بين الفكر الاسلامي والواقع

 
 
 
 

ماهر سقا أميني
إذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يمثلان أساس وأصل رسالة الإسلام الخاتمة، وإذا كان الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان قد تلقفوا فهم هذه الأساسات من مصدر الوحي مباشرة فإن هذا لا يعني أن ينسحب اعتبار “التقديس” والنهائية الحتمية والحادة في كل الفهوم التالية التي تعاملت مع الوحيين عبر العصور، لاسيما أن لكل عصر لغته ومعارفه ومشكلاته وتطلعاته، ويتعامل كثير اليوم من أصحاب الخطاب الإسلامي مع الأدوات المعرفية والخطابية نفسها، متجاهلين مرور أكثر من ألف وخمسمئة عام على تنزل الوحي من السماء وتردده على لسان المصطفى عليه الصلاة والسلام، وللوحي لغته الخاصة التي لا تبلى مع الأيام، إلا أن المسألة لا تقف عند لغة الخطاب التي صارت بحكم التغير غريبة على الآذان والنفوس في أحسن الأحوال، وإنما تتعدى ذلك إلى طرائق التفكير التي شهدت انقلابات جذرية وتشهد اليوم تحولات تكاد تكون ثورية بين كل فينة وأخرى .

الخطاب الإسلامي لايزال مصراً على ثقافته الشفاهية مع قليل مما أفاده من المنطق الأرسطي في علوم الكلام والتوحيد، من دون أن يكون هناك أدنى معرفة أو إلمام بنظريات المعرفة والإدراك وفلسفة العلوم وهي مجالات مهمة لا بد من الإحاطة بها لتطوير الخطاب الإسلامي والانتقال به من مجرد “الوعظ” و”أحكام الحلال والحرام” إلى خطاب ينطلق من ثوابت القرآن والسنة، ولكنه يستطيع أن يلعب أدواراً مهمة في تحقيق نهضة اسلامية شاملة .

قد يقول قائل إن ماتركه السلف من أصول فقه ومصادر استنباط أحكام وماتركوه من تفسير للقرآن الكريم والسنة المطهرة كاف لمن أراد أن يصلح دينه، والحق أن الإسلام ليس مجرد دين عبادات وحلال وحرام، وليست القضية مجرد قضية أحكام، وإذا كانت هذه الاهتمامات تقنع المشتغلين فيها والعاملين عليها فإن العالم اليوم ينتظر من المسلم أن يحاوره بلغته وأن يكون قادراً على تلمس مشكلاته بوعي يقارب وعيه، وباختصار يمكن القول إن مناهج التفكير عند المسلمين اليوم هي مناهج قد تصلح لثلة من أصحاب الاختصاص أو لبعض الجماهير ممن يروق لهم الوعظ بالرقائق وما عدا ذلك يمكن القول إننا مازلنا نعيش في الفضاء الثقافي والفكري القروسطي (القرون الوسطى) .

إن أخطر ما يمكن أن يكون هو عدم الشعور بالحاجة إلى ما سلف ذكره في السطور السابقة، فإذا كان واجب الدعوة والتبليغ وواجب إعمار الأرض والدخول في حوار حضاري شامل هو من أولويات واجبات المسلم، فهل نقابل كل هذا بالصياغات المكررة والمعادة والمنسوخة آلاف المرات وعبر مئات السنين وبتفكير وصل في نموه في أحسن الأحوال إلى حد التماس شيء من منطق أرسطو - مع كثير من التردد - بعد أن تجاوزه التفكير الإنساني بمراحل؟ وهل سنبقى نتعامل مع “الفكر الإسلامي” على أنه مجموعة معارف تكونت وتأطرت ثم سيجت في سياج دوغمائي لا يقبل الحوار ولا التعديل ولا التطوير؟ إن من أهم ما يجب النظر فيه وتأكيده، عليه هو أن للمعارف والأفكار تاريخاً يتأثر بالكثير من العوامل المعرفية والاجتماعية والسياسية، وكتب التفسير والفقه والسياسة الشرعية وعلم الكلام في تراثنا الإسلامي لا تخرج عن هذه القاعدة ولا بد من دراسة لتاريخ هذه الأفكار وتقييم لها، لا مجرد النظر اليها على أنها انجازات عظيمة قام بها رجال لا يمكن أن تلد النساء أمثالهم، وليس هذا طعنا في التراث الإسلامي العظيم ولكنه دعوة إلى فهمه وتقييمه، وليس هذا دعوة للبدء من الصفر فما أنجز وكان بميزان العلم الصحيح ثابتا ليس عليه آثار تدخل الظروف المرحلية فهو على العين والرأس، ولكنه دعوة إلى مراجعة الفكر الإسلامي المتراكم في ضوء التفاعل الجدلي بين الفكر والواقع، فالفكر لا يسير ويتطور وينمو بمفرده .

لا أعتقد أن الفخر الرازي عندما حشد في تفسيره كل ما وقع تحت يده في تلك الفترة من معارف قد أخطأ، وما زلنا بحاجة إلى خطاب إسلامي يفيد من اللحظة الفكرية الراهنة بعيدا عن الاجترار والتكرار الذي مل منه الناس حتى صار كثير منهم يحضرون إلى المسجد قبل إقامة الصلاة يوم الجمعة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين