لا تُلهيهم تجارة


الأستاذ البهي الخولي.
ـ 1 ـ
ذلك مقطع من آية كريمة هي قول الله تعالى: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ{النور:36 -37}.
وفي الآية معان جليلة عما أذن له الله أن يرفع من الأماكن، وما لم يأذن له برفعه...وعن مناهج التزكية لأولئك الذين لا يؤثرون شيئاً على ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة... وعن غير ذلك من موضوعات علم الله القدسي في كتابه.
مثل من الكمال الإنساني والطريق إليه:
 ولكننا نكتفي منه بنموذج من الكمال الإنساني قرره في هذه الآية:[رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ{النور:37}. وقرر إلى جانبه النهج الذي يبلغ بها المرء صفة ذلك المثال بقوله سبحانه:[ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ{النور:37}.
فنحن ـ إذن ـ بإزاء مثل من الكمال الإنساني أثنى عليه الله تعالى، وبإزاء النهج الذي يتطور به الإنسان حتى يبلغ حظه من هذا المثل...
وتطور الإنسان إلى مثل أعلى للإنسانيَّة (سوبر مان) أملٌ يتراءى لمفكري الغرب وفلاسفته، يرَوْن أن تحققه يجنّب الإنسانية أخطاءها وما تعاني من مخاوف ظاهرة و باطنه... غير أنهم يسلكون إليه سبيلاً غير التي شرعها الإسلام لنموذجه الأمثل، لأن مثلهم الذي تصوَّروه يختلف في تقويمه عن المثل الذي قرَّره الإسلام.
فنموذج الإسلام الذي يبدو في قوله تعالى: [رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ{النور:37}. مقدر في مواهبه وملكاته على مثال ما يعلم الله تعالى في مادة الكون وروحه... فله مواهب ظاهرة يتفاعل بها مع الكون الحسِّي، ويستخلص ما له فيه من منافع... وله ملكات باطنه تصله بروح الكون حين يتأمَّل في دلالة الكائنات على الله، فيستدرج إلى ما بين جنْبيه من العلم القدسي ما ينير بصائره وملكاته، ويحيى (حقيقته الروحية) ويجعل ذكر الله تعالى ماثلاً في الضمير لا يغيب... لذلك كان رجال هذا المثل على ما وصفتهم الآية الكريمة: [رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ] {النور:37}.
إذ ليس المراد أنهم تركوا تجارتهم وشؤون عيشهم وفرغوا لذكر الله خشية أن تلهيهم عنه، بل المراد أنهم أقاموا حياتهم وأوضاعهم على أسس تمتزج فيها الروح بالمادة...وتنفذ العقيدة في المال... ويوجه الاقتصاد بالمثل العليا، فسعدوا ظاهراً بصحة البدن وانقياد أسباب العيش، وسعدوا باطناً بذكر الله سبحانه الذي هو حياة النفس وصلاح بصائرها وملكاتها.. وذلك إذ لم تشغلهم قيمهم الحسية ـ ممثَّلة في التجارة والبيع ـ عن قيمهم الروحية، ممثَّلة في ذكر الله عزَّ وجل.
ونلاحظ في النص الكريم أنه يصور رجال هذا المثال ـ أو يصور مجتمعهم على الأصح ـ يجمل ولا يفصل، ولكنه الإجمال الذي ضمنه الحق سبحانه كل مراميه، ويستطيع كل متدبر أن يستبين منه الكثير، ونحن موردون من ذلك ملاحظتين: أحداهما اقتصادية، والأخرى روحية... وكلتاهما في قوله تعالى: [رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ] {النور:37}.
فالأولى: أن النص الكريم في تقريره لاكتمال الوضع الاقتصادي لهذا المجتمع لم يذكر من علائق المال سوى شؤون التجارة والبيع... ولو ذكر الزراعة ـ مثلاً ـ لما كان لها شأن التجارة في الدلالة على مثالية النموذج... لأن الزراعة أقل شأنا من التجارة، أو أن التجارة أشرف وأوفر عائدة، بل لأن التجارة مرحلة حضاريَّة، ودرجة في العمران تأتي بعد ظهور الزراعة والصناعة وغيرهما من أسباب العيش التي تقلب فيها الإنسان، على ما هو مقرر في مبادئ علم الاجتماع... فليس هو ـ أذن ـ مجتمعاً بدائياً يعيش على صيد الحيوان أو التقاط الثمار من أشجار الغابات، بل مجتمع اجتاز ذلك كله، وأخذ بحظِّه من حضارة الاقتصاد حتى بلغ مرتبة التجارة...
وحسب أي مجتمع حضارة أن تكون التجارة المنتظمة فيه أساس مبادلاته وتنظيم مصالحه في محاصيله وانتاجه ونحوها... سواء أكان بعد ذلك مجتمع قرية، أم مجتمع مدينة، فإن القرآن الكريم لم ينظر إلى الكمِّ وسَعَة الرقعة، بل نظر إلى الكيف الذي تدل عليه تلك المرتبة.
والثانية: أن قوله تعالى: [لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ] {النور:37}. ذو دلالة قوية على مثالية هذا النموذج في نزوعه إلى المثل العليا، وتمام تحرره... تحرر مشاعره وإرادته من سيطرة المادة وسلطان المال... فإن سطوة المال أشد ما تكون في الأسواق ومواطن البيع والشراء حيث فطنة اشتغال الخاطر بالأرباح الحاضرة والمتوقعة، وبذل الحيلة لإنفاق سلعة أو اجتلاب أخرى... فإذا كانت سطوة المال في أقوى مناطق نفوذه لا تبلغ أن تصرفهم إليها أو أن تشغلهم عن مثلهم العليا فهي فيما عدا ذلك أضعف وأعجز، وذلك ضرب قدسي من القوة يجعل لصاحبه سيطرة على المال، وقدرة على توجيه الواقع إلى ما يرى من مطالب رسالته ومنطق مثله... ولا يجعل لأحد هذين أن يسيطر عليه أو يوجهه...
ـ 2 ـ
ولم ينته بعد، شأن ذلك المثل العظيم، فإن شأو الإسلام فيما يرفع من مثل عليا أبعد مما تحوم حوله الظنون والأفهام، فثمة حقائق وإشارات خطيرة في قوله تعالى:[ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ{النور:37} . فقد كان صدق إيمان هؤلاء بالله يُريهم ـ بغير حاسّة ـ ما ينقلب إليه تكوين المرء في طوره الأخروي، أو ما تصير إليه مواهب القلب وملَكَات السمع والبصر في هذا الطور، فيحملهم خوف العاقبة على حُسْن الاستعداد لها بالاعتصام بذكر الله في كل شأن، فإن الخوف في هذا المقطع الأخير من الآية عائد إلى حياطة وتزكية المعاني في المقطع الذي قبله:[رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ{النور:37}... فإنهم ـ على مثالهم الذي جمعوا به بين المادة والروح ـ كانوا يحيون في وجدان عميق شريف تسمو به القيمة المعنوية لهم، ويشرف ما لهم من مثل عليا، ويقوم كالسياج والدعامة لما هم فيه، ذلك هو خوف ما يؤول إليه المرء من عاقبة... أي أنهم كانوا في ترداد دائم بين حياة الدنيا وحياة الآخرة... أو أن حياتهم الكبيرة التي انتظمت مادة الكون وروحه، أو ظاهره وباطنه، قد انتظمت الدنيا والآخرة معاً، فكانوا يحيون فيهما جميعاً، وكان حذر الآخرة الدائم يذكي مواجيدهم بذلك الخوف فيمد الضمائر بما يزيد ذكر الله فيها سنى وهيبة وقوة...
على أن شأن هذا الخوف القدسي لا يرجع إلى آثرة في تزكية (الحقيقة الروحية) لهؤلاء المثل فحسب، بل يشمل ـ أيضاً ـ دلالته الذاتيّة على أن كلاً منهم كان يدرك ويؤمن أنه حقيقة متطورة، لا يعدو عليها الفناء، إذا عدا الموت على البدن الذي ارتبطت به، فليس الموت إلا ظاهرة تتحول بها تلك الحقيقة من طورها الدنيوي، إلى طورها في البرزخ، إلى طورها الأخروي، وفي ذلك من المعاني ما يعلو  بقدر المرء في نظر نفسه، وفي ذات حقيقته، وما يبرز لنا أن في الكون آماداً وقيماً قدسية، ترى فيها (البصائر) نهج التطور الحق، وملكوته الذي تتقلب فيه حقيقة الإنسان وتترقّى حتى تبلغ ما أراد لها الله من شأن... لا ذلك التطور الحسّي الذي يهدف به دعاة الزيغ ممّن لا يعرف لنفسه قيمة، ولا للكون حقيقة.
على أن النظم الكريم:[ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ{النور:37}. لا ينتهي من هذا المثل عند هذا الحد بل يحدثنا عما أمدَّ به الإنسان من ملكات باطنه كامنة هي ملاك تطوره وقوام أمره، وذلك ما يكشفه التدبُّر في قوله تعالى: [تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ]{النور:37}. فإن فيه ذكراً صريحاً لقلوب وأبصار يعروها التقلب، هي حقيقة الملكات التي نعنيها.
ومن الواضح في نظم الآية أن الله سبحانه لم يذكر لنا فيها من مخاوف هذا اليوم حساباً، ولا عقاباً، بل ذكر أن سيكون للقلوب والأبصار في هذا اليوم شأن غير شأنها في الدنيا... ولندع الحديث في بيان ذلك للإمام فخر الدين الرازي... إذ يقول في تفسيره: (أنها تتغيَّر أحوالها: فتفقه القلوب بعد أن كان مطبوعاً عليها لا تفقه... و تبصر الأبصار بعد أن كانت لا تبصر... فكأنهم انقلبوا من الشك إلى الظن... ومن الظن إلى اليقين... ومن اليقين إلى المعاينة، لقوله تعالى:[ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ{الزُّمر:47}  وقوله:[لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ] {ق:22} ).
وكلام الإمام رضي الله عنه يقتضي التأمل لعمقه وبعد غوره، فذلك الغطاء الذي كشف هو غطاء البشرية، رفع عن ملكات النفس ومواهب القلب، فإذا المواهب الباطنة أو الكيان الروحي كله، يواجه حقيقة الكون بلا حجاب... وإذا كيان البشرية يأخذ وضعاً آخر فلا يواجه الكون إلا من وراء الكيان الروحي وملكاته، أي: على عكس الوضع الذي كان في الدنيا: فنبصر المعنويات بعد أن كنا لا نراها، ويبدو الكون كله مرأى غير مرآه الحسي الذي نعهده، فالأرض غير الأرض، والسموات غير السموات، وبرز الجميع ـ بعد أن كشف الغطاء ـ لله الواحد القهار، لا تخفى منهم خافية، وبدا لهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، فإن معايير التقدير، والاحتساب، والتصور التي كانت في الدنيا غدت بإزاء ما ليس من طبيعتها، ولم يخطر لها في أفق قط...
ويبلغ من وضوح غيبيات الكون في ذلك اليوم، وسفور حقائقه لمداركهم عياناً، أن يدركوا أن قد صاروا في عالم الحق، وأن ما كانوا فيه من قبل إنما هو ضباب أو ظلمة لا يستبين فيها القلب حقيقة ما، وذلك معنى قول الفخر الرازي: (فكأنهم انقلبوا من الشك إلى الظن... ومن الظن إلى اليقين... ومن اليقين إلى المعاينة) بعد قوله: (فتفقه القلوب بعد أن كان مطبوعاً عليها لا تفقه... وتبصر الأبصار، بعد أن كانت لا تبصر)..
والمراد بتلك التي كانت لا تفقه ولا تبصر هي ملكاتنا الباطنة التي هي ملاك التطور، وقوام أمر الإنسان، والله سبحانه يقول في أهل الأعراض والغفلة: [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ{الأعراف:179}. وهي بلا شك غير مَلَكات العقل العادي التي يتفاعل بها المرء مع كائنات العالم الطبيعي وقوانينه ليحصل ما له فيها من منافع
   ونشعر في مقامنا هذا أن معالم من اليوم الآخر تتراءى لنا بجلالها وتغرينا بالاسترسال إلى أفقها الخطير الرائع لنجلو من أمرها وأمر بصائرنا على ضوء كلام الله لمحة تتزود بها الضمائر، و لكن المقام يدعونا إلى توفية ما نحن بصدده من تقريرات الآية الكريمة وتحليلها لخصائص هذا النموذج من الكمال الإنساني، فقد بلغنا من ذلك إلى ما تشير إليه الآية من (إنه كائن جليل له مواهب قدسية يدرك بها ما في الكون من جمال وجلال وامتدادات روحية لا منتهى لأمدها) وهي قوام أمره، وملاك تطوره إلى جماله الحق، وفيصل التفرقة بينه وبين الحيوان...
ـ 3 ـ
وقبل أن نخلص إلى  مرادنا من عرض هذا المقال الكمالي نقرر: أنه ليس المراد من حديثنا عن عالم المادة وعالم الروح أن ثمَّة منطقة في هذا الكون تشغلها المادة، وأن ثمَّة منطقة أخرى وراءها تشغلها الروح، فذلك خطأ محض وهو من تقسيم عقلنا العاجز وتصورنا الذي لا يعهد سوى تقاسيم الزمان، و المكان وأجزاء المادة التي لا تنفك عن حيز تشغله..
فالروح غير المادة... وتلك الغيريَّة تشمل المغايرة في كل شيء... وبما أن أذهاننا مشغولة بما نقلت إليها الحواس من آثار المادة وصورها، ولم تنقل إليها شيئاً غير ذلك، فكل ما يرد على ذلك الذهن من تصور لحال الروح، فالروح بخلافه لأنه تجريد ممَّا هو مختزن فيه من آثار المادَّة... وكل ما نعبِّر به نحن أو يعبر به غيرنا ممَّا يوهم تحيُّز الروح أو تجسُّدها أو امتداد المسافات في أفقها إنما هو مجازات دعت إليها ضرورة التعبير، حيث قضى لنا في عالمنا هذا الأرضي ألا يكون لنا من لغة سوى المصطلحات التي وضعناها للتعبير عن علاقاتنا به... وكل ما نذكره عن التطور في هذا المقام فهو تطور قيمي تعلو به قيمة الإنسان بقدر ما يحقق في نفسه من مثل دون أن يكون ثمة تغيير عضوي، أو تحوّل بمسافة يقطعها من مكان إلى مكان... ونحن نرى الطفل يتطور عقلياً، ونفسياً من طفل إلى شاب إلى كهل، إلى شيخ... وهو هو كيان آدمي، لولا تغيُّره العضوي لما كان من ظاهرة تدل على التحول المعنوي...
ونحن بإزاء هذا المثل الذي بيّنا من شأنه ما بلغ الجهد أمام حقيقتين:
الأولى: أن في الكون حقائق لم نتصل بها بعد حق الصلة... أو لم يتصل بها أكثرنا قط، فإذا كانت تلك الحقائق هي أسّ أصالة الكون ورأس معارفه، فإن ما علمنا منه إلى الآن إلى ما لم نعلم لا يعتبر شيئاً مذكوراً، إذ هو بمكان القشر من لب الحقيقة... وإنما يقاس الإنسان بقدر معارفه من الكون، وليس من كرامته ولا مما يسعده أن يكون حظه من الوجود هو تلك القشور، وحينما دعانا الحق سبحانه وتعالى بقوله:[يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ{الرُّوم:7}.
إنما دعانا من قشور العلم في ظاهر الحياة إلى لبابه في باطنها  حيث حقيقة المعرفة والسعادة..
والحقيقة الثانية: أن للإنسان مدارك وملكات لا تزال كامنة معطلة ـ غير مدارك حواسه المعروفة وملكات عقله العادي ـ فهو بهذا التعطيل ـ قطعاً ـ كائن ناقص الكيان مبتور الوجود، لم يبلغ من تحقيق ذاته وكمال كيانه ما هو مقدور له... وإن بدا للعين عملاقاً فارع القامة... فإذا كانت تلك المواهب هي حقيقة وجوده ومعدن ذاته، فالموجود من كيانه الحسي فعلاً لا يمثل الإنسان في شيء إلا صورة اللحم والدم التي تسلك صاحبها في منظوم قوله سبحانه:[ أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ{الأعراف:179}.
وحين دعانا سبحانه بقوله:[وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{الذاريات:21}. إنما دعا إلى حقيقة أنفسنا حيث بصائر الحق مستكنة فيها، وفي التعبير بقوله: [أَفَلَا تُبْصِرُونَ]. ما يغني في الدلالة على بصائر تلك الملكات، كأنه بيان لكنهها، ودعوة إلى أن نبصر بها.
وعلى ضوء هاتين الحقيقتين يتبين معنى التطور الحق للإنسان فهو تطور يتحقق به (معنى الإنسان) ويكتمل به (كيانه الروحي)..
ولا يكون ذلك إلا بتجريد مواهبه الكامنة من غمدها أو بصائره التي دعانا سبحانه لنبصر بها...
أما أولئك الذين وصفوا للتطور أو بلوغ درجة (سوبر مان) وصفات من قبيل تحديد النسل، وإكثار الإنتاج، ومزيد من الذكاء والتجربة لنزداد إحاطة بعالم الطبيعة، فيكثر الصواب ويقل الخطأ أو يمحى، وتصح الأبدان... إلى آخر ما لديهم من مواصفات الصورة الحسيّة (للسوبر مان) المتوهم... فهم قوم مساكين يريدون أن يجنوا الصواب من  أصل الخطأ، لا من عبرته... ويستنبطوا السعادة من معين الشقوة، لا من البُعد عنها...
إن تلك الوصفات تعود قطعاً على الإنسان ـ في كثير من ظروفه ـ بتحسن صحته، ومستوى معيشته، وذكائه الذي يوفِّر له مزيداً من المعرفة بالطبيعة فيتيح له لذة ذهنية، و رفاهة للحس ـ ولكنها ليست هي السبيل إلى تحقيق (السوبر مان) الذي يمثل الإنسان الأعلى... إن (السوبر مان) مستكنّ في أعماق النفس لا في وجدان البدن...
إنهم يرون أن تفاعل الإنسان مع الواقع ـ أي مع كائنات الطبيعة ـ هو مدار تطويره، وكلما تحسَّنت وسائل ذلك التفاعل بأُسُس عمليّة كان أسرع خطى إلى بلوغ مرتبة (السوبر مان) المأمول، ولكن ذلك ـ على ضوء قليل من التأمل ـ لا يأتي الإنسان بجديد، ولا يضيف إلى حياته أية إضافة تكسبه أي تغير (قيمي) أو أي ميزة (نوعية).
قد يسبق الرجل الحضري الرجل البدائي، فلا يزيد ما بينهما على أنه مدى في الرقيّ الحسّي، أو بعبارة أدق مدى في (القدرة على الاستفادة) من الكون... وذلك بداهة لا يعتبر ميزة نوعية يفضل بها الحضري أخاه البدائي... فالشجرة في البستان قد تسبق أختها بتفتح أكمامها عمَّا تشتمل عليه من زهر وثمر، فلا يخرجها ذلك من جنس أختها التي لم تتفتح أكمامها بعد، ولا يهب لها ذلك السبق أي ميزة نوعية تفضلها بها... والرجل الحضري في روض الحياة شجرة: قد يسبق أخاه البدائي بتفتُّح أكمام ذهنه فلا يهبُ ذلك له أيّة ميزة نوعية، إذ هو هو نفس أخيه الذي يوشك أن تتفتّح أكمام زهره وثمره ساعة ما...
بل إنك تستطيع أن تخرج بالنتيجة نفسها إذا رحت تنسب ذلك الحضري أو الحضاري إلى الشاة ـ مثلاً ـ أو حشرة الكهوف المظلمة التي لا تتصل بالكون إلا بقرني استشعار تحس بهما بعض الآثار حولها، أو غيرها من الأحياء الدنيا والعليا، فإن سلم الحياة ينتظمه معها جميعاً، فيجعل لكل منها (درجته) في الحياة مقدرة (بدرجة) معرفته بالكون، وهو مقياس لا يفاوت بين درجة ودرجة في طبيعة الحياة، بل في مدى (الاستفادة) التي قدرت لكل منها بحسب معرفته... ولا دلالة لذلك السلم بعد هذا إلا على مراحل التطور التي قطعتها الحياة على مدى ملايين السنين.
فالأمر يرجع ـ إذن إلى تفضيل نسبي في سلم الحيوانية ترى فيه الإنسان مقدوراً بالوحدة التي تقدر بها حشرات الفيران أو الداجن والناقر من صنوف الحيوان، دون أن يرجع من قريب أو بعيد إلى حقيقته التي ميّز بها عليها جميعاً.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين


التعليقات