كيف صاغ النبي الشباب؟ ـ 1 ـ - كيف نتفهم شبابنا ونتعامل معهم
كيف صاغ النبي الشباب؟
وكيف نتفهم شبابنا وكيف نتعامل معهم وكيف نصوغهم
في حالات كثيرة نجدُ مَنْ يحصر الحديث عن الشباب في إطار مشكلاتٍ محددةٍ كالبطالةِ والعمل والفقرِ والزواجِ ونحو ذلك.
وفي اعتقادي أنّ هذا نوعٌ من الاختزال لقضية الشباب وتحديدٌ لها وتضييق لنطاقها، مما يحولُ دونَ الانطلاق نحو آفاقٍ أرحبَ في تفهم قضيةِ الشباب من حيث خصائصُهم وثقافتهم وقيمهم، ومن ثم حسنُ الفهم لهم، وأسلوب التعامل الأرقى والأكملِ معهم.
وكما أننا مدعوّونَ إلى إدراك ذلك كله، فنحن مدعوون إلى إدراك طاقات الشباب الهائلة، وحسنِ توظيفها واستثمارها بما يحققُ للأمة أعلى درجات العطاء والتقدم في شتى الميادين.
وفي هذا السياق يأتي موضوع حُسنِ التعاملِ معهم، إذ هو متعلقٌ بفهم قضية الشباب كاملة، ومن ثم كيف يكون توجيههم التوجيهَ الأكمل، وكيف نتعامل معهم بالأسلوب الأرقى الذي يستطيع أن يصل إلى سويداء قلوبهم، فيمتلكها ويحركها في الاتجاه الصحيح، التعاملُ الذي يتألفُ القلوبَ ويُشِيعُ الحب فيما بين الكبير والصغير والمربي والشاب، فإذا ما سادتْ ثقافةُ التفاهم والحب تحركت الطاقاتُ وسمتِ الهمةُ وشحذت العزائم واستقامت السلوكيات.
ولنا أن ننظر في بعض أحوال نبينا المصطفى محمد r وهو المربي الأعظم والقدوة الأكمل، كيف كان تعامله مع الشباب، وكيف تفهم أحوالَهم وحركَ قلوبهم ومشاعرَهم واستخرج مكنونات طاقاتهم، وكيف رباهم ووجههم، وحسبنا أن نقدم بين أيديكم نماذج من ذلك:
أنس بن مالك t:
هذا أنس الذي كان في عُمُر الوردِ حين لقنته أمه الشهادتين وملأت فؤاده بحب نبي الإسلام فشُغِفَ أنسٌ به حباً على السماع، ولا غرو فالأذن تعشق قبل العين أحياناً.
وهنا لنا وقفة في دور الوالدين في غرس حب الله ورسوله r في قلوب الناشئة، مما يجعلها تترعرع على ذلك.
وإنما يكونُ غرسُ الحب لله ولرسوله r من خلال كثرة الحديث عن عظمة الله وآلائه وصفاته الجليلة وأسمائه الحسنى وكمالاته، ثم من خلال الحديث عن أخلاق المصطفى r ومواقفه وآثاره وهديه وكلماته.
وهذا كان حالُ أم أنس مع ولدها، وفي هذا الجو من التطلع والتشوق إلى رسول الله r أقبل رسولنا r مهاجراً إلى المدينة، وإذا بأم أنس تود أن تترجم حبها لرسول الله r إلى واقع وحقيقة وعمل، فتأتي بأنس وهو غلام في العاشرة من عمره، فقالت: يا رسول الله لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة، وإني لا أجدُ ما أُتْحِفُكَ به غير ابني هذا، فخذه فليخدِمك ما شئت.
هذا موقف أم أنس.
والآن لِنَرَ كيف كان هدي النبي r مع أنس الذي ما زال فتى يافعاً على أبواب الشباب والفتوة والقوة، كيف أسر القلوب r ، وكيف حرك المشاعر وكيف ربى r ؟ وكيف صاغ الشباب هؤلاء، كيف تفهمهم وملك قلوبهم وحبهم.
هشّ النبي r للفتى الصغير وبشَ ومسح رأسه بيده الشريفة ومس ذؤابته بأنامله الندية وضمه إلى أهله، تلك كانت أولَ مظاهر التعامل الأرقى والأكمل.
ولقي أنس من كريم معاملة النبي r مالم يظفر به ولد من والد، وعرف من نبيل شمائله وجليل خصاله ما تغبطه عليه الدنيا.
يحدثنا عن ذلك أنس فيقول:
كان رسول الله r من أحسن الناس خلقاً، وأرحبهم صدراً وأوفرهم حناناً، فلقد أرسلني يوماً لحاجة، فخرجت وقصدت صبياناً يلعبون في السوق لألعب معهم، ولم أذهب إلى ما أمرني به، فلما صرت إليهم شعرتُ بإنسان يقف خلفي ويأخذ بثوبي، فالتفتُّ، فإذا رسول الله r يبتسم ويقول: يا أُنيس أَذهبت حيث أمرتك، فارتبكتُ وقلت: نعم إني ذاهب الآن يا رسول الله، يقول أنس: والله لقد خدمته عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا قال لشيء صنعته: لم صنعته، ولا لشيء تركته: لم تركته.
وكان رسول الله r يُغدق على أنس من نصائحه ومواعظه ما ملأ قلبه وملك لبَّه، من ذلك قوله: يا بني إن قدِرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، يا بني إن ذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة، يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركةً عليك وعلى أهل بيتك.
ولقد دعا رسول الله r لأنس بالبركة والعطاء والرزق، وكان من دعائه: اللهم ارزقه مالاً وولداً، وبارك له، وهكذا كان([1]).
فهذا أنموذج حي عظيم من نماذج التربية النبوية في تعاملها مع الفتيان ثم الشباب، وامتلاك قلوبها وتفهم أحوالها، واستخراج مكنوناتها.
فهل لاحظت وهو يناديه نداءَ التحبب والتقرب: يا بني ؟ ! 
وكان تارة يناديه: يا بني، وتارة يناديه: يا أُنَيس، تحبباً وتدليلاً.
وهل لاحظت كيف يقدّر موقف أنس إذ تأخر عن بعض ما أمره به ؟
وهل لاحظت كيف يحرص على توجيهه وتذكيره ووعظه، ويدله على أرقى الآداب.
وكيف كان هؤلاء الشباب أدباً وذكاءً واستقامة، بحيث أن رسول الله لا يقول له لشيء فعله لم فعلته، وكيف كان يتجاوز عن هفواتهم، مع التوجيه والتسديد.
وأساس ذلك كله الحب لله ولرسول الله r، ليثمر ذلك كله التطلع إلى رضوان الله وحب الآخرة والشوق إليها.
فكان أنس شديدَ الرجاء لشفاعة النبي r له يوم القيامة، فكثيراً ما يقول: إن لأرجو أن ألقى رسول الله يوم القيامة فأقول له: يا رسول الله هذا خويدمك أنس.
لعمريإنشباباًينشَّؤونعلىحباللهورسولهrوحبخدمتهrوالتطلعإلىرضوانالله وحب الآخرة وما فيها من نعيم، لعمري إن ذلك من أعظم ما نصوغ به شخصية شبابنا اليوم.
فإذا اجتمع إلى ذلك الهمة والتوقد والعقل الراجح والأدب الجم في التعامل مع الخلق، فأي شاب .. وأي إنسان ..
فهل نظرنا في أحوالنا وشبابنا وأبنائنا كيف نصوغهم اليوم وإلامَ يتطلعون، وبماذا يتعلقون، ومن يحبون، وبمن يقتدون، ولمن يفتدون، ومن يناصرون، ولمن يخْدِمون، ذلك مما يُصاغُ به الشبابُ اليوم.
فلئن سألني شاب أو مرب كيف نصوغ شخصية أبنائنا وشبابنا اليوم، أطرح عليهم تلك التساؤلات:
ـ من تحب؟
ـ وبمن تقتدي؟
ـ ولمن تفتدي؟
ـ وبمن تتعلق؟
ـ وإلام تتطلع؟
ـ ومن تناصر؟
ـ ولمن ولاؤك؟
ـ ومن تخدم؟
ـ إلامَ ترنو؟
ـ وكيف تتعلم، وماذا تتعلم، وممن تتعلم؟
ـ وما آداب سلوكك مع الله؟
ـ وما آداب سلوكك مع رسول الله r ؟
ـ وما آداب سلوكك مع العلماء والآباء والأمهات والجيران والأصدقاء والخلق جميعاً؟
ـ ومن أين تستمد ذلك كله.
إنالإجابةالصحيحةالسليمةعلىكلذلكبدايةالطريقفيصياغةشخصيةشبابناوأبنائنا.
وإذا نحن فعلنا ذلك نكون قد قطعنا شوطاً كبيراً على طريق تفهم شبابنا وقضاياهم، وكيف نتعامل معهم.
زيد بن حارثة t:
ونقف مع أنموذج آخر من الشباب كيف تعامل معهم رسول الله r وكيف صاغهم: إنه زيد بن حارثة t.
كان زيد بن حارثة غلاماً صغيراً يَدْرُجُ نحو الثامنة من عمره، وقد سبي في بعض معارك العرب قبل الإسلام فأتي به رقيقاً، وقد كان حراً بن حرٍّ فأتي به إلى سوق عكاظ وعرضوه للبيع، فاشتراه حكيمُ بن حزامِ بن خويلد وهو من أثرياء مكة، ولقد كانت خديجة بنت خويلد زوجُ رسول الله r عمة له، فأهداه لخديجةَ، فلما تزوجتْ خديجة برسول الله r فلم تجد خيراً من غلامها الأثيرِ لديها تُهديه لرسول الله r .
إذن ينتقل الآن هذا الشاب إلى رعاية محمد r قبل بعثته، فكيف كان رسول الله r معه وكيف أسرَ قلبه وملك عليه جوانحه، ومن ثم كيف استقام أمر زيد، حتى كان من أوائل من أسلم وتابع محمداً r .
زيد الآن رقيق عند محمد r ، وما زال والد زيد الحر يبحث عن ولده، وكان يقول فيه الأشعار لشدة تعلقه به، ويسائل الركبان، ومما قاله فيه شعراً:
بكيتُ على زيدٍ ولم أدْرِ ما فعلْ

 
أحيٌّ فيرجى أم أتى دونَه الأجلْ

نقول هذا لندرك كم كان تعلق والد زيد بولده، وفي موسم من مواسم الحج قصد نفرٌ من قوم زيد إلى الحج قبل الإسلام، وفيما كانوا يطوفون بالبيت، فإذا بزيد وجهاً لوجه، فعرفوه وعرفهم، وسألوه وسألهم، ولما قضَوا مناسكَهم وعادوا؛ أخبروا والده بالأمر، فأسرع يضرب راحلته إلى مكة، حتى أتى رسول الله r، وطلب زيداً منه، فكان هذا الحوار:
قال: قد جئناك في ابننا عندَك يا ابن عبد المطلب، فأنتم جيران الله، تَفكون العانيَ، وتطعمون الجائعَ، وتغيثون الملهوفَ.
فيقول رسول الله r: ومن ابنكم ؟ فقالوا: غلامك زيدٌ
فقال r : وهل لك فيما هو خير من الفداءِ، فقال أبوه: وما هو ؟ قال r : أدعوه لكم، فخيروه بيني وبينكم، فإن اختارَكم فهو لكم بغير مال، وإن اختارني فما أنا والله بالذي يرغب عمن يختاره.
يا لله، ما هذه الثقة المطلقة ؟ هل يمكن لإنسان أن يختار الرقَّ والعبودية على الحرية ؟
هل يمكن أن يختار رجلاً غريباً عنه فيقدمَه على والده وأمه ؟
نعم، لقد خُيِّر زيد فماذا كان موقفه ؟ 
لقد قال بلا إبطاء ولا تردد: بل أقيم معك، فقال له أبوه: ويحك أتختار العبودية على أبيك وأمك ؟ فقال زيد: إني رأيت من هذا الرجل [ يعني محمداً r ، وذلك قبل الإسلام ] شيئاً، وما أنا بالذي يفارقه أبداً.
وهنا كان موقفُ محمد r الكريمُ أن أعلن في الحرم أن زيداً هذا ابني يرثني وأرثه، فطابت نفس والد زيد وطابت نفوس الجميع([2]).
فكيف صاغ رسول الله r هذا الشاب، وكيف أسر قلبه، وكيف تعامل معه، ولماذا يفضل هذا الشاب الرق من أجل صحبة محمد r .
إنك تلاحظ في ثنايا قول أنس في وصف رسول الله r الجوابَ على ذلك، إذ يقول:
كان رسول الله r أحسن الناس خلقاً وأرحبهم صدراً وأوفرهم حناناً، وهذا ما أسر قلب زيد وملك عليه لبه وعقله.
ولم يكن يدور في خلد زيد أن هذا السيدَ الجديد والوالد الجديد محمداً سيكون سيد الكون وإمام الأنبياء وأن دولة للسماء ستقوم على الأرض، وقد قامت في قلب محمد r أولاً، فامتلك بها قلبَ زيد وقلوبَ أصحابِه، وما كان يدور في خلد زيد أنه سيكون من لبناتها الأولى.
فكان زيد ثمرة من ثمار الهدي النبوي الأعظم في خُلُقه وهديه وطُهْره وتربيته.
ويقدم لنا رسول الله r الأنموذج الأرقى في التضحية والفداء إذ يقدم زيداً ليكون شهيداً على ثرى مؤتة، وزيد هو ثمرة تلك التربية، فيُقدِمُ حباً وفداءً، فهل للمربين ولأولياء الأمور أن يقفوا مع زيد وينظروا كيف كان حالُ رسول الله r معه حتى غدا هذا الشاب يقبل عليه ويحبه ويتعلق به ليكون لنا معشر المربين في ذلك قدوة، وليكون لشبابنا في زيدِ قدوةٌ فيمن يتعلقون ويحبون ويختارون ويفتدون.
وإلى تتمة الحديث وبقية النماذج التي صاغها النبي ^ من شباب الصحابة في الحلقة القادمة بعون الله تعالى .
 
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
وننتقل إلى أنموذج آخر من الشباب، لنرى كيف صاغهم رسول الله r ، فنقف مع ابن عباس t.
يَلْمَحُ رسول الله r في ابن عباس ذكاءً وتوقداً ونباهة، فلقد حدث ابن عباس عن نفسه فقال: همَّ رسول الله r بالوضوء فما أسرعَ أن أعددتُ له الماء، فسُرَّ بما صنعتُ، ولما همَّ بالصلاة أشار إليَّ أن أقف بإزائه فوقفت خلفَه، فلما انتهت الصلاةُ قال: ما منعك أن تكون بإزائي، فقلت: أنتَ أجلُّ في عيني وأعزُّ من أن أوازيَكَ يا رسول الله r ، وهنا يدعو له رسول الله r: اللهم آته الحكمة([3])، وفي رواية قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل([4]).
وهذا منهج ثابت لرسول الله r أن ينفح هؤلاء الشباب من بركات دعائه ما يفيض الله به عليهم هداية ورحمة وعطاءً.
 ونحن أحوج ما نكون لذلك في تعاملنا مع شبابنا، إن أصابوا أثنينا عليهم وشحذنا عزائمهم وباركنا صنيعهم، وإن قصروا سددناهم ووجهناهم، وكان الدعاء لهم وسيلة من وسائل الخير الذي نرجوه عند الله لهم صلاحاً لقلوبهم.
وكان رسول الله r لا يفوت فرصة أو مناسبة يوجه فيها الشباب بشكل خاص إلا وفعل، فهو يُردِفُ ابن عباس الفتى خلْفَه ثم يقول له:
يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجَفَّتِ الصحف([5]).
فماذا نلاحظ ؟
إضافة إلى اغتنام المناسبة للتعليم؛ نتسائل ما هو الذي كان يحرص رسول الله r أن يوصله إلى الشباب وأن يصوغهم من خلاله، موجهاً لنا كيف نتعامل مع هؤلاء الشباب.
لقد كان حريصاً ـ كما نلاحظ ـ على غرس الإيمان بالله والتسليم لأمره، وربط القلب به سبحانه مبيناً آثار ذلك في حياة المرء، وأن لا يتوكل الإنسان إلا على الله تعالى، وعندئذ لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يطلب ولا يلجأ ولا يستعين ولا يستغيث إلا بالله، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجو أحداً سواه.
ترى عندما نصوغ شخصية شبابنا على هذه المعاني؛ فهل فاتهم شيء من الخير ؟
ألا ترى أن هذه المعانيَ مفاتيحُ لكل أمل وعملِ خيرٍ، وصيانةٌ لهم.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
وعلى نحو هذا المنهج كان موقف رسول الله r مع ابن عمر، إذ يقول ابن عمر: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: « كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل »([6]).
هذا المنهج النبوي الذي يزرع في القلب التطلع إلى الآخرة، ومن تطلع إلى الآخرة استعد لها، ومن استعد لها استقامتْ سيرته وحسنت سريرته، وكان r يقول: اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك([7]).
وكان ابن عمر على أثر هذه التربية يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك([8]).
فهذه معالم أخرى من معالم هديه r في صياغة الشباب.
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:
ونجد معلماً آخر في موقفه من عبد الله بن عمرو إذ قال له: « يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقومُ من الليل، فترك قيامَ الليل »([9]).
ومع ذلك فنجد من معالم تربيته وهديه r أن يحدثَ ذلك التوازن في قلب الشاب بين الإقبال على العبادة كمعلم من معالم الهداية للشباب، وبين إعطاء كل ذي حق حقه من الواجبات، مع عدم تحميل الإنسانِ نفسَه فوق طاقتها مهما كان ذا همة، وهذا ما يحدثنا عنه عبد الله بن عمرو، ومما ورد عنه في ذلك قوله r له: ألم أُخبرْ أنك تصوم النهارَ وتقومُ الليلَ، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعلْ، صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورِك عليك حقاً، وإنْ بحسبك أن تصومَ في كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشْرَ أمثالها، فإن ذلك صيامُ الدهر، قال عبد الله بن عمرو: فشددت فشدِّد علي، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، فقال: صم صيام داود ولا تزد عليه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فكان عبد الله بن عمرو بعدما كَبِر يقول: يا ليتني قبلت رُخصة رسول الله r ([10]).
طلحة بن عبيد الله t:
كما نلحظ من المنهج الثابت لدى رسول الله r في تربية الشباب؛ ملاحظتُهُ طاقةَ القوة والشجاعة لديهم وتوجيهها واستثمارها الاستثمارَ الأمثل الأكمل.
ومن ذلك ما حدّث به جابر بن عبد الله فقال: لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول الله في ناحية في اثني عشر رجلاً، منهم طلحةُ الأنصاري، فأدركهم المشركون، فقال النبي: مَنْ للقوم، فقال طلحة: أنا، فقال r: كما أنت [ أي اجلس ولا تقم ]، فقال رجل: أنا، قال: أنت، فقاتل حتى قتل، ثم التفت فإذا المشركون، فقال: من للقوم، فقال طلحة: أنا، فقال: كما أنت، فقال رجل: أنا، فقال: أنت، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى بقي مع نبي الله طلحةُ فقط، فقال: من للقوم، فقال طلحة: أنا، فقاتل طلحة قتال الأحدَ عشرَ حتى قطعت أصابعه، فقال طلحة: حس([11] فقال r: لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، ثم رد الله المشركين([12]).
وهكذا نرى كيف ادخر رسولُ الله r طلحةَ للمهمة الأعظم، لما علمَ منه، وكيف وجه طاقات الشباب في مكانها، حتى في ميدان الجهاد والشهادة والتضحية، وهو الميدان الأرقى شأناً.
معاذ بن جبل t:
ونقف مع أنموذج آخر هو معاذ بن جبل، ومعاذ هو أحد أولئك الشباب الذين تخرجوا من مدرسة النبوة العظيمة، وكان فتىً في مقتبل العمر لما قدم رسول الله r المدينة، فلزمه معاذ ملازمةَ الظل لصاحبه، وأخذ عنه القرآن، وتلقى عليه شرائع الإسلام، فكان من آثار ذلك ما حدثنا به يزيد بن قُطيب قال: دخلت مسجد حمصَ فإذا أنا بفتى جَعْدِ الشعرِ، قد اجتمع حوله الناس، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ، فقلت: من هذا ؟ فقالوا: معاذ بن جبل.
وحسب معاذ شهادة رسول الله r له: أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ([13]r .)، وكان أحدَ الستةِ الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله
ولقد وضع رسولنا r هذه الطاقات العلمية الفريدة في خدمة الإسلام والمسلمين، فلما فتحت مكة وأقبل الناس على الإسلام عهد النبي r لعتاب بن أُسيدٍ ليخلُف رسول الله r على مكة واستبقى معه معاذاً ليعلم الناس القرآن ويفقههم.
ولما جاءت رسل ملوك اليمن إلى رسول الله r تعلن إسلامها وتسأله أن يبعث معها من يعلم الناس؛ انتدبَ لهذه المهمةِ نفراً من الدعاةِ، وأمّر عليهم معاذ بن جبل.
كل ذلك ولم يكن معاذٌ قد بلغ سن الثلاثين.
إذن كان من هديه r في صياغة الشباب أن يوجههم نحو العلم والامتلاء منه، لمن يرى فيه أهليةً لذلك، ثم يحملهم مسؤولية الدعوة والتعليم، ليقوموا بها على أحسن وجه، وليكونَ ذلك معلماً من معالم صياغة الشباب والإفادة منهم.
تلك أيها الإخوة نماذجُ من هدي النبي r في هدي الشباب وصياغتهم وحسن التعامل معهم، وفهم شؤونهم وتوجيه تطلعاتهم وطاقاتهم، نضعها بين يدي الآباء والأمهات والشباب أنفسهم، لنقول: نعمْ نحن أحوجُ ما نكون إلى الارتقاء نحو تطلعات شبابنا والغوص على عميق مكنوناتهم وأسرارهم، واستثارة طاقاتهم وحسن التعامل معهم وكسب قلوبهم.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة.
وبعد، فإن في السنة النبوية ومنها السيرة العطرة كنوز عظيمة لشبابنا، وما ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض من هدي النبوة، فحري بكل شاب مؤمن أن يقرأ سيرة نبيه r وسيرة أصحابه الأعلام، فإنها تنير الطريق، وتوضح السبيل، وتنهض بالهمم، وترتقي بتطلعات النفس إلى العلى.


([1]) انظر: عبد الرحمن رأفت الباشا، صور من حياة الصحابة: ص 9 - 16 .
([2]) انظر: صور من حياة الصحابة: ص 217 - 225 .
([3]) أخرجه الأصبهاني في حلية الأولياء ج 1 ، ص 315 .
([4]) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين رقم6280 وصححه، وأخرج منه البخاري رقم 143 قوله: « اللهم فقهه في الدين » .
([5]) أخرجه الترمذي رقم 2516 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
([6]) أخرجه البخاري رقم 6053 .
([7]) أخرجه الحاكم في المستدرك رقم 7846 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
([8]) أخرجه البخاري رقم 6053 .
([9]) أخرجه البخاري رقم 1101 ومسلم رقم 1159 .
([10]) أخرجه البخاري رقم 1874 .
([11]) « حس » : كلمة توجع، مثل « أوه » ، يقولها الإنسان إذا أصابه أذى أو جرح أو حرق.
([12]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى رقم 4357 و 10455، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 1، ص 27: ورواته ثقات.
([13]) روي بلفظ: « وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل » ، أخرجه الترمذي في جامعه رقم 3790 وقال: « هذا حديث حسن غريب » ، والنسائي رقم 8242 ، وأحمد في المسند 14022 ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين رقم 5784 وقال: « هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه » ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بترتيب ابن بلبان رقم 7131 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين