الهجرة النبوية بين ركيزتي القوة والأخوة

 

بقلم : محمد السيلاوي
     الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد ،
وعلى آله وأصحابه أجمعين.
 من جديد ، تهبّ علينا نسائم ذكرى الهجرة النبوية الشريفة بعبقها وألقها ، وطيبها وجمالها ، لتجدِّد العهد ، وتشد العزم ، وتحيي الأمل ، وتبعث الهمة ، بكل ما تحمله في طياتها من دروس وعبر ، وفوائد ودرر .
 حيث نستقبل بمقدمها عاما هجريا جديدا ، نستذكر فيه يوما من أيام الله ، وحدثا تاريخيا عظيما ، استطاع أن يقيم النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – من خلاله ؛ أول دولة إسلامية ، تحول المسلمون فيها من طور الدعوة في مكة إلى طور الدولة في المدينة ، ومن القلة إلى الكثرة ، ومن حالة الضعف إلى حالة القوة ..    وبهذا الحدث العظيم تشكلت ملامح المجتمع الإسلامي الناشئ في المدينة ، والدولة الإسلامية الجديدة ..
 
     وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بدأ يُعدّ أصحابه في مكة إعداداً خاصاً ، ويهيئهم تهيئة عظيمة ، ليتحملوا معه صلى الله عليه وسلم فيما بعد ؛ بناء الدولة الإسلامية المرتقبة ، حيث استغرق بناء الفرد في مكة ثلاث عشرة سنة ، وكان اهتمامه صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة مُنصبّ على بناء الجانب العقديّ والإيماني والأخلاقي .. لدى الصحابة .
 
بناء المسجد :
   وما أن وصل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – مهاجراً من مكة إلى المدينة المنورة ؛ حتى بدأ في بناء المسجد ، وهو أول عمل شيده وأقامه - صلى الله عليه وسلم - في الدولة الإسلامية الوليدة ، ليكون المنطلق الفعلي لجيش الصحابة الكرام في الجهاد في سبيل الله تعالى ، ونشر نور الإسلام في الآفاق من علم ودعوة .
 
المؤاخاة بين الصحابة :
    ثم بعد ذلك آخى النبي - صلى الله عليه وسلم –بين الصحابة الكرام قائلاً لهم : " تآخوا في الله أخوين أخوين .. " مؤسساً بذلك لقاعدة الأخوة في الإسلام والتي تسمو على كل ما سواها من علاقات وصلات لا تقوم على هذا الأساس الأخوي والإيماني . فاجتمع للمسلمين في بناء مسجدهم وتآخيهم فيما بينهم : منطق القوة الإيمانية والعقدية ، وفي الأخوة : منطق القوة الأخلاقية والاجتماعية . فهما ركيزتان أساسيتان تجلّتا في إنشاء المسجد - أول مؤسسة للمسلمين - : القوة والأخوة .
 
 " إنها قوة التجمع والتكتل ، تساندها العقيدة الصادقة ، والإيمان الراسخ ، فتفعل الأعاجيب وتصنع المعجزات ، ولو بقي المسلمون متفرقين موزعين ما بين مكة والمدينة ، لما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً ، .. " كما يقول الدكتور شوقي أبو خليل
 - رحمه الله تعالى - .
 
   أيها القراء الكرام : في الأخوة الإسلامية وسلامة الصدور وائتلاف القلوب ؛ أهمية كبيرة في معادلة تحقيق النصر والظفر على الأعداء ، وهي إحدى الركائز الإيمانية التي أسس لها النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أقام مسجده في المدينة المنورة ، لعلمه بضرورتها في إنشاء مجتمع قوي ومتماسك ، تسوده روح الأخوة والائتلاف ، بعيداً عن التفرق والتنازع والاختلاف .
 
 يقول الله – سبحانه وتعالى - : ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ آل عمران : ١٠٣].
وأخرج ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود – رضي الله عنه - : " فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف " ، قال ابن حجر : وفي الحديث .. الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف أ. هـ .
    وهكذا مضى النبي – صلى الله عليه وسلم – يربي أصحابه على هذه الركيزة الأساسية ، والبنية الإيمانية ، والنفحة الأخلاقية والربانية ، التي تضمن سلامة المجتمع الإسلامي من كل ما يهدد كيانه ويهد أركانه ، فكان في تماسك أصحابه وتآخيهم فيما بينهم ضمانة من الوقوع في شَرك الشيطان وحزبه
 أخرج الإمام مسلم عن جابر – رضي الله عنه – قال سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم " .
 وأخرج الإمام الترمذي قوله – صلى الله عليه وسلم - : " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ".
 
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - : وأمرنا الله تعالى بالاجتماع والائتلاف ونهانا عن التفرق والاختلاف . وما أروع قول القاضي عياض : والأُلفة إحدى فرائض الدّين ، وأركان الشريعة ، ونظامٌ شملَ الإسلام.
 
 ويتضح في هذه التربية النبوية ضرورة الأخوة والائتلاف ودورها في تقوية الحق ونصرته .
يقول الشيخ العلامة يوسف القرضاوي : فالاتحاد يقوي الضعفاء ، ويزيد الأقوياء قوة  على قوتهم ، فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها ، وآلاف اللبنات المتفرقة والمتناثرة ضعيفة بتناثرها وإن بلغت الملايين ، ولكنها في الجدار قوة لا يسهل تحطيمها لأنها باتحادها مع اللبنات الأخرى ، في تماسك ونظام ، أصبحت قوة أي قوة ، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف بقوله : " المؤمن للمؤمن كالبنيان شد بعضه بعضاً " وشبك - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه . [ متفق عليه ]. ونبهت عليه الآية الكريمة ، حيث يقول تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾.[الصف :4]. أ.هـ
 
وحدة فصائل المقاومة الفلسطينية:
وحدة كتائب الثوار في سوريا :
    إن فصائل ورجالات المقاومة الباسلة في غزة هاشم اليوم ، ومن خلال وحدتهم ، وجمع كلمتهم ، والتئام صفهم ، في وجه العدو الصهيوني ، يضربون أروع الامثلة في إخوتهم وائتلافهم ، فشكلت بذلك قوة كبيرة وجبارة أمام آلة القتل الصهيونية ، وأوقعت خسائر فادحة باليهود ، وأطلقت صواريخ ولأول مرة تقصف بها " تل أبيب " . وأعادت المقاومة الاعتبار للوحدة الفلسطينية على الأرض، فكل الفصائل تشارك في هذا الجهد البطولي من أجل فلسطين ، وبيّنت أنّ سراب المفاوضات الخادعة لا يبدّدها إلا وحدة المقاومة على الأرض .

إنشاء الائتلاف الوطني السوري:
 ورأينا كذلك كتائب الثوار على أرض الشام ، وبعد تشكيلهم لمجلس عسكري موحد ؛ تقدمهم في تحرير المناطق التي كان يسيطر عليها النظام الأسدي المجرم ، وأصبح الثوار اليوم قاب قوسين أو أدنى من معركة دمشق الفاصلة ، والتي ستكون بإذن الله مقبرة لبشار الأسد وحزبه وجنده ..
 
ركيزة القوة :
وكما رأينا مؤخراً ما حققته أحزاب المعارضة السورية ، في إنشاء الائتلاف الوطني السوري ، الذي قوى المعارضة ووحد صفها ، وجمع شتات تفرقها ، بقيادة الأستاذ أحمد معاذ الخطيب ، الأمر الذي لاقى قبولاً عربياً ودولياً ، وكان له أثر في مسار الثورة السورية ، وهذا كله لما في الوحدة والائتلاف ، ونبذ التنازع والاختلاف ، من أهمية بالغة في قلب الموازين وتحقيق الغلبة والنصر .
 
 
    أما الركيزة الثانية والتي تجلّت في بناء المجتمع الإسلامي لدولته الأولى هي : القوة ، والقوة هنا في جميع مجالاتها ، فقد كانت مكة ساحة تربية واختبار وامتحان ، تعرض المسلمون من خلالها لشتى أصناف التعذيب والقتل والتشريد والتنكيل والحصار والجوع .. ومرت هذه الفتن والمحن والابتلاءات بالصحب الكرام من غير أن تفتّ في عضدهم شيئاً ، بل أكسبتهم همة عالية ، وإرادة قوية ، وعزيمة صلبة ، وخبرة جهادية ، وتخطيطا محكما ، إضافة إلى قوة عقدية وإيمانية وأخلاقية ونفسية وبدنية .. أهَّلتهم لمرحلة التمكين وقطف ثمرة صبرهم وجهادهم ، وإنشاء دولة إسلامية يُقيمون فيها حكم الله - سبحانه وتعالى - وينعمون في ظلها .
والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين