تدافع وتمكين

 
الشيخ نور الدين قره علي

وها هم أهل الشام بعد عشرين شهرا .. ، وأمام أعين القاصي والداني ، يُثبتون بأنهم ظُلموا ، وأنهم لا يقاتِلون ولا يقاتَلون فحسب ، تُدمر بيوتهم ومساجدهم ، وتُحرق مزارعهم ومصاحفهم ، وتذبح أطفالهم وأعراضهم ، وتُخطف أموالهم ورهائنهم ، ويقنص متحركهم وساكنهم
لقد ظلموا خمسين عاما ، وبعد ظلمهم الطويل من قبل طغاتهم ظلموا من كل العالم القريب والبعيد ، الذين يتحالفون مع طغاتهم ، فيمدونه ويدعمونه ، أو يسكتون عن جرائمه خوفا أوطمعا ، مما لا يخفى على صغير أو كبير ، 
 
لقد ظُلموا .. وهم مصابرون حكماء ، واضطهدوا... وهم أهل الشيم والوفاء ، وصابروا.. وهم الذين لا يقبلون الضيم ، وهم يرابطون اليوم في ساحات التضحية والفداء ، ينادون بارئهم وهو العليم بأنهم قالوا ربنا الله ولا مولى لنا إلا الله ،
 
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}
هذه سنة الله في خلقه عندما أدخلهم إلى دائرة التكليف ليقوموا بما أولاهم الله من شرف الاستخلاف وإقامة شرعه ، وتحقيق مراده في تعميم رحمته ونشر عدالته ، وإرهاب الظالمين الجبارين من خلقه ، ثم أعانهم سبحانه عندما أحاطهم بدائرة حكمته ، فأظهر لهم سُنّة تعامله مع عالمهم البشري بقوانين فضله ، فأقام سنة التدافع فيما بينهم ، ووضع الأقوياء أمام الضعفاء ، والحاكمين أمام المحكومين ، والأغنياء أمام الفقراء ، ليبلو بعضهم ببعض ، ويداول الأمور وموازين القوى بيد الأفراد والأمم ، كي لا يكون الأمر متوقفا عند أحد وتحت سيطرة أي موجود ، محققا ناموسه في تحريك موازين عدله بين الخلائق أجمعين ،
واليوم يرى شعبنا كيف تُبتلى القوى في العالم أمام هذا الحدث الجليل وأمثاله ، وكيف تتولى مؤسساته في الأمم المتحدة ومجلس الأمن أمام تلاعب الكتل المارقة وأتباعها ، وغيرها ضد قرارات العالم أجمع ، مما أدى إلى إعراض العالم عن نصرتنا ، واعتذار القريب والصديق عن التحرك لرفع البلاء عنا ، فما كان منا إلا أن أجبنا الوجود البشري الذي ترنح أمام قضيتنا بالصبر والمصابرة ، وقرار الثبات والدفاع عن أنفسنا وأعراضنا ، وقيمنا في ديننا ، وشرفنا في مجتمعاتنا ،
 
والجميع ينظر وينتظر ، فلكل موقعه وقدرته ، ولكل مصالحه وارتباطاته ، ربطنا قضيتنا بإيماننا ، وتوجهت قلوبنا إلى بارئنا ، واحتج العالم بأننا لا نملك قيادة جامعة ، ولا هيئة راشدة ، وما كان ذلك إلا اعتذارات تُغطّى بها سوءات تراجعهم ، ومراجعات يبررون بها تأخرهم في نصرتهم ،
 
وبعد عشرين شهرا ، أجرى الله سننه بتدافع عجيب ، فتحرك القوم وفق مخططات تقدرها مصالح الكبار ومن يليهم ، فارتضوا بتشكيلة أو بأخرى ، وأشاروا بالتجمع ، وطالبوا بعقده خلال سويعات من الزمن ، فاجتمع من اجتمع على أمر قد قُدِرْ ، ورُفعت الأعلام ولافتات الاهتمام كلمح بالبصر ، وصدرت التعليمات ووُقعت الاتفاقات مع الوعود والمغريات ، ولكن بدون حديث عن أي ضمانات ، وقام من قام من الأفراد والتجمعات واللجان ، وتشاور القوم فيما بينهم فقرؤوا الحدث ، ودرسوا الفرصة وقرروا اغتنام ما فتح الله ، وما هيّأ المولى ،
 
وفي التجمعات تتماوج الآراء ، وتحتدم النقاشات ، وتتوازع القضية تناقضات ، ويتفلت قوم آخرون من الشرع من زاوية أخرى بعذر أو تأخر ، ويلتصق آخرون بالدين بطريقة أو بأخرى ، ويتعلمَن متعصبون ، ويتعصب متعلمنون ، واضطر القوم أو كانوا مختارين ، فأخرجوا لأبناء شعبهم مقترحات تجمعهم ، وتوافقوا وائتلفوا ، وقدموا عصارة الجهد ببشائر الخلاص ، وشروط الالتزام ، والتناسق مع واقع الأفهام ، وما تتحرك به جحافل الأقوام ،
 
وهل هناك من قدرة أكبر مما عملوا ؟ وهل هناك من رأي ضمن الأحداث أفضل مما صنعوا ، وهل واقع الأمة يسمح بأكثر مما نالوا ؟
 
تساؤلات قد يسمح الواقع بطرحها ، ولكن يسد هذا الواقع الطريق أمام توحد إجاباتها ،
وأُعلنَ الأمر على الملأ ، وظهر القوم بقيادتهم ، وبويع الجمع من خلال جامعة عروبتهم ، وبدأت الاعترافات الدولية تنهمر انهمارا ، وفُتح سيل الوعد بالنصر من كل حدب وصوب ، وجاء من الداخل من يؤيد من بالخارج ، وسُمع صوت العالِم والسياسي والمساند والمؤيد والمخالف ، وبدأت مظاهر الحل تتبدى ائتلافاً ، فحكومة ، فمساعدات واعترافات ، وأضاءت بوارق الآمال باسقاط النظام ، من خلال زئير الدول العظمى ، والكتل الكبرى ، الذين تسارعت قياداتهم من بعد نوم عميق ، وبدأت حركتهم الفورية من بعد تأخر وضيق ،
 
{الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}
وهنا نسمع ما يريد الله منا في حال تقدمنا ، وما ينبغي أن نقدمه من خلال تمكننا ، فلا بد أن يتهيأ كل من تَقدّم لهذا الأمر للقيام بهذا الأمر، فإذا جاء من الله عون ، واجتمعت لتأييدنا قوى ، وقام لنصرتنا قوم ، فعلينا أن نفهم أن هدفنا هو الخلاص من الظالم ، وتهيئة الأجواء لتمكين أهل العدل ، وتحقيق مراد الله من حركتنا وجهادنا وسياستنا ، والتعامل مع القوى من حولنا ،
 
مرادُ الله أن يُمكّن لدينه في ربوعنا ، وأن ترتفع رايات فضله فوق رؤوسنا ، فتقام الصلاة تعبيرا عن هويتنا وتحقيقا لحتمية عزنا التي عمودها الصلاة { أقاموا الصلاة} ،
وعلينا أن ننشر العدالة الاجتماعية والكفاية الحياتية الطاهرة ، فيعم الخير اقتصاديا ، وتفجر الأرض بالعطاء وحسن التوزيع والأداء ، { وآتوا الزكاة}
 
ثم حراسة هذه الأمة وقضاياها ، والحفاظ على قيمها بمشاركتها لكل أفرادها ، كلٌ في هويته ، وكلٌ يؤدي واجبه لإخوانه ، فلا خلل ولا عبث ، ولا تمايز ولا صلف ، أمة متعاونة على البر والتقوى ، عدالة وحُسن مواطنة ، وأداء للواجب ، ومنعا للفساد والتمايز ، وتحقيقا للمساواة ، والحفاظ على حرية لا يعبث أصحابها ، وكرامة لايُهان أفرادها ، وعزة لا يمكن أن يخون أحد أمانتها ، فيسود الأمر بالمعروف وبالمعروف يسود ، والنهي عن المنكر وبالحزم الحكيم يكون ،
 
ويعلَنُ بين العالمين أن العاقبة لأهل الخير ، وأن خاتمة التجربة الإنسانية تفوُّق الخير ، وأن الطغيان والظلم والعدوان وبال وشر ، وأن لله عاقبة الأمور ...
 
إخوتي وأحبابي
 
... أيام ليس إلا ، ويغير الله من حال إلى حال ، فإلى أي حال سينقلنا الله إليه ؟ إننا راضون طالما لنا شريعة تهدينا ، وبصيرة تدلنا ، وإخوة تجمعنا ، تركنا حالا غير آسفين لأننا صبرنا وصابرنا ، وجاءت البشرى بحال ولسنا صانعيه ، فتضاءلنا ونهضنا ، وربما تأتي أمور لا نحتسبها ، وخيرات نعجب منها ، ومستقبل يطلبنا ، أو ليل يطلبنا لنهاره ،
 
... وكل ذلك قرأناه وقرأناه ، وتبيناه هداية وحياة ، وإنا لماضون لمراده ،
وله الحمد في الأولى والآخرة ولله عاقبة الأمور ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين