إلى مأدبة الله عز وجلّ  سورة النجم 20 –

الشيخ مجد مكي

 

]فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)[

وإذا كان أمر هؤلاء كما ذكر ، فأرح نفسك ـ يا رسول الله ـ من عناء دعوتهم ،واترك جدال من انصرف ونأى عن الاستجابة لدعوة كتاب الله، ولم يطلب ويقصد إلا متاع الحياة الدنيا ولذّاتها وزيناتها؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة حتى يريدوها ويعملوا لها.
 

]ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)[

ذلك الذي لم يريدوا غيره هو الغاية التي انتهى إليها علمهم؛ إذْ رفضوا الإيمان بيوم الدين، وانحصر علمهم في حدود دائرة الحياة الدنيا، ثم بيّن سبحانه سبب أمره بالإعراض عنهم ، فقال :] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى[ أي : إنَّ خالقك ومالكك ومربِّيك بنعمه هو أكثر إحاطة وأوفى علماً بمن حاد وانحرف عن طريقه الواضح، وهو أكثر إحاطة وأوفى علماً بمن استرشد إلى الحق واستجاب له، وسيُجازي الفريقين بأعمالهم، فلا تشق نفسك في دعوتهم بعد ذلك ؛ لأنه ليس عليك إلا البلاغ لتقوم الحجة عليهم ، وقد بلَّغت .
 

]وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) [

وللَّه ـ وحده ـ ما في السموات المحيطة بالأرض من جوٍّ وأجرام وعوالم علويَّة وما في الأرض موطن الحياة الدنيا ، خلقاً وتدبيراً ومِلْكاً لا لغيره، فهو عظيم السلطان ، يحصي ضلال الصالِّين وهداية المهتدين ؛ ليكافئ المسيئين في رحلة امتحانهم في الحياة الدنيا من عصاة المؤمنين والكافرين حتى أخسِّ دركاتهم بالعقاب العادل لما اكتسبوا باختيار وقصد من نية أو قول أو عمل ، ويجزيَ المحسنين أهل المرتبة العليا من مراتب المؤمنين، فمن دونهم من المتَّقين والأبرار على تفاضل درجاتهم الذين اكتسبوا صالح الأعمال مخلصين متقنين لها بالمثوبة الحُسْنى التي لا مثيل لها، وهي: الجنَّة.
 ثم ذكر بعض صفات هؤلاء المحسنين فمن دونهم من الأبرار والمتقين، فقال :
 ]الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ[وهم الذين يبتعدون عن حدود كبائر الذنوب التي تقتضي العقاب، وما عظُم قبحه من الأفعال والأقوال، ]إِلَّا اللَّمَمَ [ أي : لكن ما قلَّ وصغُر من الذنوب ممَّا يعمله الإنسان الحين بعد الحين، ولا يكون له عادةً ولا إقامة كالنظرة المحرَّمة مثلاً، فإنَّ هذه يعفو الله عنها.
]إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ   [إنَّ خالقك ومالكك ومُربِّيك بنعمه عظيم الستر للذنوب والعفو عنها، يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، ويغفر الكبائر بالتوبة النصوح ،هو سبحانه أعلم بضعفكم في أصل تكوينكم تُجاه أهوائكم وشهواتكم، حين خلق أباكم آدم من التراب، ولتكوُّن المنيِّ من الأغذية المخلوقة من الأرض، وإذْ أنتم أجنَّةٌ في أرحام أمهاتكم قبل ولادتكم، فهو سبحانه محيط بأحوالكم وتفاصيل أموركم من أول نشأتكم، فمن باب أولى أن يعلم ذلك إلى آخر حياتكم ، وما سيكون بعد ، ]فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32 [(أي : إذا كان ربكم هو وحده العليم بسائر أحوالكم قديمها وحديثها فلا تمدحوا أنفسكم على سبيل الإعجاب بحُسن الأعمال والبراءة من الآثام، لتظهروا أمام الناس في مقام أعلى، فأمر الحكم بطهارتكم من المعاصي، وتزكية أنفسكم ليس لكم، إنما هو لِلَّه، هو أعلم بمن برَّ وأطاع وأخلص العمل، فمن زكَّاه فحكم له بذلك، فهو الزكيُّ التقيُّ، لأنه سبحانه هو العليم بعباده، الحكيم في أحكامه.
 وبعدما بيَّن سبحانه جهل كفار مكة بعبادة غيره تعالى ، ذكر واحداً منهم، ضمَّ إلى كفره شناعة أخرى ، فقال :
 

]أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)[

أنظرتَ فرأيتَ ـ يا رسول الله وكل سامع عاقل ـ هذا الذي أدبر وتولَّى مبتعداً مرتدّاً عن الإيمان؟ وأقبل في بداية أمره مُصْغياً متفكِّراً بقدر يسير في دعوة الرسول، وبخل وشحَّ بعطاء من فكره ونفسه؛ لأنَّ مضامين هذه الدعوة لم توافق هواه وشهواته ونزغاته وكِبْره، فاستَحْجَر عطاؤه الفكري والنفسي، كالأرض الغليظة، والصخرة الشديدة التي لا ترشح بماء؟
ثم زاده تسفيهاً فقال :]أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى[ أي : هل عند هذا الرجل المصمِّم على الكفر والبخل الإحاطة التامَّة بما غاب عن حواسِّ الخلق وإدراكهم فهو يرى ما غاب عنه عِياناً ويعلم الحقيقة ؟ ليس عنده شيء من ذلك أصلاً.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين