والمغني 8/348 .

[2] - انظر تقارير ( التنمية الاجتماعية والصحة ) الصادرة عن منظمة الصحة العالمية ( WHO ) وغيرها من المنظمات والمؤسسات المهتمة بالشؤون الدولية .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين