المرأة في أوربا القديمة - المرأة في أوربا القديمة
المرأة في أوروبا القديمة
 
وأتكلم الآن عن عصر النصرانية في أوروبا ، والتي أرادت أن تتدارك الفوضى الخلقية في عالم الغرب بالعلاج الناجع والبلسم الشافي ، ومما لا ريب فيه أنها أدت خدمات جليلة في أول أمرها ، فقد سدَّتْ السبل في وجه الفحشاء ، وقضت على العري في كل ناحية من نواحي الحياة ، وسلكت كل سبيل لاستئصال شأفة الدعارة وقطع دابرها ، وجعلت المومسات والراقصات والمغنيات يَتُبْنَ ويرتدعن عن غيِّهِنَّ ومكاسبهن الفاسدة ، وجهدت جهدها لتنشئة القوم على الأخلاق الزكية ، والآداب السامية .
إلا أن الفكرة التي كان يحملها رجال الدين المسيحيون عن العلاقة بين الرجل والمرأة كانت قد جاوزت حدَّ التطرف في جانب ، وكانت حرباً على الفطرة في جانب آخر .
فنظريتهم الأولى والأساسية أن المرأة ينبوع المعاصي وأصل الخطيئة والفجور ، وهي للرجل باب من أبواب جهنم ، من حيث هي مصدر تحريكه وحمله على الآثام ، ومنها انبجست عيون المصائب الإنسانية جمعاء ، وينبغي أن تستحيي من حسنها وجمالها ، لأنه سلاح إبليس الذي لا يوازيه سلاح من أسلحته المتنوعة ، وعليها أن تُكَفِّرَ ولا تنقطع عن أداء الكفارة أبداً ، لأنها هي التي أتت بما أتت به من الرُّزء والشقاء للأرض وأهلها ، وإليك ما قاله " ترتوليان " ( Tertullion ) أحد أقطاب المسيحية الأُوَل وأئمتها مبيناً نظرية المسيحية في المرأة([1] :)
      " إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان ، وإنها دافعة بالمرء إلى الشجرة الممنوعة ، ناقضة لقانون الله ، ومشوِّهة لصورة الله ـ أي الرجل ـ " .
      ويقول كرائي سوستام (  Chry Sostem) ـ والذي يعد من كبار أولياء الديانة المسيحية ـ في شأن المرأة([2] : )
      " وهي شرٌّ لا بدَّ منه ، ووسوسةٌ جِبِلِّيَّةٌ ، وآفةٌ مرغوب فيها ، وخطر على الأسرة والبيت ، ومحبوبة فتَّاكة ، ورُزْءٌ مطلي مموه " .
      أما نظريتهم الثانية في باب النساء فخلاصتها أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة هي نجس في نفسها ، يجب أن تجتنب ، ولو كانت عن طريق نكاح وعقد رسمي مشروع ، هذا التصور " الرهبني " للأخلاق الذي كانت جذوره تكاد تتأصل في أوربة من قبل بتأثير الفلسفة الاستشراقية ، جاءت المسيحية فزادته شدَّةً وبلغت به منتهاه ، وبذلك أصبحت حياة العزوبة مقياساً لسمو الأخلاق وعلو شأنها ، كما صارت الحياة العائلية عَلَمَاً على انحطاط الأخلاق ومهانة الطباع ، وأصبح رجال الدين يعدون العزوبة وتجنب الزواج من أمارات التقوى ، وعلامات الورع ، وسمو الأخلاق ، وأصبح من الواجب على من أراد أن يعيش عيشةً نزيهةً أن لا يتزوج أصلاً ، أو لا يعاشر امرأته معاشرة الزوج لزوجته .
      كما بالغوا في أن يثبتوا في قلوب الناس الشعور ببشاعة العلاقة الزوجية وتنجسها ، حتى أمست كل قرابة وكل سبب ناتج عن عقد الزواج يُعَدُّ إثماً ، وشيئاً نجساً .
      وهاتان النظريتان ما وضعتا من مكانة المرأة وحطَّتا من شأنها في مجال الأخلاق والاجتماع فحسب ، بل كان من مفعولهما القوي ونفوذهما البالغ في القوانين المدنية أن أصبحت الحياة الزوجية مبعث حرج وضيق للرجال وللنساء من جانب ، ومن جانب آخر انحطت منزلة المرأة في المجتمع في كل ناحية من نواحي الحياة ، ومن هنا نرى أن كل ما وضع من قوانين ـ وبتأثير من هذا الواقع المشين والمصادم للفطرة ـ لا يخلو من الخصائص التالية :
1. أصبحت المرأة تحت سلطة الرجل الكاملة من الوجهة الاقتصادية ، وصارت حقوقها في الإرث والملكية محدودةً ، وحرمت من نصيبها حتى في كسب يدها ، بل كان كل ماعندها ولها ملكاً للزوج .
2. الطلاق والخلع لم يكونا مباحين في حال من الأحوال ، فمهما بلغ البغض والتنافر بين الزوجين ، ومهما بلغ الشقاق بينهما في إفساد العشرة عليهما ، وصارت الحياة في البيت قطعةً من العذاب ، كان الدين والقانون يحتمان عليهما دوام العشرة وبقاء حبل الزوجية بينهما متصلاً ، وأقصى ما يمكن فعله عندئذٍ أن يفرق بينهما ، وليس لهما بعد هذا التفريق أن يحاول كل منهما الزواج مرةً أخرى ، وقد أضرَّ هذا بالزوجين المفترقين ضرراً بالغاً ، إذ هما بين نارين :
 أ – إما أن يختارا حياة الرهبان والراهبات ، أو :
ب – يتعاطيا العهر والفجور ، ويتساقيا كؤوس الفحشاء طوال أعمارهما الباقية .
3. وكان من أقبح العار أن يتزوج الرجل أو المرأة بعد وفاة أحد الزوجين ، بل هو عندهم من كبائر الإثم ، بل كانوا يعبرون عن الزواج الثاني بكلمة : " الزنى المهذب " .
4. أما رجال الكنيسة فلم يكن النكاح مباحاً لهم في قانون الكنيسة ، وكذلك القانون العام ما كان يبيح لهم ذلك في بعض الأقطار ([3] .)
ويقول الأستاذ العلامة أبو الحسن الندوي([4] نقلاً عن Mr. Lecky)
      وكانوا ـ أي الرهبان ـ يفرون من ظل النساء ، ويتأثَّمون من قربهنَّ والاجتماع بهن ، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن ولو كن أمهات أو  شقيقات ، تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية ، وروى Mr. Lecky  من هذه المضحكات المبكيات شيئاً كثيراً .
 
 

 
[1] - الحجاب لأبي الأعلى المودودي رحمه الله تعالى ، ص : 25 .
[2] - المرجع السابق .
[3] - باختصار من كتاب الحجاب للمودودي ، ص : 28 .
[4] - ماذا خسر العالم  ص : 169، نقلاً عن كتاب تاريخ أخلاق أوروبا لمؤلفه : Lecky  الجزء السادس .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين