إلى مأدبة الله عز وجلّ  سورة الرحمن (1) من الآية 1 – 13

  بقلم: مجد مكي

 
بسم الله الرحمن الرحيم
[الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)]
الرَّحمنُ الكثير العطف بالإحسان لكافّة خلقه الذي وسعت رحمته الكون كلَّه، علَّم القرآنَ المنزَّل على الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بتيسير تلاوته وحفظه وفهم معانيه، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلّ عدَّد مظاهر رحمته ونعمه على عباده، فقدَّم أعظمها نعمة وأعلاها رتبة، وهو القرآن العزيز.
[ خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)]
أنشأ الإنسان وأوجده من العدم، علَّمه النُّطق بالكلام، والإفهام بالقلم، وعن طريق البيان المنطوق والمكتوب، انتشرت العلوم والمعارف ودوِّنت، وعبَّر الناسُ عمَّا يختلج في نفوسهم وأفكارهم ومشاعرهم ممَّا يريدون إعلام الآخرين به، مهما تباعدت بينهم المسافات المكانية والزمانية. ثم انتقل سبحانه إلى بيان ما أنعم به على الإنسان من العالم العلوي والسفلي، فقال تعالى :
[ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)]
الشمسُ والقمرُ مُقَدَّران في كتلتَيْهما وحركتَيْهما تقْديراً غايةً في الدقَّة والإتقان، يَجْريان مُتعاقبَيْن بنظام دقيق متقن وحساب معلوم مُقدَّر، ومنازل لا يتعدَّيانها. وهذا التقدير المُحكم الدقيق ظاهرة عامة في كلِّ المخلوقات، وإنما خصَّ البعض بالذكر ليدلَّ به على الكل.
[ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)]
والنباتُ الذي لا ساقَ له، والشجر الذي يقوم على ساقه، ينقادان لله تعالى طوعاً لإرادته تعالى ؛ كانقياد الساجد. فكلُّ مخلوق في هذا الوجود لا بدَّ أن يتَّجه نحو خالقه، وليس ذلك خاصاً بالنجم والشجر، وإنما اكتفى بذكر البعض هنا ليدلَّ به على الكل كما في الآية السابقة.
[ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)]
والسَّماءَ المحيطة بالأرض وما فيها من عوالم علوية، رفعها كالبنيان فوق الأرض ، وأقام بناء الكون على توازن دقيق يسمح له بالبقاء والاستمرار، وأنزل الآيات المشتملة على القواعد المبينة للحق والباطل ليلتزمها المكلف في معاملته مع الله تعالى ومع الخلق فلا يتعدى حدود الله في تطبيق هذه القواعد.
[ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)]
لئلاَّ تتجاوزوا حقوقكم إلى حقوق غيركم إذا وزنتم لأنفسكم، واجعلوا لسان الميزان قويما وسطا عدلا في تقدير كل ما يوزن أو يقاس أو يكال، ولا تُنْقصوا في الكَيْل والوزن إذا وَزَنتم للناس. وإنما كرر سبحانه العدل والوصية به على صور مختلفة لزيادة العناية به ، وتحذير الخلق من إهماله إرضاءً للشهوات التي تغلب كثيراً من ضعاف الإيمان .
[ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)].
وجعل الأرضَ موطن الحياة الدنيا مستقرة ممهدة  فيها السهول والوديان والجبال والمياه والأنهار والبحار ،لأجل منافع الإنس والجن وغيرهم ممن له روح أو حياة من الخلق الذين بثَّهم على ظهرها، وجعلها وافيةً بحاجاتهم، مذللة للاستفادة من محصولاتها وكنوزها وخيراتها وسكناها. ثم بيَّن سبحانه بعض هذه المنافع فقال سبحانه : "فِيهَا فَاكِهَةٌ " أي: في الأرض أنواعٌ كثيرة من الفاكهة التي يتفكَّه بها الإنسان والحيوان من الثمار المستلذّة، "وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)" وفيها أيضاً النخل صاحبة الأوعية التي فيها حب الإخصاب للنخل، وصاحبة الليف الذي تلفُّ به النخلة،"وَالْحَبُّ "وفي الأرض أيضاً الحبُّ الذي يكون في السنابل وأشباهها يُقْتات به،" ذُو الْعَصْفِ" أي :صاحب الورق والتِّبن الذي يتكوّن من عيدان القمح والشعير إذا تكسرت الذي تعصفه الرياح بسهولة؛ رزقاً لكم ولأنعامكم،"وَالرَّيْحَانُ (12)" وفي الأرض أيضا: الزهر الذي يشمُّ لما فيه من رائحة زكيَّة.
"فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)" فبأيِّ فِعَال خالقكما ومالككما والمتفرد برعاية مصالحكما وصفاته العجيبة، ونعمه الدينية والدنيوية ـ يا معشر الجنِّ والإنس ـ تُنكران وتجحدان ؟ وكرَّر هذه الآية في السورة في واحدٍ وثلاثين موضعاً تقريراً لفعاله العجيبة، وتأكيداً في التذكير بها، وإقامةً للحجَّة عليهم عند جحودها.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين