ليس بأمثال هؤلاء تقوم الدول


 
ليست  وحدها الأخطاء التكتيكية  وقلة التدابير الأمنية و كثرة الغفلات و العثرات و الزلات التي قرأناها في مقالة " غباؤنا لا ذكاؤهم " لم يكن  ذلك وحده سببا لوجود ذلك الكم الهائل من الأسرى داخل سجون النظام .
 
بل ثمَّة أسباب أخرى تعد جوهر القضية ولب المشكلة وصميم البلوى .
 
وبما أن معظم الأسرى أو السجناء السياسيين كانوا محسوبين على التيار الإسلامي فإنني أستطيع القول : إن الذي جعل السجون في تلك الفترة تغص بذلك العدد من الأسرى - بالإضافة إلى كل ما ذكرت - هو أن هؤلاء الإسلاميين لم يكونوا أهلاً لما نادوا به من مبادئ و لما حملوه من قضايا و دعوات لم يعلموا منها إلا الأسماء وبعض المصطلحات .
 
تتنوع القضايا داخل سجون النظام ويجمعهم جميعا مصطلح " إسلامي " :
 
قاعدة – إخوان – الدعوة والتبليغ – جند الشام – فتح الإسلام – بعض المتصوفة .
ولعل لهؤلاء الإسلاميين جملة من الصفات التي أذكرها هنا وأتحمل مسؤوليتها أمام الله أولا وأخيرا وأنقلها كما عاينتها وأذكرها وأعلم تماما أنها قد لا تروق لكثير ممن سيقرأ هذه الصفات لكن  السجون علمتني أنني إذا أردت محاربة الأسد  وإسقاطه عليَّ أن أكون صادقاً مع نفسي قبل أي شيء آخر .
صحيح أن هؤلاء الإسلاميين لديهم صفات حسنة إذا أردت الحديث عن إيجابياتهم بالمقارنة مع غيرهم من السياسيين داخل السجون  لاحتجت إلى مقالات عديدة لكنني هنا أحاول الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها في المقالة السابقة ولأننا نحتاج في هذه المرحلة إلى من يبكينا لا إلى من يضحكنا
أذكر هذه الصفات " السلبية " في جملة من النقاط :
 
النقطة الأولى :  غياب المرجعية وقلة العلم و الجرأة على الفتوى :
لم يكن العلم أبداً موجهاً لعمل هؤلاء فأغلبهم سلك هذا الطريق بدافع عاطفي لا علمي خاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق ويشكل هؤلاء ما يقارب الــ90% من الشباب الإسلامي المعتقل ولأن هؤلاء هم من غير المختصين بالأمور العلمية وهم أناس عاديون من ناحية العلم الشرعي ( عمال – فلاحون – جامعيون من الاختصاصات غير الشرعية مع ندرتهم  ) لا يفتح نقاش ديني فقهي إلا وكان بدايته الصراخ ونهايته الشجار وربما الضرب و العراك حتى إن وجد رجل بينهم صاحب علم لا يكلف أحد نفسه عناء السؤال وإذا سأل لا ينتظر سماع الإجابة للآخر ..
 
لم أر مربياً لهؤلاء سوى النشيد الذي يرددونه ليل نهار وقيمة كل واحد منهم تقدر بما يحفظ من أناشيد كل واحد منهم شيخ نفسه أغلبهم التزم قبل السجن بأشهر.
 
 قد يرى البعض في مثل هذا الكلام مبالغة وتحاملاً على الإسلاميين !
 
أقول لهم : إذا لم يكن الإنسان طالب علم شرعي  ولم يدرس في أي مدرسة شرعية ولم يلتزم عند شيخ ولم يقرأ الكتب فمن أين سيأتيه العلم ؟ عامل يذهب إلى العمل في الصباح ويعود عند المساء من أين يأتيه العلم الشرعي الذي يوصله إلى درجة الفتوى ؟ قد يقول البعض : من أشرطة السيدي . أقول : هنا المشكلة يسمع أحدهم شريطا من عشر سنوات لا يتذكره بشكل صحيح فيظن أنه جمع الإسلام كله وهيهات لأحد أن يقنعه بالآراء الأخرى خاصة إذا كانت المسألة فقهية 
 
وتسمع في هذه السجون فتاوى لا تخطر ببال بشر :
فتاوى لتفجير الكنائس : كان أحد الشباب الذين التزموا بالدعوة قبل السجن بـ6 أشهر ( كما قال هو ) وهو من طلاب التعليم المفتوح ( الحقوق ) ولم يداوم بالأصل في الجامعة  كان جالسا في المهجع وهو يفتي بجواز تفحير الكنائس فطالبه أحد الشباب بالدليل ولأن هذا الشاب السائل من تيار مختلف عن تياره ولأنه لا يملك الدليل بالأصل وربما سمع الفتوى داخل السجن  أجاب قائلاً : ( هيك ) و أشار بسببابته إلى رأسه !!!!
 
هل يجوز أن تخرج المرأة للجامعة بمفردها ؟؟؟ لا يجوز إلا إذا أخذت معها أخاها الصغير أو أخد جاراتها !!
 
هل يجوز للمرأة أن تمسك بيد زوجها في الشارع ؟؟؟ لا يجوز لأن ذلك في قريتنا غير جائز !!!!
هل يجوز للمرأة أن ترتدي البنطال لزوجها؟  يجوز بشرط ألا يجسد البنطال جسمها و أن يكون فضفاضا ؟؟؟!!!
 
سمعت مرة أبو حمزة ( بائع خضار مع احترامي له )  يفتي لأحدهم بجواز إفطار الصائم قبل الأذان بربع ساعة !! قلت له: من أين أتيت بهذا الكلام؟ قال لي : قرأته بنفسي من صحيح البخاري على ما أذكر وأنا أقول لأهل العلم إذا كان هذا الكلام صحيحا أرجوكم قولوا لنا ذلك.!!
 
أحد الفتاوى المضحكة : يقول أحد الأشخاص الذين لن أذكر اسمهم يقول مستفسرا :
هل يجوز للمرأة أن تخلع ثيابها وتبقى بالألبسة الداخلية من أجل تنفيذ عملية بطولية أو جهادية ؟؟؟ الجواب برأيه: يجوز بدليل .....الفيلم المصري " الطريق إلى إيلات "
 
ويضاف إلى كل ذلك الحقد و الكراهية للمذاهب وخاصَّة الشافعي و الحنفي
وبأذني سمعت الشتائم والسباب للإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه من إنسان لا يفك الحرف .
النقطة الثانية : الأسماء و الألقاب الرنّانة
ولكي يستر هؤلاء ذلك العجز العلمي يتخذون لأنفسهم أسماء طنانة ورنانة :
أبو مصعب – أبو الضرغام – أبو البراء – أبو المجاهد - .......
ومن العجب أنهم إذا أرادوا التحدث عن غير الإسلاميين نعتوهم بكلمة " العامة " بوصفهم طبعا من طبقة متميزة.
 
النقطة الثالثة : الضعف الأخلاقي و نبذ الآخرين
نتيجة للنظرة الفوقية اتجاه الآخرين كان أغلب الموجودين من القضايا غير الإسلامية حاقدا عليهم بسبب الفظاظة في التعامل واعتماد مبدأ الوصاية على الآخرين
مثلا : ممنوع تعليق الصور – تشطب الصور التي في الجرائد حتى لو كانت للمحجبات – لا يجوز لأحد أن يغنِّي – كل مدخِّن ينظر إليه نظرة احتقار وازدراء – المقياس في التعامل مع الناس هو الصلاة علماً أن أكثر الناس لم تكن تصلي خوفاً من الأمن وخشية أن يحسب على التيار الإسلامي فلا يخرج من السجن.
 
مع الملاحظة أننا في السجن معنا - فضلاً عن غير الملتزمين - أشخاص من الطوائف الأخرى ، ومعنا أيضا  أشخاص شيوعيون لا يعترفون بالدين أصلا .
 
ونتيجة لهذه الطريقة في التعامل كان أغلب الناس متذمِّرا من الإسلاميين حاقدا عليهم يتحيَّنون الفرص لإبلاغ الأمن عن أيِّ تصرف لهم لعلهم يتخلصون منهم .
 
وبلا مبالغة قام الأخ تشرين بتأسيس إمارة في داخل الغرفة 4 في فرع الفيحاء هذه الإمارة لم تدم أكثر من نصف ساعة وتمَّ تعليق راية التوحيد في صدر الغرفة  وتمَّ توزيع المهام من الأمير على بعض الشباب الإسلامي ،لكن الناس سارعت مباشرة بالإخبار عنهم وتمَّ إسقاط الإمارة .
 
 حتى الإسلاميون من غير التيارات كانوا محط ازدراء واحتقار أو ربما تكفير :
الإخوان كفار – الدعوة و التبليغ : جماعة النعوة – الصوفية مشركون !!!
 
النقطة الرابعة : العمل و السهر على حل قضية الإسلام الجوهرية :
تنقلت بين 8 فروع أمنية لم أجد إلا حديثا واحدا يتداوله الإسلاميون وهي حل مشكلة العنوسة وذلك من خلال تعدد الزوجات ولهؤلاء  العوانس  عدة صفات أهمها :
 
ألا تكون بالغة من العمر أكثر من 25 سنة ويستثنى من موضوع التعدد النساء الأرامل أو المطلقات .
بالإضافة إلى مواضيع ذات صلة بموضوع التعدد مثل : تأخير القذف - وضعيات الجماع - الَّسبْي .
وهناك مواضيع تتكر بكثرة داخل السجون هي قصص الجان وأمور تتعلق بالرقية الشرعية ( مع جهل أغلبهم بها )
 
النقطة الخامسة : مشكلات متفرقة :
لما كان هناك حمام واحد لـ 40 شخصا ونتيجة للازدحام كانت هناك شجارات دائمة على دور الحمام تصل أحيانا إلى الشجار والعراك
ولما كان الطعام قليلا كان من الطبيعي أيضا أن يختلف الشباب على حبة الطماطم و الخيار والبطاطا، ولما كان المكان ضيقا كان من الطبيعي ألا تنهي مشاكل النوم وتوزيع البلاط إصبع أو اثنين .
 
النقطة الأخيرة :
دخل إلينا مرة في فرع فلسطين الأخ أبو عبد الملك من حمص بعد ثلاثة أشهر قضاها في منفردات فرع فلسطين ، دخل الغرفة  وهو يضحك على غير عادة  الناس الداخلين إلى المهاجع أول مرة .كان هذا الأخ شعلة من مرح وفكاهة على عادة إخواننا أهل حمص .
وبعد فترة من الزمن بات هذا الرجل كئيباً . سألته: لماذا تغيرت يا أخي ؟ فقال لي : عندما كنت في المنفردات كنت أتشوَّق للدخول إلى المهاجع، قرأت مذكرات الشيخ يوسف القرضاوي، ظننت أنني سأقابل إسلاميين كأمثال أولئك الإسلاميين الذين تحدث عنهم الشيخ يوسف ، لكنني صدمت عندما رأيت هؤلاء الإسلاميين . 
 
كلمة أخيرة :
لطالما قرأت مذكرات إخواني في سجن تدمر ولطالما التقيت بأولئك الأبطال رأيتهم خرجوا من السجون يتقنون لغات عدة ، يحفظون المتون ، خرجوا رجالا بوعي و أخلاق بعد أن فرج الله عني نظرت إلى نفسي ماذا تعلمت من الشباب في سجون " الألفينات " بالمقارنة مع سجناء تلك الفترة تعلمت تربية الغنم والنحل والزراعة وصناعات عديدة لم أترك صنعة إلا وتعلمتها من الشباب الإسلامي ،ومع احترامي لكل هذه المهن وأهلها إلا أن هؤلاء أبدا لن يستطيعوا تأسيس دولة  خلت الساحة من أهلها.
 فلتكن هذه المقالة دعوة إلى كل أسيادنا المشايخ ليربُّوا أبناءهم وأتباعهم على العلم والأخلاق ، ولتكن هذه المقالة أيضا دعوة إلى السياسيين والمختصين والعلماء ألا يتركوا الساحة لغيرهم يلعبون فيها ويشوهون صورتها كيف شاؤوا فليس بأمثال هؤلاء تقوم الدول ..
أبو عبيدة الغريب
المقالة القادمة : " رحمات من الله ومواقف لا تنسى "

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين