نحن بين الخير والشر: ما الخير وما الشر ؟

الشيخ البهي الخولي
 
إن مما لا جدال فيه أن الخير ما تصلح به حال الإنسان...
وأن الشر ما تفسد به حاله...
 
وقد يبدو ذلك من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تعقيب، فالخير بيِّن، والشر بيِّن، وليس يخفى على عاقل أن يجتنب ما يؤذيه، ولا أن يحرص على ما ينفعه..
 
ولكنه وضوح الوهلة الأولى التي تعجل صاحبها عن تبيِّن ما وراء السطح من أصول الحقائق، وخبايا الأعماق، فالخير والشر قضية البشرية بأسرها في كل أعصرها وبيئاتها، أو هما محور كل ما عرف لها من قضايا الماضي، أو سيعرف لها في مستقبل الدهور...
 
ويكفي أنها ـ أي: الإنسانية ـ على ما تزعم لنفسها اليوم من رقيٍّ وعلم، تعاني من القلق، والحيرة، والملل، وشقوة النفس، ما كانت تعانيه  في أشدِّ عصورها جهالة وبعداً عن الخير والحق...
 
وذلك يدعونا إلى دراسة بعض جوانب تلك القضية الدقيقة، لعل أن نتبيّن فيها خيطاً من النور نهتدي به إلى سبيل الرُّشد.
 
ولعل نقطة الارتكاز في هذا البحث أن تعرف علاقة الشر والخير بالنفس البشرية :هل هما من فطرة تلك النفس؟ أو هما طارئان عليها ؟ أو أن أحدهما طارئ عليها، والآخر غريزي فيها؟.
والرجوع إلى أصل تكوين الإنسان في القرآن الكريم يهدينا شاكلة الصواب في تلك الدقائق، فقد خلق الإنسان من طين، من حمأ مسنون.. ثم نفخ الله تعالى من روحه سراً غير الروح الذي تحيا به الأبدان.
 
والحمأ المسنون هو الطين الأسود المنتن المتغيِّر الرائحة... وروح الله سبحانه وتعالى هي حقيقة صفاته، وإذ نفخ في الإنسان من روحه، فقد نفح فيه من حقائق تلك الصفات، وإلى ذلك أشار عليه الصلاة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بقوله: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته) فليس لله سبحانه وتعالى صورة حسيَّة، إنما هي الصفات، قال الإمام النيسابوري في تفسيره شارحاً ذلك: (أي على صفته، فأعطاه ـ على ضعفه ـ من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجاً).
 
واختلط سر الروح، بطبيعة التراب، ونشأ من تلاقيهما ـ أو تفاعلهما ـ في هذا الكيان البشري ضرب من الحياة، فيه سر السمو والنزوع إلى الله تعالى... وفيه طبع الانجذاب إلى خصائص الطين، والركون إلى المتعة الحيوانية، أو نشأ فيه ضربان من الاستعداد: أحدها ينزع به إلى تحقيق صفات الجمال والجلال... والآخر ينزع به إلى تحقيق خصائص الحمأ المسنون، أي: خلائق الظلمة وعفن الطبع... ومن هنا كان استعداده للخير والشر...
 
وغني عن البيان أن الاستعداد للخير من إلهام روح الله تعالى الذي نفخه فينا... وأن الاستعداد للشر هو أثر استمداد الطبع من خصائص طينة الإنسان، وهذان الاستعدادان أصح ما فُسِّر بهما قوله تعالى:[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] {الشمس}.
 
فمن استقام مع إلهام روح الخير فيه، فهو المتقي... ومن استجاب لإيحاء غرائز الضعف فيه فهو الضال عن سواء التقوى...
 
ذلك إلى أن الشيطان ـ في محاجّته لله تعالى ـ قال:[ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا] {النساء:118}.، فكل من يصدق عليه من البشر أنه من عباد الله تعالى، للشيطان فيه نصيب مفروض، مهما ترقَ إنسانيته، وتشف بصائره... فهل يكون ذلك الحظ، أو هذا النصيب المفروض الأمدي استعداد كل آدمي للشر، أو غرائزه الحسية التي تخلد به إلى متاع الدنيا...
 
نعم إن الآية تحتمل أن يراد بالنصيب معنى العدد ـ قليلاً كان أم كثيراً ـ ولكن احتمالها لما اخترناه أوضح وأقوى، فإن الآية به تبدو واسعة الأفق، فتشمل العدد وغير العدد بدون تكلف أو تأويل لنصها اللغوي، وخصوصاً أنه لا يستطيع أن يتَّخذ من عباد الله تعالى أي عدد إلا إذا كان له في النفوس جانب ممهد، ونصيب مطاوع...
 
ذلك إلى أن غرائز الإنسان الدنيا جِبلة فيه محتومة، لا ينسلخ منها ولا تفارقه، فهي بعض التقويم الذي خلقه الله تعالى فيه، ولا تبديل لخلق الله تعالى،  وذلك يتجانس مع وصف النصيب المفروض بأنه حتم مفروض، قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسير المنار: (النصيب المفروض هو للشيطان في نفس كل أحد من الاستعداد للشر الذي هو أحد النجدين في قوله تعالى:[وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] {البلد:10}.فهذا هو عون الشيطان على الإنسان، وهو عام في الناس حتى المعصومين، فإذا هو زيَّن لهم شيئاً لا يغلبهم على عمله، فما من إنسان إلا ويشعر في نفسه بوسوسة الشيطان، فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها، والرياء في العبادة).
 
وإذن فالخير والشر ليسا بعيدين عن الإنسان، فهما استعدادان أصيلان في نفسه، إذا شاء زكَّى نفسه بالاستمداد لها من جانب الروح، وإذا شاء دسَّاها بالميل مع خصائص الطين وغرائز الحيوان...
 
وإذ كان الشر حقيقة علة البشر، وكان الخير أصل شفائها، فقد انطوى الإنسان على حقيقة الداء، وأصل الشفاء على ما قال عليٌّ كرم الله وجهه، أو على ما ينسب إليه:
 
دواؤك فيك وما تشعر       وداؤك منك وما تفكر
وتزعم أنك جرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر
 
وممَّا تقدم ندرك أن للخير مفهوماً معنوياً غير مفهومه الحسي المعهود... وأن للشر أيضاً مثل
 
ذلك المفهوم...
 
فإذا كان الخير لدى العامة يعني: المال وضروب القيم الحسية، والصحة، وإنجاب البنين، ومواتاة الظروف بالفوز على الأقران، وعلو الكلمة، وأسباب الجاه ونحوها، وإذا كان الشر لديهم يعني ما يطرأ على تلك القيم من نقص، أو إدبار، على نحو ما قال الله سبحانه و تعالى:[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ]{الحج:11}. وقوله تعالى:[إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا] {المعارج: }.
 
وإذا كان ذلك هو مفهوم عامة الناس للخير والشر فإن ما قررناه من استعدادات النفس ينكشف عن لون معنوي لهما: الخير فيه هو ما يحرز المرء في ضميره من خصائص الإيمان وصفات الحق سبحانه وتعالى، مع تحقيقه مثلاً ونماذج واقعية في ظاهر الحياة، والشر فيه هو تعطيل ذلك، وحرمان النفس ثمرته مع الميل إلى الأهواء الفاسدة والمعاني الخبيثة، على مثل ما في قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ] {الأنفال:70}. فهذا (الخير ) الذي شرط الله أن يعلمه في القلوب، ليس مالاً يُحاز، ولا عَرَضاً يقتنى، إنما هو خصائص، ونيّات، وصفات مما ينشئه الإيمان في القلوب.
 
وقد سمّاها الله تعالى خيراً لما تُحدثه في الضمائر من حياة وإحساس بجمال قيم الروح، في مقابل ما يحدثه الخير الحسي في البدن من صلاح وتجدد نشاط وإحساس بفضل القوة وعافية الحواس... وقد نزلت الآية في أسرى بدر، وكان قوم منهم رجوا أن يعفيهم الرسول من دفع الفداء، وتكلموا في الإسلام بخير دون أن يبدو فيه إقراراً جازماً، وكأنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين، دون أن يبعدوا من المشركين، فلم يفصل الله في حالهم بقبول أورد، بل جعله معلقاً بما في قلوبهم من خير أو خيانة:[ إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا- أي إيمانا -  يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ] {الأنفال:70}.  [وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]{الأنفال:71}. فجمع الله في هذا النظم الكريم شطري اللون المعنوي: خيره وشره، وهما الإيمان والخيانة...
 
وإذا كنا قد ذكرنا مفهوم كل من الخير والشر الحسيين لدى العامة، فرأس الخير المعنوي لدى الخواص هو الإيمان بالله تعالى، إيماناً يبعث على ابتغاء وجهه، وحسن معرفته وعلى الوفاء والصدق، والعدل، والأمانة والإحسان والرحمة، والحب، والمواساة والبذل، ونحوه...
 
ورأس الشر المعنوي لديهم هو جحود الله جحوداً يطمس مواهب معرفته، ويثير في النفوس تعظيم الحسيَّات وإيثار العَرَض الأدنى، ويبعث على الغدر والكذب، والظلم، والخيانة، والإساءة، والبغض، والأنانية، والشح، ونحوه.
 
والمعروف أنَّ الخير الحسِّي يعود أثره على ظاهر حياة الإنسان، في بدنه ،وثروته ،وبنيه، ومنصبه، وجاهه، ونحوه... ولكن الخير المعنوي، يرجع إلى باطن الإنسان... يرجع إلى ما أمدَّ به في تكوينه من خصائص الروح، وما لضميره من بصائر وملكات تستمد من تلك الخصائص.... فكل ما يعود على تلك المواهب والملكات الباطنة بالحياة وصدق الاستمداد، والقدرة على تحقيق الصفات  مُثلاً فاضلة، فهو خير... خير للإنسان نفسه لأنه إحياء لحقيقته وما تضمنه تلك الحقيقة من حواس الوعي وملكاته... وخير للمجتمع، لأن تلك الحقيقة بما لها من حواس روحية إنما هي كائن حي، يقوم في قيم الحق وأفق الصفات، على ما يقوم به شخصنا الحسي في قيم المادة، وأفق الاقتصاد... فإذا كان شخصنا الحسي ـ بما له من جوارح ومواهب عادية ـ هو عدتنا في الإنتاج الاقتصادي... فهذا الكائن المعنوي ـ بما قرر له القرآن الكريم من حواس وملكات للوعي الروحي ـ هو لا غيره، عدتنا في إنتاج مثل الحق، وإبداع القيم العليا، التي لا قيام لمجتمع ما بدونها.
 
وتبعاً لذلك نقرر: أن كل ما يعود على تلك المواهب والملكات الباطنة ـ أي: على ذلك الكائن الروحي ـ بآفات العلل والهلاك، وعدم الاستمداد من مورد الحياة الحق، فهو شر.
 
شر للإنسان نفسه، لأنه طمس وتعطيل لأفضل مواهبه وملكاته... أو قضاء على وجوده الحقيقي الذي يثبت له حياة في عالم الحق وإبداع مثله وقيمه... وشر للمجتمع لأن وجوده الحق إذ نسخ من أفق المكرمات، استبدل وجوداً قوامه الأنانية، والشح والقطيعة، والفساد، وكل ما ينشأ عن جحود الله من مثل السوء.
 
ومما تقدم نستطيع أن  ندرك أمراً له شأنه في توجيه مسائل الخير والشر، وتمييز قيمهما... ذلك أن مصادر الخير الحسي أقرب من مصادر الخير المعنوي إلى حواس الإنسان وإدراكه الأول الغريزي، فمنذ بدا كل منا يعي نفسه ويدرك ما  حوله، وجد كائنات الطبيعة وما إليها  من ظواهر حسيّة تحت سمعه وبصره:  يرى شخوصها، ويسمع أصواتها، ويذوق طعومها، ويشم روائحها، ويتفاعل معها بسائر حواسه...
 
وأعجبه من ذلك ما أعجبه ـ بحكم ما له من ميول وغرائز تنفعل تلقائياً بأثر الحواس ـ فكان هو الخير... وساء من ذلك ما ساءه ـ بحكم تلك الغرائز نفسها ـ فكان ما ساءه هو الشر... وأقبل على الخير ـ بحكم تلك الغرائز ـ يستكثر منه، ويحرص عليه، ويعد له،  ويسابق إليه... وابتعد عن الشر، أو دفعه عن نفسه، أو استأصل أسبابه، أو توقى دواعيه ما استطاع...
فالأمر في الخير الحسّي أن العين ترى، والأذن تسمع، وبقية الحواس تشم أو تذوق، الخ... والغرائز تنفعل انفعالها التلقائي، دون توقف على إرادة أو فكر...
 
فالطفل ـ مثلاً ـ يرى اللعبة في المتجر، أو في يد طفل آخر، فينفعل فيه من الغرائز ـ بمجرد الرؤية ـ ما يجعله يهجم أو يتقدم لأخذها، أو انتزاعها من يد صاحبها.. حيث لا فكر له يدرك حرمة الملكيات ولا إرادة تقف به عن الحدود المرسومة...
 
والرجل في ذلك صنو الطفل سواء بسواء، ينفعل انفعاله بمجرد رؤية ما يرضيه أو يغضبه، ولا يفترق منه إلا بأنه يستطيع ضبط انفعاله أو إخفاءه بما له من إرادة وإدراك لعرف المجتمع ومواضعاته...
 
أما الخير المعنوي فأين مصادره من الحواس وانفعال الغرائز؟  إنه  معنويات صرفة، أو صفات ومُثل خالصة من قبيل ما ذكرنا من الصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان... ليس فيها  ما تشهده حاسته أو تنفعل به غريزته.
 
 
ومع ما بين نوعي الخير الحسي، والمعنوي من تباين، فإن المادة هي مفتاح السبيل إلى كل منهما،  ذلك أنه لكل شيء من كائنات الطبيعة المحسة دلالتان: دلالة على نفسه ـ أي: دلالة على مادته وخواصه، وتركيب ذراته ـ ودلالة على صانعه ـ أي: على ما لصانعه من الصفات ـ
 
وتلك الدلالة الأخيرة لا تدرك بانفعال غريزة، ولا بمجرد المشاهدة، بل بالتأمل في قدر صنعة الصانع، وما تتضمنه من آثار حكمته، وقدرته، وعلمه، وفضله، ورحمته، وكرمه ووده، وعدله، وإحسانه... ونحوه...
 
 
وتلك الصفات هي لباب الخير، وحياة حقيقة الإنسان على ما قدمنا... و بها تنقدح انفعالات في أعماق الباطن، لا في ظاهر الحس، وغرائز السطح... انفعالات غرائز في خفايا الفطرة الروحية ليست من مباحث علماء النفس في هذا العصر...
 
 
فإن لكل إنسان ضربين من الغرائز، كما أن له ضربين من الحواس الظاهرة والباطنة، على نحو ما قرر القرآن الكريم:[ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}.[ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا...]{الأعراف:179}.
 
 
فإذا اشتركت الأعين التي في الصدور مع الأعين العادية ،في رؤية الكائنات، استطاع الإنسان أن يدرك روائع العبر، وحقائق الصفات، وحينئذ تنفعل غرائز  الحس بمشاهدة العين العادية ـ وتكون انفعالاتها عبارة عن وجدانات قدسية مشبوبة بصفات الحق، كلها شوق، ورغبة في تحقيق ذاتها مثلاً، وصوراً في واقع الحياة.
 
فمصادر الخير الحسي ـ أساساً ـ هي ما نرى من كائنات الطبيعة ومادة الأشياء... ومصادر ا لخير المعنوي ـ أساساً ـ هي ما تشير إليه دلالة الكائنات من أفق صفات الصانع سبحانه وتعالى... ومعنى أن مصادر الخير الحسي، أقرب من مصادر الخير المعنوي، إلى حواس الإنسان وإدراكه الغريزي... إنها مباشرة (لظاهر حياة الإنسان) الممثل في وظائف حواسه العادية، وغرائز بشريته، وما ينشأ عن ذلك من أعمال العقل.
 
 أما الخير المعنوي، فمصادره بعيدة عن ظاهر حياة الإنسان ـ أي: عن مباشرة الحواس، دون تكلف لتأمل، أو وساطة استبصار...
 
أما الخير المعنوي: فمصادره بعيدة عن ظاهر حياة الإنسان ـ أي عن مباشرة الحواس ـ  ولابد لبلوغها من التأمّل الذي يستجيش مواهب الاستبصار، أو على ما قررنا سابقاً لابد فيها من إيقاظ حواس الباطن لتكون وراء حواس الظاهر فيما تسمع وترى.
 
وهذا يشرف بنا على آفاق لحقائق ثلاث:
الحقيقة الأولى:أن للكون ظاهراً وباطناً... وأن ظاهره ليس سوى مادته المشاهدة، وأن باطنه هو ما تشير إليه الدلالات من معاني صفات الحق سبحانه، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] {الرُّوم:7}. قال الزمخشري: (يعني أن للدنيا ظاهراً وباطناً )
 
وروى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الظاهر والباطن: (يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال)...
وقال النيسابوري: (لله تعالى عالمان..... يعبر عنهما بالدنيا والآخرة، والملك والملكوت ، والظاهر والباطن)
 
وفي الآية من المعاني: أن مفهوم الآخرة ليس مقصوراً على دار الجزاء الأخروي بعد البعث، بل يشمل آخره بمعنى آخر، هي عالم الباطن الذي يغفل عنه الناس وهو حاضر معهم... آخره هي معدن خيرهم المعنوي ومصدره الذي تحدثنا عنه...
 
والحقيقة الثانية: أن للإنسان ـ أيضاً ـ ظاهراً وباطناً هما: صورته الظاهرة، وحقيقته الباطنة، على ما أشار إليه ـ عليه الصلاة والسلام  ـ بقوله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فله ـ أيضاً ـ ضربان من الحياة: ظاهرة وباطنة، مقابل ما في الكون من حياة ظاهرة وباطنة...
 
فضرب الحياة الظاهرة، يمثله في الإنسان انفعال غرائز بشريته من قريب بمباشرة ظاهر الكون...
 
وضرب الحياة الباطنة... يمثله انفعال غرائز فطرته الروحيّة من وراء بشريته بما تدرك من حقائق باطن الكون.
 
وإذ كان انفعال الحياة الظاهرة يتمُّ من قريب بمجرَّد المشاهَدَة، فهو في الإنسان حياته الدنيا، من الدنو وهو القرب، إذ يتم تلقائياً دون بذل  أي جهد فكري أو عضلي... ولذا يستوي في القدرة عليه كل صغير وكبير، أو يستوي فيه الصغير والكبير لأنه لا يحتاج إلى قدرة على شيء، حتى لقد يستوي فيه الإنسان والحيوان، دون تفاضل في شيء منه، إذ لا فضيلة ـ مثلاً في أن يجوع كلٌّ منهما ويأكل، ولا في أن يخاف من عدوٍّ فيلوذ منه بالفرار...
 
أما انفعال الحياة الباطنة الذي يتم من وراء بشرية المرء بجهد التأمل والاستبصار، فهو في الإنسان حياته الآخرة، مقابل حياته الدنيا التي قدَّمنا... وهو انفعال لا يملكه الحيوان، لأنه لا يملك القدرة على الاستبصار بتبيين دلالات الأشياء على ما وراءها  من صفات القدر... وكذلك الطفل لا يملك مثل هذه القدرة أول أمره... ولا يبلغ ذروته ممن يملكون تلك القدرة إلا من عرف قدر نفسه وقدر الحياة...
 
والحقيقة الثالثة: أن الخير المعنوي، أفضل وأبقى من الخير الحسي، لاعتبارات كثيرة ... منها:
 
1 ـ أنه جوهر صفات الحق سبحانه وتعالى.
 
2 ـ وأنه مصدر حياة (حقيقة الإنسان الذي تنفعل بحقائقه أشرف ملكاته الباطنة وأرقاها، فيكون له كيانه الحق، الذي لا ينظر الله إلى سواه).
 
3 ـ وإنه بهذا معدن امتياز الإنسان من الحيوان بالكرامة والفضل، وزاده الوحيد إلى ابتغاء الكمال، والترقّي في مدارجه..
 
4 ـ وأنه روح الحياة الطيّبة التي يجد بها المرء رخاء النعيم القدسي، وهو في الدنيا إذا ما حى في حقيقة نفسه، على ما أخبر الحق سبحانه وتعالى بقوله:[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً] {النحل:97}.
 
5 ـ وأنه رأس التكاليف الشرعيّة التي تخرج الإنسان من غمار الهمل، لتنيط به شرف المسؤولية والرسالة.
 
وإذا كان العقل الحكيم لا يتردَّد في إقرار تلك المفاضلة، فإنه يلتقي بذلك مع الوحي إذ يفاضل الله سبحانه وتعالى بين هذين النوعين من الخير بقوله في الخبر المعنوي: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ]{البقرة:269}.
وقوله تعالى في الخير الحسي: [قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ] {النساء:77 }.
 
 فقد بيَّن سبحانه وتعالى أن الحكمة التي يؤتاها فرد واحد  (خير كثير) وأن الدنيا بأسرها ( متاع قليل) فإذا كان ما يستعظمه الناس من أمر الدنيا كلها، قليلاً إلى جانب ما يرزق فرد واحد من الحكمة، فأي سعادة تتملاها ضمائر الحكماء من هذا الخير الذي وصفه الله تعالى بأنه كثير...؟!
 
تلك ثلاث حقائق لها شأنها في توجيه مسائل الخير والشر، و تمييز قيمهما...
ولنا أن نسأل : كيف نتعثر مع ذلك في فهم الخير والشر .. وكيف نتقي ذلك العثار ؟ وهل كتب الله تعالى علينا ذلك أو لم يكتبه ؟ وما مدى صلة القضاء والقدر بكل ذلك ؟ ذلك ما سنجيب عنه - إن شاء الله تعالى - في المقال التالي .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة 21، شعبان 1383 العدد الثامن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين