إلى مأدبة الله عز وجلّ سورة القمر 27 -

 

الشيخ مجد مكي
تهديد كفار قريش وتوبيخهم :
وبعد أن أتمّ هذه القصص التفت إلى كبار قريش يهدّدهم بمثل ما أصاب أولئك ، وصاغ العبارة على السخرية بهم والتسخيف ، فقال:
 [ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) ]
أكفَّارُكم المكذِّبون اللهَ ورسولَه ـ يا معشر قريش ـ أفضل قوة ومكانة في الدين من كفار أهل القرون الأولى الذين أحلَلْت بهم نقمتي، مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون؟
 ثم انتقل سبحانه إلى توبيخ آخر ، فقال :" أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ" أي : بل ألكُفَّاركم خلاصٌ وسلامةٌ من العذاب في الكتب المنزلة على الأنبياء، بأنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية؟ ليس الأمر كذلك، فسنَّة الله في عباده واحدة، فلا فضل لفريق منهم على فريق آخر بعنصر، أو لون، أو لغة، أو أرض. والاستفهام في الموضعين بمعنى النفي . أي : ليس الأمر كذلك .
ثم انتقل سبحانه إلى توبيخ آخر مع الإعراض عن مخاطبتهم لحقارتهم ، فقال :
[ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)]
أي : بل هل يقول كفار مكة بعضهم لبعض على سبيل الإعجاب بأنفسهم والثقة بقوتهم وقدرتهم على الغلبة : نحن جمع متماسك وكثرة متفقة لا تهزم ، منتصرون على محمد ، فهو وحيد لا ناصر له ؟ وكذلك شأن الكفرة في كل زمان ومكان ، ثم يخسرون ويغلبون إذا كان المسلمون صادقين في الإيمان ونصرة دين الله . ثم هدّدهم سبحانه وتوعدهم بقوله:
[ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)]
لا نصر لهم في الدنيا، سيُغلب الحشد من كفار مكة، ويُوَلُّون الأدبار، ويسلمون ظهورهم ويهربون، وقد كان ذلك يومَ «بدر»، وما بعدها من الغزوات ، ثم بيَّن سبحانه أن هذا هو عذاب الدنيا وسيأتيهم يوم القيامة عذاب أشد ، فقال سبحانه :
[ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)]
ليس ما سبق من الإذلال في الدنيا هو تمام عقوبتهم ،بل ساعة البعث للحساب، وفصل القضاء، وتنفيذ الجزاء اللائق بجرمهم، موعد عذابهم في جهنَّم، وهذا العذاب أعظم داهيةً، وأشدُّ مرارة وصعوبة على النفوس ممَّا سيصيبهم من عذاب الدنيا. وكررت ( الساعة ) إقامة للاسم الظاهر مقام المضمر لزيادة التهويل .
جزاء المجرمين :
ثم بيّن سبحانه سبب استحقاقهم ذلك ، فقال :
[إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)]
إنَّ الذين كذَّبوا رسل ربِّهم المنبعثين في الفساد بعزم وجرأة ووقاحة، مُنْغمسون في بُعد عن الحق، وعناءٍ وعذاب نفسيٍّ دائم، وجنون منعهم من التأمل في البراهين الدالة على الحق.
[ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)]
اذكر يومَ يُجَرُّون للتعذيب في النار على وجوههم موضع تكريم الإنسان لإهانتهم، ويقال لهم على لسان ملائكة العذاب : قاسوا ـ أيها المكذِّبون ـ وتحسّسوا بجميع جوارحكم آلام جهنَّم الذي لا مثيل له وحرارتها الشديدة.
 ثم ذكر سبحانه سبب تأخر العذاب ، وأمر الساعة وملابساتها من البعث والحساب والثواب والعقاب ، فقال :
[ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)]
إنَّا كلَّ شيءٍ أنشأناه من العدم بمقدار مُحدِّد ونظام محكم لكلِّ عنصر فيه، ولكلِّ صفة فيه، فما منْ شيءٍ صغير أو كبير إلا خلقه الله بقدرٍ محدَّدٍ معلوم على صفات مخصوصة حسب ما اقتضته الحكمة البالغة. وكذلك أمر الساعة والعذاب لم نخلقه إلا بقدر معلوم ، وفي وقت معيّن .ثم بيّن يسر ذلك عليه دفعا للاستبعاد، وزيادة في التهديد ، فقال :
[ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) ]
 وما أمرنا لشيء مما هو موجود من الخلق أو محتمل وجوده إذا أردنا تكوينه إلا كلمةٌ واحدة، وهي: «كن»، فيكون، لا مراجعة فيه، ولا حاجة إلى تكرير القول، ينفذ أمرنا بأسرع من النظر السريع الخاطف. ثم رجع سبحانه إلى تهديد كفار قريش ووعيدهم بما جرى على أمثالهم، فقال :
[ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)]
ونقسم مؤكِّدين أننا أفنينا واستأصلنا بالعذاب الدنيوي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة، واعلموا أنكم إذا وصلتم إلى مثل ما وصل إليه المُهلكون السابقون، فإننا سنُنْزِل بكم إهلاكاً عاماً شاملاً، مُماثِلاً لما أنزلناه بالمجرمين السابقين، فهل من متذكِّر بما حلَّ بهم من العذاب، فيخاف ويعتبر فيرجع عن أسباب الهلاك؟ ثم أضاف على وعيدهم بعذاب الدنيا وعيدَهم بعذاب الآخرة ، وبيَّن سبحانه أن كل أعمالهم مسجّلة فلم يظلمهم ، فقال تعالى :
[ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)]
وكلُّ شيءٍ فعله الموضوعون في الحياة الدنيا موضع الابتلاء واكتسبوه وتحمّلوه بالنية أو القول أو العمل مكتوب ومحفوظٌ في كُتب الملائكة الذين يقارنون الناس لتسجيل ما يصدر عنهم، فلا تظنُّوا أن أفعالكم متروكة منسيَّة، ليس وراءها حساب، وفصل قضاء، وتنفيذ جزاء. ثم زاد إيضاحا وتفصيلا، فقال :
[ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) ]
وكلُّ يسير وعظيم وما كان بينهما في الوجود، ما كان ومضى، وما هو كائن، وما سيكون في المستقبل، مكتوبٌ ومُسجَّل تسجيلاً ثابتاً لا يتعرَّض للتآكل والمحو مهما تطاولت الأزمان به، أحصاه الله ونسوه ، وسيجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا.
جزاء المتقين :
وبعدما بيَّن جزاء الكافرين ختم السورة ببيان جزاء المؤمنين ؛ ليظهر التقابل فيتبَّه الغافل ، فقال :
[ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)]
 إنَّ المُتجنِّبين سخط الله ، الطالبين رضاه بامتثالهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه ، في مكان محاط ببساتينَ عظيمة، وأنهارٍ كثيرة جارية يوم القيامة، يشربون من أنهارها الماء واللبن والعسل والخمر، في مكانٍ إقامة مريحة مطمئنَّة، ومجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، مُقرَّبين عند عظيم المُلك واسعه، المتصرِّف بالأمر والنهي في عباده، ذي القدرة الكاملة لا يعجزه شيء أراده .وهذا المكان الشريف العالي هو الجنة ، نسأل الله أن يوفقنا لأسبابها وأن يدخلنا إياها من غير سابقة حساب ولا عتاب ولا عذاب .
 


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين