الفكر الإسلامي المعاصر والمعرفة البشرية

 
 
ماهر سقا أميني
إن نقد الخطاب الإسلامي المعاصر ينطلق من حرص عميق ورغبة صادقة في تفعيل هذا الخطاب ووصوله إلى مستويات عالية من التواصل المجدي، ليس مع المسلمين فقط بل مع العالم بأكمله من حيث واجب الدعوة والتبليغ، ولا يتصور مع عطاءات الوحي التي لا تنفذ والتي من شأنها أن تصلح لكل زمان ومكان ألا يتجاوز عمر الخطاب الإسلامي العقلي القرن الثالث الهجري أو التاسع الميلادي، في حين أن البشرية قطعت أشواطاً في النمو العقلي والمعرفي، وما من مبرر للزهد بهذه الأشواط، فما من حضارة تستحق الوجود والبقاء إلا وهي نتاج جمع خير ما في التراث البشري حتى لحظة وجودها التاريخي .
 

 

ومن الخطأ الشائع تصور الأمر على أنه تقسيم للعلوم والمعارف إلى علوم مادية وتقنية وعلوم شرعية ودينية، فالأولى مما لا يختلف فيه أو عليه من حيث إمكان الإفادة منه، والثانية يكتفى منها بتراث السلف، فالمعرفة البشرية لا تقبل التجزئة، والعلوم المادية والتقنية والتطبيقية ذات مقدمات وأسس ونتائج فلسفية وفكرية ووجودية جوهرية، ولكل علم من العلوم مناهج في البحث والتحقق، وهذه المناهج تمثل لب العلم وأساسه حيث يمكن الإفادة منها حتى مع عدم التسليم بمقدمات العلم الفلسفية، فضلاً عن العلوم اللغوية والاجتماعية التي تتناول الظواهر الإنسانية والبشرية كعلوم الاجتماع والنفس والشعوب والجمال وغيرها .
 

 

أين يقع الفكر الإسلامي المعاصر من كل هذا؟ في أحسن الأحوال يقبل بعض الإسلاميين على العلوم المادية والتطبيقية بمنطق تبجيلي يقصدون به ومنه إقامة الأدلة على الحقائق الايمانية وهو أمر محمود ما لم يتجاوز فيه إلى الغلو والتزوير، فقد بدأت دراسات الإعجاز القرآني والإعجاز في السنّة النبوية الشريفة بخطوات محمودة، ثم سارت نحو التأصيل والتوازن ثم انتهت إلى نوع من تركيب الأدلة بقليل أو كثير من التصنع والانتقائية والتزوير، مما جعل بعض رجال العلم يرفضون منطق الاعجاز العلمي بالكامل مؤكدين أن الوحي لم ينزل ليؤسس لعلوم أرضية، ولم يتعامل الفكر الإسلامي المعاصر مع العلوم المادية والتقنية والتطبيقية من حيث مقدماتها ونتائجها النظرية، بل نظر إليها بمنطق (الاستخدام) للمنافع الدنيوية، وبالتالي بقيت هذه العلوم غريبة عن العقل الإسلامي تمثل جزراً منفصلة عن بعضها وعن الوعي الإسلامي العام، ولم ينجح المسلمون في تحقيق شعار (أسلمة المعرفة) إلا بقدر تزيين كتب العلوم بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وبعض العبارات التي تؤكد عظمة الخالق، إن أسلمة المعرفة يجب أن تعمل على مستوى مناهج العلوم وتطبيقاتها وهذا ما لم يفعله المسلمون اليوم المكتفون بوعي أو بلا وعي بفكرهم الإسلامي المنجز والمغلق والذين يتعاملون مع كل منجزات وفعاليات العقل البشري بمنطق الاستخدام والانتفاع . 

 

من جهة أخرى تعامل الفكر الإسلامي المعاصر مع العلوم الإنسانية والاجتماعية واللغوية بمنطق الاستخفاف والاستعداء والتوجس، فأغلب ما أنجز في هذه العلوم هو بلا قيمة أو هو من قبيل المؤمرات التي تكرس للالحاد عند أغلبية المفكرين الإسلاميين المعاصرين، وإذا قلنا أن أي علم هو عبارة عن مقدمات فكرية وفلسفية، ومناهج بحث وملاحظة وتجريب وتحقق، ثم نتائج ومقولات لها تطبيقات ونتائج عملية، فإن الفكر الإسلامي المعاصر لم يتدخل في أية مرحلة من هذه المراحل بل اكتفى بالطعن والاتهام، فإذا بكل العلوم الإنسانية ما هي إلا مؤمرات كونية لا يراد منها إلا إشاعة الإلحاد والإباحية وسيطرة اليهود أو غيرهم، وقد زهد المسلمون بالتحليل النفسي بمجمله (فرويد والمدارس التي نشأت عنه) من دون التفريق بين مناهج في البحث والتطبيق أثبتت فعالية كبرى في دراسة الظواهر الإنسانية السوية والمرضية ومعالجتها وخدمتها وبعض المقولات التي لا تناسب الحقائق الايمانية، وزهدوا بمناهج البحث الاجتماعية التي نشأت عن الفكر الجدلي المادي والمثالي لمجرد غربة هذا الفكر عن العقائد الدينية السليمة، وألّف أحدهم كتاباً في نقض ما سماه بأوهام المادية الجدلية، صوّر فيه أقطاب هذه المدرسة على أنهم ثلة من الأغبياء السذجة المزورين، وهكذا عاش ويعيش الفكر الإسلامي المعاصر في عزلة عن العالم العقلي المعاصر مع الزعم بالقدرة على الأستاذية المطلقة .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين