مدرسة رمضان ووحدة التوجه إلى الله

 

        الحمد لله تعالى الكريمِ المنان، الذي تفضل علينا بمواسم الغفران، متوجاً إياها بشهر رمضان، فصفّد فيه جنود الشيطان، وفتّح لنا فيه أبواب الجنان، تكرمةَ منه تعالى وزيادة في الإحسان .

       والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الإنس والجان، سيدنا محمد الهاشمي العدنان، الذي علمنا الإيمان، ورغبنا في الجنان، وحذرنا من النيران، ما جدّ الجديدان، وتعاقب الملوان .

       وبعد:

        فإن الكلام عن شهر رمضان يطول حديثه، وأظنكم تعرفون عن أحكامه أكثر مما أعرف، لذلك اخترت أن يكون الكلام في خلق من أخلاقه، وأدب من آدابه .

       ذلك أن الأدب دعوة لاكتساب المحامد واجتناب المقابح ، وهي مكارم الأخلاق، وأصل التقوى . لأن الذي يتقي الله تعالى هو الذي يتأدب معه سبحانه، ويتأدب مع نبيه عليه الصلاة والسلام، ومع الناس . وحديث الإمام أحمد في مسنده مشهور معلوم:        ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) .  وعند الطبراني في الأوسط بإسناد جيد ( مكارم الأخلاق من أعمال الجنة ) .

      ومدرسة رمضان تعيننا على تحصيل الأدب: مع الله سبحانه بالاستجابة لأوامره، وترك نواهيه، وهو خلق الطاعة . ومع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلق الاتباع،ومنها ما طلبه منا في رمضان من اجتناب للغو وفضول الكلام، وترك لشهادة الزور والعمل بها، وهذا يؤدي بنا إلى التأدب مع بعضنا البعض .

     ولا يخفى ما في شريعتنا من توجيهات أخلاقية تحضُّ على التحابب، والتوادّ، والتراحم، وعدم إساءة الظن، وتوقير الكبير، ورحمة الصغير . وفي الحديث عند الطبراني في الأوسط ( ليس منا من لو يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا ) .

     فشهر رمضان إذن، من حيث إنه عبادة، فيه الكثير من هذه المعاني، ولكنني سأكتفي بالتركيز على معنىً واحد أرى أننا نحتاج إليه كثيراً، إن على صعيد الحركة الإسلامية أو على صعيد الأمة المسلمة، وهو: وحدة التوجه إلى الله سبحانه ولو اختلفت السبل الموصلة إليه سبحانه .

       فالصوم عبادة لها أحكام شرعية تتعلق بها . وهذه الأحكام مستنبطة من أدلتها، وهذه الأدلة تتردد فيها الأنظار، ولذلك تختلف الأحكام تبعاً لذلك .

      وأول حكم يستوقفنا هو رؤية الهلال، ومعلوم ما في مذاهب الأئمة من اختلاف فيه، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله أجاز اختلاف المطالع، فقد يصوم قوم في يوم بحسب رؤيتهم، ويصوم آخرون في يوم آخر . والكل على صواب . بل قد يقع الخطأ في يوم زيادة أو نقصانا فيغتقر مع الجماعة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي، وحسنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون ) . قال الترمذي رحمه الله: وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس. .

      وهذا أمر لا يقتصر على الصيام فقط، بل وعلى الكثير من الأحكام الفقهية، حتى اشتهر أن غالب الأدلة ظنية الدلالة . وقبل أن تضبط المذاهب بالأربعة المتبعة كانت أكثر من ذلك، بل نستطيع القول: إن لكل عالم يومها مذهبه الخاص  الذي أداه إليه اجتهاده . ومع هذه لم يضُرّ الاختلاف بينهم في أصل التوجه إلى الله تعالى وأنهم جميعاً يتنافسون على أفضل طريقة لعبادة الله تعالى . فلم نجد أن أحدا منهم طعن في نية أخيه، أو شكك في توجهه أو اتهمه في دينه . وهذا في الفروض التي لا يسع المسلمَ تركُها . فكيف الأمر فيما هو دون ذلك ؟

      وعليه فإن الكثير من الأمور الدعوية قد تتردد فيها الأنظار، فلا يجوز أن يكون هذا سبباً للتهمة، وإنما يسعنا فيه ما وسع أئمتنا في أنها أمور تدور بين الخطأ والصواب . فمن أخطأ في اجتهاده، مع أهليته للاجتهاد، وهو صادق النية، مأجور مرة . ومن أصاب  مأجور مرتين . وحتى الميزان الذي نزن به الخطأ والصواب هو ميزان اعتباريٌّ تتردد فيه الأنظار، وهذا كله يدفعنا إلى إعذار بعضنا بعضاً، فالمؤمن العالم بحقيقة الشريعة ومآخذها يسبق الاعذار عنده تهمة الناسِ، وقد جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال لأبي قِلابة الجرمي – وكان من الأبدال -: لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرةً، ولن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ثم تقبلَ على نفسك فتكون لها أشدّ مقتاً . ( الجامع لمعمر بن راشد 11 / 255 ) . وشرحه أهل العلم بأنه يرى للآية الواحدة أكثر من معنى فيهاب الجزم بوجه منها ونفي الوجوه الأخرى . وهذا قمة الدين والتواضع والورع .

          وعندما ختم الحافظ السِّلفي – أحمد بن محمد أبو طاهر الأصبهاني المتوفى سنة 576 هـ رحمه الله – جزء سؤالاته لشيخه خميس الحَوْزي، أنشد الأبيات الآتية:

 

       كم جاهل متواضعٍ                     سـتر الـتواضعُ جـهلـهُ

        ومبَرِّزِ في عـــلـــمـــــــه                هدم  التكبُّرُ  فضلهُ

         فدعِ التكبرَ ما حييـ                        ــتَ ولا تصـاحـب أهـلهُ

          فالكِبْرُ عيبٌ للفتى                       أبـــــــداً  يُقَبـــــِّحُ  فـِعــْلـَهُ  

 

         لذلك علينا أن نتخلق بخلق التواضع والإعذار فيما بيننا، وأن نتجنب سوء الظن والتهمة، والحقيقة أن خلق سوء الظن والعجب بالنفس إنما مرجعه إلى إبليس، وهو دعوى الخيرية، فإبليس تذرّع بادعاء الخيرية لنفسه على آدم عليه السلام، هربا من الإلتزام بأمر ربه له بتقديمه عليه، وذلك بقوله الذي حكاه الله تعالى عنه:    ( أنا خير منه ) . وفي ذلك يقول الشيخ سعيد حوى رحمه الله: " لقد امتنع إبليس من السجود لآدم بدعوى الخيرية، وما أكثر ما كانت دعوى الخيرية حائلاً دون وجود الصف الإسلامي الواحد، وما أكثر ما كانت دعوى الخيرية عاملاً من عوامل تفرُّق صف المسلمين، إن الصف الإسلامي من حقه أن يُخرج قياداته بالشورى، ومن قدّمه الصف، ومن قدمته الشورى، فعلى الجميع أن يلتزموا بإمرته، ولكن كم من الناس يمنعهم من ذلك الكِبْرُ مهما لبسوا لبوس التواضع .

        إن كثيرين لا يبدؤن البداية الصحيحة، مع أن البدايات الصحيحةَ وحدها هي التي توصل إلى نتائج صحيحة، فإذا ما بدأت تظهر ثمرات البدايات الصحيحة يريد الكثيرون أن يتقدموا، وإذا لم يتقدموا يستكبرون عن السير في الطريق الصحيح، إن ذلك من نزغات الشيطان، فليحاسب كل منا نفسه ". (الأساس في التفسير4 / 1872 ) .    

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين