ضروراتنا بين زاد الحس والروح

الشيخ البهي الخولي

-1-
هل سعد الغرب بحضارته، حضارة المادة والآلة؟… لقد سار طويلاً في بيداء الحياة يخترع، و يكشف، ويجد على أمل أن يلتقي مع السعادة، فيهنأ ضميره ويذوق وجدانه رحمة الطمأنينة والسلم… ولكنه طوى ما طوى من بيدائه دون أن يجد روح السعادة المأمولة … لقد وجد سراب السعادة، ولم يجد السعادة نفسها… وجد لذة الحس، وأسباب الترف، ومتعة الجسد، ورضا الغريزة...وجدها على مراحل، وكلما بلغ مرحلة، وجد الذي يذوق منها لا ينقع له غلة، ولا يرضى له أملاً، ولا يسكن له لهفة، فيعزم الأمر إلى مرحلة جديدة يحسن فيها الوسائل، ويترع الجديد الذي يضاعف الرفاهية، ويفتح آفاقاً في المتعة، وترف الحس، ونعيم الجوارح وتنشيط الخاطر بألوان اللهو والمرح
ويؤنسه في مرحلته الجديدة طيف السعادة المرجوة، يتراءى له من بعيد، وخيال النفوس الظامئة كأنها أرواح تحوم على مورده السائغ المنتظر، تستحثّ خطاه ليبلغ بها روضته الغدقة التي أعد بها من ألوان الثمار والظلال والري، ما فيه نعيم الأبد، وسعادة الدهر… ولكنه لا يكاد ينتهي من مرحلته، ويطلع على الدنيا بجديده، حتى تنقشع من أمام عينيه الأطياف، وتتبدَّد صور الأرواح المحومة، ويتبيَّن أن الذي كان يتراءى له سراب في سراب… فيستأنف مرحلة جديدة، إلى سراب جديد، على ظمأ لا ينتهي، وضجر لا يسكن، وقحط روحي تتثاور فيه أعاصير القلق وهجير الحرمان، فلا يدري أين خصبه وجناه، ولا متى سلمه وطمأنينته…
 
تلك حقيقة يقررها القوم، ولا ندعيها عليهم، ويذكرون في علتها أنها البعد عن الله تعالى، بل يذكرون من أعراضها التي تلازمها ولا تنفك عنها حطَّة الخلق وانهيار القيم، فيقول الأستاذ ( أندرو كونواي أيفي) رئيس قسم العلم الكلينيكية بكلية الطب بجامعة شيكاغو ـ في بحث له عن وجود الله تعالى: (إن الأحزان والأمراض والكوارث التاريخية تثبت لنا أن الأخلاق والعدالة والرحمة والحرية قد تفقد معانيها وتؤدي إلى حياة ذليلة خسيسة، ما لم تكن متّصلة بإيمان عملي ، ففي الإلحادية واللادينية ضاعت المواهب التي حبا الله بها الإنسان وتلطخت بالأوحال…).. وينتهي الأستاذ بأنه لابد من العودة إلى الله، وأن سعادتنا ليست في المتاع الحسي الذي جنُّوا به، بل هي في القيم الروحية التي لا يدركها عدٌّ أو وزن: (إن الأمل في مستقبل الإنسان يقع على الدوافع  التي تقودنا إلى قيم ومعان سامية لا نستطيع لها عداً، ولا وزناً … فإن السعادة الحقيقية تأتي عن طريق الأشياء التي لا يتناولها العد أو الوزن).
 
-2-
 
وحين يأتي هذا الكلام ممَّن جربوا العلة، وجربوا لها مختلف الوصفات، فلم يجدوا غناء إلا في نبذ المتاع الأدنى والتعويل على زاد الروح من القيم العليا، نكون في غنى عن أن نجرب ما جربوا، وأن نمضي في طريق الشقاء إلى المدى الذي بلغوا ولعل المخدوعين منا يتبيَّنون على ضوء هذا الكلام حقيقة السراب الذي طالما حسبوه ماء
على أن الذي يعنينا ونهتم له هو الدلالة على مصدر الزاد المأمول، فليس يغني فيما نحن بصدده أن نكرر عبارات غامضة من قبيل (الزاد المعنوي)، و (القيم السامية) ، و (الحظوظ الروحية) إلى آخر ما هنالك من عبارات لا تقع بالذهن على مسمَّى بعينه في عالم الحسّ، ولا تُجْدي في العلاج إلا تأخير أمد العلة… وقد يستوي في الجهل بمفهومها القائل والمقول له… فما مصدر ذلك الزاد، وتلك القيم، وهذه الحظوظ؟
ونقولمصدرها الأول والأخير… كتاب الله عزوجل… وما سنة الرسول عليه السلام في ذلك إلا ضوء ينبع من نفس المشكاة، يوضح مبهماً، أو يفصِّل مجْملاً، أو يؤكِّد ما تكون المصلحة في توكيده… فكتاب الله عزَّ وجل ـ وحده ـ  هو عمدة هذه القضية ـ كشأنه في كل أمر يعرض له ـ يأتي فيها بما تدهش له العقول إعجازاً وروعة وإحاطة ودقة، وإصابة وحكمة، وإن كان يدق على الألباب أحياناً حين يسمو بها في ملكوت المعاني، فلا يكون حظها من إبانة اللفظ إلا ما يشبه الرمز والإشارة، تنبيهاً إلى مقام تستدعي فيه الأذواق، وملكات القلوب لتكون عوناً لها على إدراك ما هي بصدده من علم الله..
ومن تلك القيم وحقائق هذه الزاد، ما هو مبثوث في أقطار السموات والأرض، انبثاث ضوء الشمس في اليوم الضاحي، والله سبحانه وتعالى يقول:[اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {النور:35 }. ولكنا نقصر القول على أضيق دائرة ممكنة... دائرة ملتصقة بحواسنا لا تنفك عنا ولا ننفك عنها لتعلقها مباشرة بنفعنا الذاتي... وفي نطاق هذه الدائرة، وألفة تلك المباشرة، يتيسَّر لنا مجال البحث، ويتسنَّى عرض أكثر ما نريد.
 
ذلك أن للكائنات دلالةً على الله تعالى، كما يدل الأثر على المؤثر، وكما تدل الصنعة على الصانع، ومن الأمور المشاهدة: أن كل صنعة تحمل من صفات صانعها بقدر ما يوليها من عناية ويبذل لها من فن، ويكاد المتأمّل يشعر أن اهتمام الصانع قد نقل انفعالات نفسه وحقائق ذاته  مع ما نقل إلى الصنعة من مصطلحات الفن وخصائص الإجادة...ذلك من تجاربنا ومألوف مشاهداتنا في حياتنا الواقعية، حتى ليحس أحدنا في نفسه أثراً لجمال شخصيَّة الصانع، بجد به لوناً من الصحبة الروحية المؤنسة…
 
ونقول - ولله المثل الأعلى-: إن تجاربنا الواقعية في عالم الحس رموز أو أحلام تعبر عن أمور في عالم الحق والروح، فالله تعالى صانع هذا الكون… وهو سبحانه حكيم يريد الحق ولا يفعل العبث… ويكفي الصنعة حفاوة، أن تكون مظهراً لإرادة الصانع الحكيم…وهو جلَّ شأنه جميل ،ومصدر كل كمال، وإحسان، وزينة، فلا جرم أن تطالعنا آثار الحكمة ،والكمال ،والزينة، والإتقان في صنعة الكون إذا استقبلناها بما لِوَعينا الباطن من بصائر وأذواق… وقد أخبر سبحانه أنه: [أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] {النمل:88}.وأنه:[الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ] {السجدة:7}. وأنه جعل:[ مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا] {الكهف:7}. فالكون على هذا معرض حافل بآثار الجمال، وآيات الحسن من ناحية دلالته على الخالق.
 
قال القرطبي: (والزينة كل ما على وجه الأرض، فهو عموم لأنه دالٌّ على بارئه… وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وأحكامه…)
وما تطالعه بصائرنا وأذواقنا في هذه الآيات، من حقائق الصفات وجمال الآثار، هو ـ لا غيره ـ ما نسمِّيه (القيم السامية)… والحظوظ الروحية، والزاد الذي يحيا به كياننا الروحي، وتكتمل به ملكاته نوراً، وإدراكاً، وذوقاً، وقوة، وسعادة…
 
وقد التفت الإمام الزمخشري إلى هذا المعنى في قوله تعالى:[هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] {البقرة:29}. فقال في تفسيره ما نصه: (خلق لكم، أي لأجلكم، ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم، أما الانتفاع الدنيوي، فظاهر، وأما الانتفاع الديني ـ أي: الروحي ـ فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع  الدالة على الصانع، القادر الحكيم) وهو كلام دقيق حكيم يتبين منه أن لنا في كل معنى حسية ضربين من النفع ـ أو ضربين من الرزق ـ أحدهما : حسّي هو المادة التي نأكل منها ونشرب… أو نحمل عليها ونركب… أو يتحقَّق بها نحو ذلك من المنافع… والآخر: معنوي ،وهو دلالة النعمة على الله تعالى، ويدرك بشهود فضل الله في إنعامه بها، وتدبيره إيّاها على وَفق مصالحنا، وذلك من باب الأرزاق لا منتهى لآفاقه…
 
وإذن فأعدل أنماط الحياة، وأكفلها بتمام السعادة، هو ما يهدي إليه منطق تلك النعم الذي لحظه الزمخشري، أي: أن يكون لنا في كل نعمة ضربان من الزاد، أو ضربان من النفع الحسي والروحي، فإذا لم نشهد من النعمة سوى ما لنا فيها من حظٍّ حسّيٍّ، ولم نحفل إلا به، فقد ازْدَرينا فضل الله فيها... وأعرضنا عمَّا لها من نفائس الجمال وقيم الحق، وهي حقيقة نفعها... وحرمنا أرواحنا زادها الحق الذي هو مدد حياتها، وحقيقة ما لها من تمييز وقدرة على إبداع الحق، وإنجاب مثل الخير... فإذا كان الخلل يدرك حياتنا الحسيَّة إذا فرطنا في حقيقة النفع، ورضينا أن نعطِّل أفضل مواهبنا وملكاتنا، فنعيش بها مطموسة لا تبصر. ولا تدرك شيئاً ممَّا حولها من حقائق الجمال والخير؟ أي فساد يدرك الحياة يومئذ ؟ وأي تعس يدرك الإنسان؟...
 
إن أيسر ما يهدي إليه منطق النعم، أن الله سبحانه لم يخلقها عبثاً، ولم يميزها بدلائل فضله وشواهد عدله سدى، وأن قانون الانتفاع بها لا يقوم إلا بشهود ذلك الفضل، وتحقيق ذلك العدل بملاحظة حق كلٍّ من البدن والروح في رزق الله.. ذاك يأخذ حظَّه بوسائل الحس وتمثيل المعدة، وتلك تنال حظوظها بالتأمل فيما وراء الحس من ملكوت القيم... وإذا كان هذا هو منطق الفطرة في الانتفاع بالنعم، فهو القانون الذي أنزله سبحانه في كتابه، إذ لم يكتف أن يندبنا إلى الأكل ممَّا أخرج لنا من ثمر حتى ساق مع الدعوة أمراً صريحاً بالتأمُّل فيما له من دلالات، وذلك قوله سبحانه:[ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ] {الأنعام:141}. وانظروا إلى (ثمره إذا أثمر) فالتأمُّل في النعمة سبيل حظ الروح، ولا معنى للنظر في هذا المقام إلا استبانة دلائل الثمر
على فضل الله، إذ تمنع حكمة الوحي أن تأمرنا بالنظر في الأشياء كما ينظر إليها أي حيوان أعجم.
 
-3-
 
وأيسر جهدنا في هذا التأمل أن نلحظ صلة النعمة بالمنعم بها، على قانون السببية الذي أسلفنا.. فهو قانون لا يتخلف أبداً في عالم المادة، وبه وعليه تقوم كافة العلوم الطبيعية... ويكفي أن نلحظ تلك الصلة في بساطة قريبة من سذاجة الطفل الذي يتساءل عادة ـ بمحض قانون السببية ـ من الذي صنع الآباء والأمهات... وصنع الطير في السماء... وصنع النجوم والشمس والقمر... لأنه بتفاعله الذهني مع ما حوله من الحقائق، أدرك أن لابدَّ لتلك الكائنات من صانع، فإذا جهل ذلك الصانع فلا أقل من أن يسأل عنه... لقد رآه ماثلاً في ذهنه وضميره، ويريد أن يعرف حقيقته...
وإلى هذه المرحلة المبدئية يوجهنا القرآن الكريم بمثل قوله سبحانه:[أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ] {الواقعة:64}....[أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ] {الواقعة:69} .
 
فإذا قرن لنا قانون السببية بين الأثر والمؤثر... والصنعة والصانع، فقد انفتحت لنا صفحة نقرأ فيها ببصائرنا مع كل نعمة عناية الله بنا، ووده لنا، وفضله علينا... وما دمنا نستصحب وجدان الأطفال وسذاجة ضمائرهم، فسنجد في ضمائرنا لوناً من التفاعل مع كون غير منظور، قوامه إحساس الشكر للمنعم سبحانه... وهو صلة وجدانية تصلنا بالله تعالى، بعد صلة قانون السببية، وتلك الصلة وأمثالها، وأن تكن معنوية ـ حقيقة واقعة لا مراء فيها إذ يتجاوب بها الإنسان مع عالم الحق، فهي لكياننا الروحي كالعصب، والعرق لكياننا الحسي، إذا سلمت في صلتها بالله، جاءته بطاقات من الحق لا يقدر قدرها في الصدق والجمال، والذوق، والمعرفة، هي حياة كياننا الروحي، وتمام بصائره على ما قدمنا، أو حياة (حقيقة الإنسان)...
 
وإلى هذه المرحلة يوجهنا الله سبحانه بقوله:[فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] {النحل:114}.
 
فثمَّ اقتران بين رزق الله، ووجدان الشكر له سبحانه، اقتران السبب بالمسبَّب، ولكن على نحو روحي، يقوم في مواجيد الضمير مقام قوانين الطبيعة في عالم الأشياء المحسة.
 
ولكن القرآن الكريم في شرف فضله، وسمو آفاقه، لا يقف في حقائق الروح، عند تقرير القوانين البحتة  على النحو الآلي المعروف في عالم الطبيعة، بل يحدو العزائم والهمم إلى ما لا يتصور له كنه من آفاق الفضل والكرامة، فيدعونا  إلى أن نأكل رزق الله حلالاً طيباً...
 
ولا أعضال في فهم الوسائل التي نأكل بها رزقه سبحانه حلالاً... ولكن كيف نأكله طيباً ؟... هل نستفتي في ذلك أذواقنا الحسية التي ترى الكمثرى ـ مثلاً ـ أطيب من الخيار، والتفاح أطيب من القثاء؟
 
إن التقدير الإلهي لقيم الأمور أقدس من أن يبعث همم الناس للتنافس مع تلك القيم... فلم يبق من شيء يطيب به رزق الله في الخيار والكمثرى وغيرهما على السواء  إلا شهود فضله سبحانه فيه، وهو الجدير أن ينزل به الوحي، وان تثار همم الناس على قيمه [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] {المطَّففين:26}.
وذلك مدى للقرآن في جلالة الشأن وأصالة التوجيه يفرد له بين الكتب جميعاً مكان الهيمنة الراشدة التي تعنو لها العقول بحق، ويرجو برها للإنسانية كل منطق سليم.
 
فإذا بلغنا هذا المدى من امتداد آفاق الذوق والقيم، سنَّ لنا القرآن مناهج للنظر والفكر على أنماط شتى تستثير دقائق الآيات، وتستخرج العبر من مختلف الظواهر، وتستصفي حقائق الحياة وخلاصات القيم من آثار قدرته سبحانه، وحكمته ،وعلمه وسائر صفاته، ممَّا يجعل الكون كأنه يحيا ويربو في فكر الإنسان ووجدانه أو كأن الإنسان يصحب الكون على ألفة جديدة في قداسة وتهيب، وفهم لنفائس قيمه وسديد غاياته...
 
فتارة يستنطق الفطرة: [أَإلَهٌ مَعَ اللهِ] {النمل:62}.؟!
وتارة يشير إلى مواءمة النعم لظواهر الأذواق: [لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ  - أي : الماء - أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ] {الواقعة:70}.
 وتارة يشير إلى مواءمتها لخوف أسرار طبيعة الإنسان [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ] {القصص:72}.
 
وتارة يلفت الفكر إلى غرائب المفارقات في الكائنات، فنرى في أحداها ماء البحر العذب، يلتقي بماء البحر الملح، ولا فاصل بين المائين في رأي العين، ولكن يمتنع كل منهما من قدرة الله فارق خفي ينبئ بما له سبحانه من حكمة وإرادة:[مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ] {الرَّحمن:20}. [وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا] {الفرقان:53}.
 
ويطول تصنيف ما أورد القرآن من مناهج النظر ومسالك العبر، ولكنا نجتزئ من ذلك بضرب يؤرخ للثمرة ابتداء من نزول الماء من السماء لإروائها في بطن الثرى... إلى تنقلها في أطوار متغيرة، حتى تخرج ثمراً يانعاً، وجنى شهياً، فإذا خاطرك يتنقل في ألوان من النظر، تارة مع قانون السببية ليشهد في الأطوار المتغيرة، إرادة المغير... وتارة مع لطائف النعمة، ليشهد في مننها فضل المنعم سبحانه... وتارة مع دقائق الأحوال وغرائب السر، ليشهد قدرة الخالق... وذلك في مثل قوله سبحانه [وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {الأنعام:99}.
قال الإمام القرطبي تسجيلاً لخواطره ولمحاته في أفق هذا المعنى: (وفي هذه أدلة ثلاثة:
أحدها ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لابدَّ لها من مغير...
الثاني: على المنّة منه سبحانه علينا، فلو شاء إذ خلقنا لا يخلق لنا غذاء، وإذ خلقه ألا يكون جميل المنظر، طيب الطعم، وإذ خلقه كذلك، ألا يكون سهل الجنى، فلم يكن عليه ألا يفعل ذلك ابتداء، لأنه لا يجب عليه شيء...
 
الثالث: على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب، يصعد بقدرة الواحد علام الغيوب، من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج، من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ... فأين الطبائع وأجناسها؟ وأين الفلسفة وأناسها؟ هل في قدرة الطبيعة أن تنقن هذا الإتقان ؟ أو ترتب هذا الترتيب العجيب ؟! كلا لا يتم ذلك في العقول إلا لحيٍّ عالم قدير مريد)
 
وممَّا قال الزمخشري في هذا المقام: (إنه جعل الماء سبباً في خروج الثمرات، ومادة لها... وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا مواد، كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في إنشاء الأشياء ـ مدرجاً لها من حال إلى حال ـ حكماً يجدد فيها الملائكة والنظار بعيون الاستبصار عبراً وأفكاراً صالحة، وزيادة طمأنينة وسكون إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته، لا تتاح في إنشاء الأشياء بغتة من غير تدريب وترتيب).
 
 
فإذا كان في ذلك من الدلائل على وجود الله وقدرته ما فيه، فشاهدنا تلك المعاني الجليلة التي يبدو فيها الكون حياً قيماً لمن ينظرون فيه نظر الملائكة والمستبصرين بملكات قلوبهم، وهي مدد القلوب، وزاد الأرواح...
 
وقد رأينا الزمخشري ـ وهو من أرباب الأذواق ـ يعبر عن انفعال وجدانه بتلك القيم بأنه (تجديد) وهو تعبير من يحس الحياة تتجدد في كيانه المعنوي كلما استنبط عبرة من حكمة، وأحس واردات الطمأنينة إلى قدرة الله تعالى... والتجدد أو التجديد شأن الحياة النامية بوارد غذائها المتصل، فإذا كان الغذاء أفكاراً صالحة، وعبراً مستنبطة من دقائق حكم الله تعالى، وطمأنينة ساكنة إلى قدرته سبحانه، كانت الحياة القائمة بها حياة على غير ما نألف من معهود حياة الحس... حياة ينتظم بها (الملائكة والنظَّار بعيون الاستبصار) في نمط روحي واحد، ولا يرتبط فيها الإنسان والحيوان إلا بصلة اللحم والدم... وتلك حقيقة الحياة، ومثالها الذي سوى عليه شأن الإنسان، وما نحسب الذين قاموا اليوم ينشدون (القيم السامية التي لا يدركها الوزن والعد) يرتقي خيالهم إلى مثل ما قدمنا من مثل وقيم... ومع ذلك فنداؤهم بالقيم السامية، إنما هو صوت فطرة الله في الإنسان، يترجم حاجته إلى ما في كتاب الله تعالى... و سوف يرتفع هذا الصوت ويرتفع وتتضح حاجته إلى كتابنا وتتضح، حتى  لا يجد له مناصاً إلا أن يسبقنا إليه؟ فقد جرب القوم كل علاج، وامتحنوا كل سبيل، ولابد مما ليس منه بد... وحين تغلب المحن حيلة العقل والعلم، ويصبح زمام الأمر كله إلى تدبير الفطرة يكون المرء في عصمة الأمن والإيمان بنعمة الله المنان...
 
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر:مجلة منبر الإسلام العدد 2 صفر 1383 السنة 21.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين