( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ )

 

 

ياسر محمد حجازي
قال الله تعالى:
  }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)  {سورة الأنفال
ذكر تعالى في هذه الآية أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى قسمين:
 

الأول المهاجرون:

 

 

الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم ، نصرةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإقامة لشرعه ودينه ، وبذلوا في سبيل ذلك أموالهم وأنفسهم.
فالمهاجرون وصفوا في هذه الآية بصفات أربع:
أولها : أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقَبِلوا جميع التكاليف التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتمردوا
والصفة الثانية : قوله : { وَهَاجَرُواْ } يعني : فارقوا الأوطان ، وتركوا الأقارب والأهل والجيران في طلب مرضاة الله ، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة ، لأن مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس– {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ }-  فالمهاجرين في المرتبة الأولى تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى ، وفي المرتبة الثانية تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى .
 

والصفة الثالثة : الجهاد بالمال والنفس

 

 

لما فارق المهاجرون الأوطان ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم، وبقيت في أيدي أعدائهم ، واحتاجوا إلى الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة ، إضافة  لإنفاقهم كرائم  الأموال في الغزوات
وأما المجاهدة بالنفس فقد أقدموا على المحاربة في بدر من غير آلة ولا أهبة ولا عدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة ، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله تعالى .
وأما الصفة الرابعة : فهي أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال ، ولهذه السابقة أثر عظيم في تقوية الدين , لأنّ إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم ، فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال
 

الثاني الأنصار

 

 

وهم المسلمون من أهل المدينة ، الذين آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم
 

فالله سبحانه وصف في الآية المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس ، والأنصار بالإيواء والنصر ، ووصف الفريقين معاً بولاية بعضهم لبعض ، وأثبت لهم معاً حقيقة الإيمان

 

 

فالأنصار والمهاجرون – قدوة المسلمين- بعضهم أولى ببعض كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخَوَان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث

 

 
فمن أراد أن يلحق بالمهاجرين والأنصار فليسر على نهجهم , وليتخلق بأخلاقهم وليتحلى بصفاتهم التي قصها الله علينا في هذه الآية وليبادر إلى الجهاد بماله ونفسه نصرة لدينه وإعزازاً لإخوانه

 

 

) أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( لفظ الوَِلاية يعني أن يكون بعضهم معظماً للبعض مهتماً بشأنه مخصوصاً بمعاونته ومناصرته، والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء ، وأن يكون حب كل واحد منهم لغيره جارياً مجرى حبه لنفسه , وصفة الولاية للمؤمنين جاءت تتويجاً لمن تحققت فيه مجموعة من الصفات هي: الهجرة والجهاد بالمال والنفس والإيواء والنصرة

 

 

والآية الكريمة تحدد العلاقة بين المسلمين بعضهم مع البعض : بالولاية والموالاة تعني : النصرة والحب والتأييد والتعاون والتعاضد والتآزر والتحالف والتكافل , والوقوف معهم في السراء والضراء
وأقل ما يوالي به المسلم إخوانه المسلمين في ساعة محنتهم المال الذي ناله بفضل الله لينفقه على عيال الله تعالى
فطبيعة العلاقات بين المسلمين ، ليست علاقات الدم ، ولا الأرض ، ولا الجنس، ولا التاريخ ، ولا اللغة ، ولا الاقتصاد, وليست هي القرابة، وليست هي الوطنية ، وليست هي القومية ، وليست هي المصالح الاقتصادية, إنما هي علاقة العقيدة ، فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض لا تفرقهم حدود الزمان ولا المكان ولا اللون ولا اللسان.
فالمسلم ولاؤه بقلبه وفكره ونفسه وماله للمسلمين أين كانوا , ومن كانوا, وزمامه بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم
فالمسلم لا يغمض له جفن وأخ له في العقيدة يُظلم في نفسه أو ماله أو عرضه في أي مكان من هذه المعمورة , وما ذلك لأنّ الولاية بين المسلمين هي الحلف الذي عقده رب العالمين فيما بينهم , والتناصر والتآزر بين المسلمين واجب أحكمه وفرضه ربهم من فوق سبع سموات وأراضين
لقد فرض الله على المسلمين أن يتولى بعضهم بعضاً , وأن ينصر بعضهم بعضاً بالأنفس والأموال والأفكار فقال سبحانه في عدة مواضع من كتابه الكريم:
)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( سورة الحجرات10
) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) (  سورة المائدة
) والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (التوبة 71
فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله تعالى ، والذي تقوم الروابط بينه وبين سكانه على أساس الارتباط في الله تعالى ، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في (الأمة المسلمة) في (دار الإسلام) ،ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله تعالى ، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله تعالى
فموالاة المسلمين لبعضهم بالأنفس والأموال أصل من أصول الإسلام ومن مقتضيات محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، التي توجب على المرء المسلم محبة إخوانه المؤمنين وجماعة المسلمين ومناصرتهم بنفسه وماله وجاهه وفكره من أجل دين الله تعالى ، فقد دلت الآيات على أن عقد الموالاة والمحبة والمناصرة عقدها الله عز وجل بين المؤمنين، في كل زمان ومكان
ودلت السنة النبوية المطهرة أيضاً على وجوب موالاة ومناصرة المسلمين بعضهم لبعض وكذلك وجوب محبة المسلمين في الله تعالى التي تثمر النتاصر والتعاون والتعاطف كشأن أي متحابين , وأصل الولاء الحب ، والولاء لا يأتي إلا ثمرة للحب , الحب لا ينبع إلا من القلب مكمن العقيدة الإسلامية التي تفرض الأخوة الإسلامية
ولنختم هذا المبحث ببعض من الأحاديث التي تشير إلى وجوب مولاة المسلمين ومناصرتهم بكل غال ونفيس
عن النعمان بن بشير  رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :
( المسلمون كرجل واحد ، إن اشتكى عينُهُ اشتكى كُلُّه ، وإِن اشتكى رأسُهُ اشتكى كُلُّه)

 

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:
كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ( أي عرى الإسلام أوثق ؟)
 

قالوا: الصلاة

 

 

قال: (حسنة ، وما هي بها ؟)
قالوا: الزكاة.
قال: (حسنة ، وما هي بها ؟)
قالوا: صيام رمضان .
قال: (حسن، وما هو به ؟)
 

قالوا: الحج

 

 

قال:  (حسن، وما هو به ؟)
 

قالوا: الجهاد

 

 

قال: (حسن، وما هو به ؟)
قال: (إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله )[4].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال:
 

(أوثق عرى الإيمان ، الموالاة في الله , والمعاداة في الله , والحب في الله تعالى

 

 

والبغض في الله).

 

وعن عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( المسلمون تتكافأ دماؤهم , يسعى بذمتهم أدناهم , ويجير عليهم أقصاهم, وهم يد على من سواهم , يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهُمْ على قاعدِهم[6], لا يقتل مؤمنٌ بكافر , ولا ذو عهدٍ فى عهده)

 

وعن أبي موسى  رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه[8]
وفي كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع عمرو بن أمية الضمري  رضي الله عنه  إلى النجاشي ملك الحبشة قوله صلى الله عليه وسلم:
(وأني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني)

 

وجاء في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه اليهود وعاهدهم ، ما يدل على تناصر المؤمنين وأنهم يد واحدة على من خالفهم فقد جاء فيه :
(أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه , وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دَسِيعة[10] ظلم أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين , وأن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم ، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن ، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس)

 

فمناصرة المسلمين بعضهم لبعض بالأنفس والأموال ركن من أركان الإيمان ودليل على صدق الإسلام , وهي – المناصرة-  الموالاة التي فرضها القرآن وبين معالمها المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم  
وهذه الموالاة تنبع تلقائيا من المحبة الواجبة بين المسلمين في الله تعالى والمحبة من طبيعتها النتاصر والتعاون والتعاطف كشأن أي متحابين في الأرض
حتى أولئك الذين ُقطعت عنهم المولاة بسبب تركهم الهجرة وإقامتهم بين ظهراني المشركين أوجب الله نصرتهم بالأنفس والأموال إن أعتدي عليهم وحرم خذلانهم , ولم يستثنى إلا حالة واحدة هي إن استنصروا إخوانهم المسلمين على قوم كفار بينهم وبين المسلمين ميثاق فلا نقض للعهد حتى تتم مدته[12].
) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(
الولاية الكاملة حق لكل مسلم على إخوانه الذين يقيم بينهم في المجتمع الإسلامي , فإن وجد أفراد دخلوا في هذا الدين عقيدة ؛ ولم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلاً فلم يهاجروا إلى دار الإسلام , ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم فلا يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم , ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية كاملة إلا أن يُعتدى عليهم في دينهم ,فإذا استنصروا إخوانهم المسلمين في دار الإسلام ، كان على المسلمين أن ينصروهم على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع غيرهم[13]
رزقنا الله تعالى جهادا في سبيله ونصرة لأتباع دينه وشهادة في مرضاته



[1] - انظر: تفسير الرازي 7/445، وتفسير ابن كثير 4/95
[2] - انظر : تفسير الرازي 7/446
[3] - صحيح مسلم – كتاب البر والصلة والآدب - باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم
[4] - مسند أحمد ط الرسالة 30/ 488 رقم 18524وقال المحقق الشيخ شعيب الأرنؤوط حديث حسن بشواهده
[5]- أخرجه الطبرانى (11/215 ، رقم 11537) . وأخرجه أيضا : البيهقى فى شعب الإيمان (7/70 ، رقم 9513) .
[6] - (يجير عليهم أقصاهم) يعني أن أبعد المسلمين دارا يجير عليهم ويمنعهم ممن يريدونه إذا كان قد أعطاه بذلك عهدا
(يرد مشدهم على مضعفهم) المشد : الذي دوابه شديدة قوية ، والمضعف : الذي دوابه ضعاف .
(ومتسريهم على قاعدهم) المتسري : الذي مضى في السرية إلى قصد العدو ، وهم طائفة من الجيش يوجهون في الغزو ، والمعنى : أنه يرد على القاعد منهم سهمه من الغنيمة التي يغنمها . جامع الأصول (10/ 255) المحقق الشيخ عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله
- [7] سنن أبى داود – الجهاد - باب فى السرية ترد على أهل العسكر, وأخرجه النسائى فى الكبرى (4/82 ، رقم 6383) ، وابن ماجه (2/895 رقم 2685), والبيهقى (6/221 ، رقم 12029) ، وابن عساكر (8/244) .
ومسند أحمد ط الرسالة (11/ 402 رقم 6797) وقال المحقق الشيخ شعيب الأرنؤوط : صحيح.
[8] - صحيح البخاري - كتاب المظالم - باب نصر المظلوم
[9] - تاريخ الطبري 2/ 132 والسيرة النبوية لابن كثير 2/ 42 ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 188 وسبل الهدى والرشاد 2/ 394
[10] - قال في النهاية في غريب الأثر (2/ 266) : "دَسِيعةَ ظُلم: أي طَلَب دَفْعاً على سبيل الظُّلم" 
[11] - السيرة لابن هشام 2/ 147 – 149 , السيرة النبوية لابن كثير2/ 321 
[12] - انظر: تفسير القرطبي 8/ 57 وتفسير الطبري 14/ 82
[13] - في ظلال القرآن (3/ 451) بتصرف


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين