إلى مأدبة الله عز وجلّ سورة النجم  19 –

الشيخ مجد مكي
وبعد أن قرّر الوحي والرسالة والمعراج المؤيِّد لها والممهِّد لأعبائها ‘ التفت إلى المشركين ، يردُّ عليهم شركهم وضلالهم وإعراضهم عمَّا جاءهم به هذا الرسول الكريم ، ويقارن بين شانه وشانهم ، وعظمة إلهه ومهانة آلهتهم ، ويشنِّع عليهم أمرهم ، فقال :
 
]أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)[
 أتفكَّرتم فرأيتم ـ أيُّها المشركون ـ هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله: اللات الأولى، والعُزَّى الأخرى الثانية، ومناة الأخيرة الثالثة، هل لها من القدرة والعَظَمة ـ التي وُصف بها ربُّ العزَّة ـ شيء؟!
ثم وبَّخهم سبحانه توبيخاً آخر، فقال :]أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) [.
أتجعلون لكم الذَّكَر الذي تحبُّونه وتعتزّون به، وتجعلون لله ـ بزعمكم ـ الأُنثى التي تكرهونها؟ تلك التوزعة إذا رضيتموها توزعة جائرة، حيث جعلتم لربكم افتراءً عليه ما تكرهون لأنفسكم. ثم أبطل زعمهم بقوله :
 
 ]إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)[
ما هذه الأصنام الثلاثة المذكورات التي تعبدونها إلا مجرَّد تقوُّلات تقولتموها وسمَّيْتمُوها آلهة واخترعتموها أنتم وآباؤكم، بمقتضى أهوائكم الباطلة ، وليس لها إلهيَّة في الحقيقة والواقع، ما أوحى الله بالأمر بعبادتها أي حجَّة يُحتجُّ بها. وهذا القيد : [مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ] لزيادة البطلان ، وللإيذان بأن الحق لا يثبت إلا بالحجة والبرهان .
ثم أعرض سبحانه عن مخاطبتهم احتقاراً لهم ، فقال : ]إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ[ أي : ما يجاري ويطيع هؤلاء المشركون في أمرهم هذا إلا الظنَّ الضعيف الذي لا تدعمه أدلة فكريَّة، ولا أدلة حسيَّة، ولا أدلة خبريَّة صحيحة،  ]وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ[أي : وما يتَّبع هؤلاء المشركون أيضاً إلا ما تشتهيه أنفسهم المنحرفة، وتميل إليه من مطالب وحاجات، ومتع ولذَّات وشهوات، وأن هذه الآلهة المزعومة شفعاء لهم عند الله تدفع عنهم الشقاء والعذاب .]وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [ ومن عجيب أمر هؤلاء المشركين أنهم يفعلون ذلك في الوقت الذي وصل إليهم وبلغهم من ربِّهم البيان ـ بالكتاب المُنزَّل والنبيِّ المرسل ـ أنَّ الأصنام ليست بآلهةٍ، وأنَّ العبادة لا تصلح إلا للَّهِ الواحد القَّهار، فأصرُّوا على باطلهم، ولم يتَّبعوا الهدى.
 
ثم انتقل سبحانه إلى توبيخهم وقطع أطماعهم في خير الآخرة ، فقال :]أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) [
بل يظنُّ الإنسان أنَّ له ما تعلقت به نفسه وتخيّله لمجرَّد أنه يحبه ، ومن ذلك ما ذكره الله سبحانه عن بعض الكفار:]وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [[الكهف:36ا] ، وفي قوله سبحانه : :]وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [[ فصلت : 50 ] . كلا لن يكون له ذلك لأن الأمر كله لله ، له مِلْكُ الحياة في اليوم الآخر بكلِّ ما فيها، وملْكُ الحياة الدنيا بكلِّ ما فيها، لا يملك أحدٌ منهما شيئاً أبداً إلا بإذنه ، وهو سبحانه لا يعطي إلا ما يشاء لمن يريد ، وليس لأحد أن يتحكَّم عليه في شيء. ثم أكّد ذلك بقوله :
 
]وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)[
ليس للإنسان ما تمنَّى، ولا تنفعه شفاعة آلهةٍ من دون الله، وعددٌ كثيرٌ من المخلوقات النورانية المطهَّرة المعصومة في السموات السبع ممَّن يعبدهم هؤلاء المشركون، ويرجون شفاعتهم عند الله، لا تجلب نفعا وتدفع ضرراً ما، إلا من بعد أن يسمح الله لهم في السؤال في التجاوز عن الذنوب وإنالة النعيم، فيمن يريد أن يُشفع له، ويرضى أقوالهم فيمن شفعوا فيه، ويرى المشفوع أهلاً للعفو .فإذا كان هذا حال أقرب الخلق إلى الله تعالى ، فكيف يطمع المشركون في شفاعة معبوداتهم الباطلة ، وهي أبعد الخلق منه تعالى ؟!
ثم بيَّن سبحانه شناعة أخرى لهؤلاء المشركين ، وهي وصفهم الملائكة بأنها بنات الله :
 
]إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)[
إنَّ الكفار الذين لا يصدِّقون بالبعث والحساب تصديقاً جازماً، أو ينكرونه إطلاقاً، أو يتردَّدون فيه ، لَيصفون الملائكة المخلوقات النورانية المطهَّرة المعصومة بوصف الإناث ، حيث قالوا: أنها بنات الله.
 
]وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)[
وما لهم بما يقولونه عن الملائكة من علم يقينيٍّ يستندون إليه ، ما يتَّبعون دليلاً إلا الظنَّ التوهُّميَّ الباطل في تسمية الملائكة بالإناث، وإنَّ الظنَّ التوهُّمي لا يكفي في تقديم حُجَّة صحيحه. فالعلم اليقيني يطلب في الاعتقادات ، بالاعتماد على المعارف الحقيقية الثابتة، من تبليغ إلهي أو قول نبي أو المشاهدة عِياناً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين