إلى مأدبة الله عز وجلّ سورة القمر 24-

الشيخ مجد مكي
 
قصة نوح عليه السلام :
ثم فصّل سبحانه بعض ما أجمله من أنباء ما مضى، بقصص بعض الأنبياء مع معارضيهم ، إنذاراً لهؤلاء المشركين بمثل ذلك، فقال :
 [ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)]
أنكرت قبل كبراء مُشركي مكة، جماعة نوح، فكذَّبوا في كل جيل منهم عبدنا نوحاً المتحقِّق بكمال العبوديَّة الصادقة لنا، وقال عنه كُبراء قومه وأصحاب النفوذ والسلطان فيهم: هذا رجلٌ مجنون ذهب عقله فهو يهذي بما لا يدري ، ومُنِعَ من متابعة دعوته إلى ربِّه، وانتُهر بعنف وشدَّةٍ مصحوب بتهديد بالتعذيب أو القتل إن لم يرجع عن دعوتهم إلى خلاف ما كان عليه آباؤهم.
[ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)]
فنادى نوحٌ خالقه ومالكَه ومربِّيه بنعمه مستغيثاً به بعد صَبْر طويل على قومه، وقال: إني تغلَّب علي قومي بالقوة والتعنُّت، وتمرّدوا عليّ، ويئست من استجابتهم ؛ إذْ زجرني كبراؤهم بشدَّةٍ عن الاستمرار في دعوتي، فانتصر لدينك وانتقم لي منهم بعقابهم .
  [ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)]
 فأجبنا دعاءه، فأطلقنا أبوابَ السماء بمطر مُنْصَب انصباباً شديداً على مواقعها من الأرض.
[وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)]
وللإسراع بإغراقهم ؛ شقَّقنا وفتَّقنا الأرض كلها ينابيع متدفِّقة مُنْبعثة بالماء بقوّة، فاجتمع ماءُ السماء المنهمر وماءُ الأرض المنفجر على أمر قد حُدِّد مقدار كل شيء فيه بالتقدير الدقيق الحكيم الشامل لكلِّ الدقائق والتفاصيل، وتمَّ إغراق الذين كفروا بنوح في الزمن المحدَّد له، وبالطريقة المحدَّدة له في سابق التقدير.
[ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)]
 وفي هذا الوقت يسَّرنا لنوح الركوب والنجاة على سفينة مصنوعة من صفائح عريضة من الخشب، ومسامير وحبال وشرائط، تُشَدُّ بها صفائح الخشب. وهذا الوصف للسفينة للإيماء إلى أنها ضعيفة بالنسبة إلى قوة الماء ، ولكنها اقترنت بحفظ الله ، يشير بذلك إلى لطف الله بالأنبياء ورعايته لهم ، ولذلك قال :
[ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)]
تسير السفينة بسرعة محفوفةً بأكمل الحفظ والرعاية والحماية من أيِّ شيءٍ يضرُّها ويؤذيها، فعلنا ذلك من إنجاء نوح، وإغراق قومه، مجازاة منا لنوح عليه السلام، وثواباً معجَّلاً له في الدنيا؛ لأنه نعمة من الله كُفِر به وكذِّبت رسالته وجُحِد أمره من قِبَل قومه. ثم حث على الاعتبار بهذه القصة ، فقال :
[ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)]
وأؤكِّد لكم أننا أبقينا سفينة نوح، وإغراق الكافرين وإنجاء المؤمنين دلالة بينةً باقيةً زمناً طويلاً من بعده؛ لتكون علامة على حادثة الطوفان، وشاهداً على عقاب الله للمكذِّبين، فهل من مُتَّعظ مُتذكِّر معتبر خائف مثل عقوبتهم؟ فعلى أية حال كان تعذيبي لقوم نوح؟ وعلى أية حال كان تهديدي لهم؟ لقد كان العذاب شديداً مخيفاً، وكانت النذر التي أنذر الله بها قوم نوح على لسان رسولهم نُذُراً صادقة.
[ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)]
والله لقد سهَّلنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ، ومعانيه للفهم والتدبُّر، لمن أراد أن يتذكَّر ويعتبر، فهل من متَّعظ به؟
وقد وردت هذه الجملة القسميَّة أربع مرات: في آخر قصة إهلاك قوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم لوط، حثّاً على تدبُّر القرآن وتذكُّره، وتنبيهاً على أن هؤلاء الأقوام لو تَلقَّوْا ما أُنزل إليهم من ربِّهم عن طريق رسلهم، وتدبَّروه، ووضعوه في ذاكرتهم، والتزموا أوامر الله لهم، ما عرَّضوا أنفسهم للْهلاك الشامل المعجَّل في الدنيا، وللْعذاب الخالد المؤجل إلى يوم الدين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين