المعلم بين الواقع الوظيفي والدور المنشود - المعلم بين الواقع الوظيفي والدور المنشود
المُعَـلّم
 
بين الواقع الوظيفي والدور المنشود
 
ورقة بحثية مقدمة من :
 
الدكتور ماجد الدرويش
 
إلى حلقة النقاش الخاصة بالمعلم ودوره في إحياء قضايا الأمة
 
 
الجهة الداعية :هيئة نصرة الأقصى
 
المكان : مدرسة الإيمان الإسلامية – طرابلس – لبنان .
 
الزمان : 31 – 12 – 2005 م / 29 – 11 – 1426 هـ
 
 
 
 
 
 
  الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
  جميل جداً أن نتكلم عن دور المعلم في التوعية والإرشاد والتوجيه، ذلك أن فلسفة التعليم عند أية أمة يجب أن ترتبط ارتباطاً مباشراً بأهدافها الكبرى، فالعملية التعليمية هي من أهم وسائل تحقيق تلكم الأهداف.
  ونحن، الأمة المسلمة، هدفنا الأسمى العام هو تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، ولذلك وجدنا أن العنوان الأول لهذه الرسالة كان لإيضاح هذا الارتباط الوثيق بين الوسائل والأهداف، حيث كانت أول آية تنزل على قلب نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم هي قوله تعالى:
(( إقرأ باسم ربك الذي خلق))
   فالقراءة ليست مجرد فك للأحرف بقدر ما هي فهم للحقائق المحيطة بنا ودراسة للسنن والقوانين التي تحكم فلسفة التغيير والظهور في الأرض فهذه القراءات يجب أن تكون وسيلة لمعرفة الله سبحانه حق معرفته: لمعرفة  أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه فهي مفاتيح الخضوع له لأنه هو الخالق الموجد للدنيا وما فيها فمن حقه على خلقه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً: من هنا كان ترتيب العلوم عند علمائنا يتقدمه علم التوحيد، ذلك أن أي علم يَشْرُفُ بشرف ما يرتبط به ، فإذا كان علم التوحيد يبحث في ذات الله سبحانه من حيث إنه الخالق الرازق المحيي المميت، عرفنا شرف هذا العلم، وعرفنا لم كان هو المفتاح لسائر العلوم، أو الميزان الذي توزن فيه وبه سائر العلوم.
  ومن هنا كانت تلكم المكانة السامية للعلم في المفهوم الإسلامي لأنه الموصل إلى الغاية من وجود جنس المكلفين على الأرض والتي تتلخص في عبادة الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل:
((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ))
ولما كان المعلم هو الذي أنيط به دور التوجيه نحو هذه الحقائق كانت له هذه المكانة السامية حيث نجد الآيات القرآنية تميزه عن سائر المؤمنين، فتقول:
((يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات))
ومع أن الذين أوتوا العلم هم من المؤمنين إلا أن الآية خصتهم بالذكر بعد دخولهم بعامة تحت الذين آمنوا زيادة في بيان علو مكانتهم وتميزهم عن سائر المؤمنين ثم تأتي الآية الكريمة: (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)) لتؤكد هذا التمايز، وسببه الأساس أن الذين يعلمون يفترض أنهم أكثر الناس خشية لله تعالى، وخضوعا له))إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ)) وكلمة العلماء لا تقتصر فقط على علماء الشريعة – وإن كانواأكثر من تعنيهم- وإنما تتسع لتشمل سائر العلماء، فمن صدق منهم أدرك بتفوقه العلمي حقيقة هذا الوجود وأنه أثر عن قدرة الله عز وجل الذي يجب أن يطاع فلا يعصى..
يقول ديكارت العالم الفرنسي المعروف :( إني مع شعوري بنقص ذاتي أحس في الوقت نفسه بوجوب وجود ذات كاملة، وأراني مضطراً للاعتقاد بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال، وهي: الله ).
  ويقول إسحاق نيوتن العالم الإنكليزي الشهير، ومكتشف قانون الجاذبية:(لا تشكوا في الخالق فإنه مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قائدة هذا الوجود)
ويقول هرتسل الفلكي الإنكليزي: ( كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حدّ لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون، والرياضيون والفلكيون، والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده) ولو ذهبنا نستقصي لطال بنا الكلام ويكفي الرجوع إلى كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) لمعرفة أن العلم يوصل إلى معرفة الله عز وجل، وإذا أراد أحد أن يستخدم العلم لغير هذا الغرض سيرجع خاسراً خائباً قال الله تعالى: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )) بلى كفى بالله شهيداً فإذا عرف هذا عرف مضمون قول الله تعالى ((إقرأباسم ربك الذي خلق)) وحتى لا يجنح العقل بعيداً في بداية الخلق كيف كانت، قال لنا  ))خلق الإنسان من علق)) وهذا في زمن ما كان يخطر على بال أحد أن الجنين يتطور في بطن أمه من نطفة إلى علقة إلى مضغة...إلخ.
 بل تخصيص العلق بالذكر قد يكون سببه أن الجنين إذا علق في جدار الرحم بدأ التكون الحقيقي له.. والذي يهمنا في هذا هو تلكم المفاتيح العلمية المعرفية التي أعطانا إياها ربنا عز وجل والتي تمكننا من تسجيل السبق العلمي الذي يؤمن لأصحابه التفوق والظهور.
 هكذا فهم علماؤنا السابقون هذه الحقائق فانطلقوا من خلالها لتعليم الناس وإرشادهم وتوطئة الأرض لهم ليعمروها بطاعة الله عز وجل، فلم يفرقوا بين علم وآخر من حيث التعلم، وإن فرقوا من حيث الأهمية. نعم  قسموا العلوم إلى قسمين أساسين:
  القسم الأول: علوم الشريعة: من عقائد، ومصطلح وتفسير، وفقه ولغة...
القسم الثاني: علوم دلّت عليها الشريعة وجعلتها من وسائل إعمار الأرض: كالطب، والهندسة، والتاريخ والجغرافيا، والفلك...
وما إلى ذلك مما نسميه نحن اليوم العلوم المدنية.. وهذا التفريق خطأ في عرفنا الشرعي، والتقسيم الصحيح هو ما ذكرت: (علوم الشريعة، وعلوم دلت عليها الشريعة) فكلها مطلوبة وكل علم منها له دوره في تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى.
  ولقد بات معلوماً من التاريخ بالضرورة مدى إسهام علماء المسلمين عبر العصور في وجود الحضارة الحقيقية التي تلبي حاجات الناس وتقوم على مصالحهم، وقد كتب في ذلك الكثير: والذي يهمنا في هذاهو إبراز المنهجية الإسلامية الفريدة في تشكيل عقل الفرد وتوجيهه، حيث تعتني به منذ صغره ثم تسير معه شيئاً فشيئأ ليتحول إلى  عنصر مؤثر وفاعل ومحرك في المجتمع، وناشر للخير لجميع الخلق دون استثناء،( فالخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله).
  وهذا كله يحتاج إلى ذلك العالم الملتزم المدرك لرسالته، الذي يعمل على إرشاد الخلق إلى الله تعالى، كائنا ما كان تخصصه، وميدانه العلمي.
  وهذا العالم الذي يحمل هذه الصفات، هو المعلم الحق الذي قصده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله:( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فربّ حامل فقه ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
   فبين لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من صفات هذا المعلم: الأمانة في النقل، والصدق في التوجيه، والتجرد للحق.
  وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء، فقد وجب عليهم أن يأخذوا بنصيبهم من إرث التفوق على أقوامهم، إذ ما من نبيٍ أو رسول أرسله الله تعالى إلى قومه إلا وأيده بمعجزة من جنس ما يحسنه قومه إلا أنهم يعجزون عن محاكاتها. وهذا مفتاح من مفاتيح الظهور والتمكين وهكذا فهم سلفنا رضوان الله تعالى عليهم حقيقة العلم فانصرفوا إليه بكليتهم، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة وصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال).
 كما أدركوا مدى ارتباط التفوق العلمي بنشر الدعوة إلى توحيد الله سبحانه، ومدى ارتباط كل ذلك بالظهور على سائر الأمم وظهور دين الإسلام على سائر الأديان. ولو أردت الاستقصاء لنقلت لكم من ذلك العجب العجاب، ولكن لعله تكفي في هذه العجالة الإشارة عن مبسوط العبارة.
 إذاً مهمة المعلم ترتبط برسالته ارتباطاً وثيقاً. ونحن رسالتنا نشر دين الله
في الأرض مما يعني وجوب أن تكون مناهجنا مرتبطة ارتباطاً مباشراً برسالتنا. ولكن للأسف نجد في أيامنا هذه أن مهمة المعلم قد تخلخلت وخالطها الدخن وأصبحت مبهمة غير واضحة، ومشوهة لا يقدر معها على إيجاد الشخصية العلمية الإسلامية الحقيقية. والسبب الأساس في ذلك يعود إلى عدة عوامل منها:
- الإنهزام النفسي، وعدم الثقة بما عندنا من معارف لجهلنا بها وبأصولها وفلسفاتها. ولعل نظرة سريعة إلى واقعنا مع اللغة العربية التي هي لغة القرآن توضح المقصود..
- التأثر بثقافة الغرب المادية القائمة على إنكار وجود الله عز وجل ابتداءً- وإن كانت شيئاً فشيئاً تعود لتذعن إلى حقيقة وجود الله تعالى، ولكن الخلفية الفلسفية لعلوم الغرب لا تتواءم مع النظرة الفلسفية في الإسلام – واعتماد هذه الثقافة بديلاً عن ثقافتنا فالغرب مرت عليه فترة كان الصراع فيها محتدماً بين سلطة الكنيسة وبين العلم، وهذا معروف، لذلك أعلن في الثورة  الفرنسية الانتصار على (الله) الذي كان الملك والكنيسة يحكمون على اسمه ظلماً وعدواناً، ومعروف أن شعار الثورة الفرنسية كان (أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).
هذا الصراع غير موجود حقيقة في الإسلام، بل العلم والإيمان صنوان لا يفترقان، فتبني مناهج الغرب المادية لإحلالها مكان مناهجنا الإسلامية تجن على مناهجنا، وتخريبٌ لحصوننا، وفتح لعقول أبنائنا أمام غارات أعدائنا الثقافية. ويتفرع عن ذلك جهلنا بمصطلحات الغرب وقيمه، وبمنشئها وأسبابها،وأن المصطلحات هي أحد عناوين الهوية الثقافية ، فالتخلي عنها تخل عن جزء مهم من انتمائنا الثقافي .
  ومنها ما نسمعه الآن من دعوات لنبذ بعض العلوم الأساسية المكونة لشخصية المسلم الداعية ولعقله الواعي الذي يبني السدود والحصون في وجه الغزو الثقافي، ومن أهم هذه الحصون التي تهاجم من أبناء الإسلام اليوم،: حصن علم التوحيد، وحصن علم أصول الفقه، وحصن اللغة .
فالأول ميزان العقائد، والثاني ميزان المعارف،والثالث هوية الأمة ، فإذا اختلت هذه الموازين، ضاعت الحقائق، وفتحت ساحتنا العلمية على كل الاحتمالات.
   وعليه فالمعلم المسلم عليه إدراك أهمية رسالته التربوية، وهذا الإدراك يحتم عليه أن يكون معلماً (موسوعيا) يُلِمُّ بكافة علوم عصره ويعرف أصولها وفلسفاتها، ويحسن عرضها على موازين الإسلام. كما يحسن نقدها بكل موضوعية وتجرد بالإضافة إلى كونه يحسن الاستفادة من النافع منها لأجل تحقيق هدفه الأسمى الذي نذر نفسه له ألا وهو:
إرشاد الخلق إلى الخالق.
 فإذا استطاع المعلم أن يرتقي إلى الحد المقبول من هذه الأوصاف والقيم، فإنه ستبدأ  حينها رحلة التغيير في الأرض، وهذه سنّة الله تعالى في خلقه ذلك أن (( الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).
  فإذا أصبح المعلم صاحب رسالة واضحة، استطاع التأثير بمن يعلمهم ولم تعد العملية التربوية مجرد نقل معلومات دون تصنيع عقول وشخصيات. وكلما اتسعت دائرة التأثير التعليمي، كلما طويت المسافة بين المسلمين وبين الظهور في الأرض وصدق الله حيث يقول:
 (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) .
 
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين