مفارقات بين الزبد وما ينفع الناس في الإعلان الدستوري

أ.د. صلاح الدين سلطان

الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
 
قامت الدنيا ولم تقعد منذ الإعلان الدستوري وصار التفاعل كما قال الشاعر:

 

عين الرضا عن كل عيب كليلة      ولكن عين السخط تبدي المساويا

وكما يقول المثل البلدي: "حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط"، لكن التفاعلات الهائلة التي تمت في التحرير رغم نزاهة وعراقة المكان، وإنني أتعامل مع المكان على أن له حنينا وإحساسا ومشاعر كما يشعر الإنسان، لأن النجم والشجر في عقيدتنا يسجدان، وجبل أحد منا نحبه ويحبنا، وحن الجذع للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما اتخذ منبرا، ونحن نحنُّ إلى التحرير مكانًا، وإلى 25 يناير زمانًا وكأني بالتحرير يردد قوله تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ" (الرعد: من الآية 17)،  فلقد اعتاد التحرير على قوم يكثرون الدعاء فجاء قوم يكثرون الغثاء، واعتاد التحرير أن يغشاه قومٌ يوطِّئون الأكناف، فجاءه قوم يضربون الأكتاف، واعتاد التحرير قوما يصلون الصلوات الخمس، فجاء قوم يصلون الجمعة فقط، بخطيب "عمولة" لا له في الدين ولا في الدنيا، لم يرزق حكمة ولا فصل الخطاب، واعتاد التحرير أن يتواصل المسلم مع المسيحي تحت عنوان البر والقسط والاعتزاز بالمواطنة، فجاء قوم يتعاملون تحت عنوان السب والقذف والابتزاز و"المزاحمة"، واعتاد التحرير أن تكون هناك راية واحدة، يجمعهم حب الله ثم الوطن والمواطن، وفعل الخير ونفع الغير، فجاء قوم من أرحام متعددة تجمعهم كراهية مرسي وأنصاره، مع كل ألوان المعاطن، وفعل الشر وضرر الغير، لقد كنت ممن يغلبون الإنسان على المكان، لأني أدرِّس في الشريعة أن الإنسان هو الخليفة لله تعالى، خلقه الله لعبادته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وأسجد له الملائكة فلا يمكن التشبث بالمكان ويقتتل الإنسان مع أخيه الإنسان، والمعارك داخل الوطن الواحد ليس فيها منتصر ومنهزم، بل الكل فيها منهزم لكن القوم جاءوا في صلف يعلنون في المكان الذي تعلقنا به: ممنوع دخول "الإخوان" فصار الأمر كما قال الشاعر:

 

حرام على بلابله الدوح     حلال للطير من كل جنس

ومن الذي يحدد ويصدر القرارات أن يحتكر جزءا عزيزا من الوطن، لكن لا حرج أن نكون كبارا، وأن نأخذ بقول العرب: "إذا عز أخوك فلِن" من الليونة لا اللّي ولا الرفض، ومضى القوم بين رجال منهاجهم (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) فجلسوا على الملأ والفضائيات يناقشون الدستور مناقشة أخيرة 21 ساعة متصلة في صبر وجلد وعلم وأدب، وحرص وحدب حتى على من يسبونهم في التحرير، ومن يقذوفونهم بالحجارة والنقير والقطمير، ويتهمونهم بالخيانة والتزوير، فصبروا وهم يرون أن الزبد يذهب جفاء، وأنه إذا هوجم الإسلام أو الوطن انتفضنا، وإذا هوجم الأشخاص أو الجماعات احتسبنا، فأنهوا مشروع الدستور بعد آلاف الساعات، والمناقشات بينهم ومع كل القطاعات، وجابوا شمال مصر وجنوبها شرقها وغربها يجمعون الآراء، ويوازنون بين أفضل المصلحتين، والترجيح بين المصالح والمفاسد والحقوق والواجبات وحقوق الرجل والمرأة، والغني والفقير، والوزير والغفير، والصحيح والمريض، والمسلم والمسيحي، وحقوق الظالم والمظلوب، والطالب والمطلوب، والواقع والأمل، حتى خرج مشروع الدستور شامة على جبين كل مصري ليقول بحق في العالم كله: "ارفع راسك فوق أنت مصري"، ومضى القوم يعلنون تأييدهم للإعلان الدستوري أمام جامعة القاهرة، وهم يحنون إلى التحرير لكن الكبير لابد أن يبقى كبيرا كما قالت العرب: "الزعيم غارم" وفقه المقاصد يقتضي أن تصل الرسالة من أي موقع، " وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَـزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ " (يوسف: من الآية 65)، لكن الله تعالى دفع بفلذات أكباد مصر إلى جامعة القاهرة، وقد قال لي شيخي الوقور الجليل، وكنا بالوزارة نعمل فيما ينفع الناس في يوم العطلة لكنا نعمل لله ثم من أجل بناء مصر، فقال وهو ينظر للتلفاز كيف ستدخل في هذا الزحام فضحكت وقلت : على الأعناق يا مولانا، سيحملني الأحباب الأبرار الأطهار من إخواني إلى المنصة، ولم أصدق أن الساعة 2 ظهرا، والوفود تتدفق على الميدان كأنك في يوم النفرة من عرفات إلى منى والمزدلفة لقد كانوا حقا ملايين، ورأيت التراص فعلا كما قال الله تعالى: " كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ" (الصف: من الآية 4)  ولقد كانت الكتل البشرية تتحرك معا كأهم شجرة ضخمة تحركها الريح معا، يمنة ويسرة في روعة وبراعة معا، ولقد تمنيت لو كان خطاب الجماعات جامعا لشتات الوطن، ناظرا إلى مستقبل شعب واحد مثل الأمعاء والمثل البلدي يقول: "المصارين بتتخانق مع بعضها" ثم لا تلبث أن تهدأ وتهضم الطعام وتطرد الفضلات، وفي الأخير كما نقول : صحة وعافية، وإنني على يقين أن بطن مصر الكبيرة سوف يحتمل "خناقة المصارين"، وسيأتي من كان شاردا ليعود واردا على نيل مصر يشرب ويرتوي"ومطرح ما يسري يمري" ثم يقوم ليغرس غرسا، وأو يروي شجرا، أو يقطف ثمرا " انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام: من الآية 99) ، واستلم الرئيس مشروع الدستور في حفل سجدت معه لله شكرا ، وازددت بإخواني وأساتذتي في الجمعية التأسيسية عزا وفخرا، وشعرت براحة تقترب من يوم ذهاب مبارك، ويوم نجاح د.مرسي، وقلت اقتربت ساعة الفرج كما قال تعالى: " لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا " (الطلاق: من الآية 7)، وتوقعت أن يفيق كل من أصابته حمى الخوف من الإسلام والأخونة والسلفنة لنقول جميعا نحن أبناء ثورة مصر 25 يناير، نحن معا نبني مصرنا ونحرر قدسنا، نحن معا سنشق طريقنا نحو عزنا ومجدنا، نحن معا سوف نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، نحن معا سنرضي الله في رئيسنا ومرؤوسنا صغيرنا وكبيرنا، وكلنا قد تشبع بقول ربنا: " فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ " فاغرسوا في الأرض إرضاءً لرب الأرض والسماء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين