المعين على تدبر الكتاب المبين سورة ق - 6 –

الشيخ مجد مكي

[ق وَالقُرْآَنِ المَجِيدِ] {ق:1}

 

 

من الحروف المقطعة التي استأثر الله بعلمها .
أُقسمُ بالقرآن الشريف الكريم، الرفيع المقام، العليِّ المنزلة، على صدق رسولي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصدق ما جاء به من أمر البعث بعد الموت إلى الحياة الأخرى، للحساب، وفصل القضاء، وتنفيذ الجزاء.
[بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ] {ق:2}
لكنَّ الذين كفروا لم تُؤثِّر فيهم معجزة القرآن، ولم يؤمنوا بالرسول، وبما أخبر به من أمر البعث بعد الموت، بل دهش المشركون من أهل مكة وتحيّروا أنْ وصل إليهم وبلَّغهم مُنذِرٌ بَشَرٌ منهم يُخَوِّفهم بعذاب الله وعقابه المُعجَّل والمُؤجَّل بعد أن أصرُّوا على جُحودهم وَعِنادهم، فقال الكافرون السَّاترون للحقِّ وأدلته المكذِّبون الله ورسوله: هذا البعث الذي أنذر به محمد شيءٌ يُتعجَّب منه يُدهش ولا يصدَّق.
[أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ] {ق:3}
أإذا فارقت أرواحنا أجسادنا وفنينا وبلينا، وصِرنا فتاتاً مختلطاً بتراب الأرض، نعود إلى الحياة بالبعث للحساب والجزاء كما يقول؟ ذلك البعث بعد الموت المهدَّدون به بعيد الوقوع في غاية البُعد عن الإمكان والعادة ، مستحيل لا يصدَّق.
[قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ] {ق:4}
نؤكِّد أنه سبق في علمنا وأحطنا إحاطة بالغة جملة وتفصيلاً قبل خلق الناس ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم ودمائهم وشعرهم بالإفناء، لا يَعزُب عن علمنا شيء، وعندنا في ملكنا ـ مع علمنا بذلك ـ كتابٌ حافظ لكلِّ معلوم، محفوظٌ من التغيير والتبديل، وهو اللوح المحفوظ، فيه جميع الأشياء المقدَّرة التي ستكون في الوجود من نيَّة أو قول أو فعل أو حدث. وفي هذا تهديد ووعيد ، وردٌّ لاستبعادهم وإزاحة له ، لأن من أحاط بكل شيء وقدّره وخلقه وضبطه قادر على ما يشاء، ومن ذلك بعث الموتى وحسابهم .
[بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ] {ق:5}
ليسوا في حقيقة الأمر شاكِّين، بل كذَّب هؤلاء المشركون بالقرآن وجحدوه وأنكروه حين جاءهم وبلِّغوه وكلِّفوا الإيمان بما فيه، ، دون أن يتفكَّروا أو يتعقّلوا، فهم في شأن مضطرب وحال مُخْتلط مُلْتبس، يقولون في القرآن مرة: سحر، ومرة: رَجَز، ومرة: مُفْتَرى!!
التذكير بآثار قدرة الله في العالَمَيْن العلوي والسفلي :
[أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ] {ق:6}
ألم يستعملوا ما لديهم من أدوات نظر تفكُّريٍّ، فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم ـ حين كفروا بالبعث ـ إلى السماء العظيمة المحيطة بالأرض كائنةً فوقهم، كيف رفعناها وأحكمناها كالبناء بغير عَمَد تعتمد عليه، وجمَّلناها وحسَّنَّاها بالكواكب والنجوم، وما لها من شقوق وصُدوع تَعيبها؟
[وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] {ق:7}
والأرضَ بسطناها ووسَّعناها، وأمددناها كذلك بالعناصر الصَّالحة لنفع الناس ورزقهم، ووضعنا فيها جبالاً ثوابتَ تمنعها من المَيَدَان والاضْطراب، وأخرجنا فيها وأنبتنا من كلِّ صنف من أصناف الزروع والأشجار، كريم حَسَن، يُسَرُّ به الناظر إليه ويُسْعَد.
[تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ] {ق:8}
جعلنا تلك الآيات في السماء والأرض تعليماً وتفهيماً، وتذكيراً منا مُتكرِّراً بما سبق أن تعلَّمه وتعرَّف عليه من آيات الله في كونه، ينتفع بهذه التبصرة والذكرى كلُّ عَبدٍ رجَّاع إلى الله تعالى بالتدبُّر في بدائع صنعته، ودلائل قدرته.
[وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ] {ق:9}  
وأطلقنا وأرسلنا بكثرة من السُّحُب إلى الأرض مطراً كثيرَ الخير والنماء، فيه حياة كلِّ شيء، فأنبتنا بذلك الماء بساتينَ كثيرة الأشجار، مختلفة الثمار، وأنبتنا به حبَّ البر والشعير، وسائر الحبوب التي تُحصَد بعد نضجها.
[وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ] {ق:10}
وأنبتنا بهذا الماء أيضا النخل حال كونها طِوالاً مرتفعات القامات في السماء، لها ثمرٌ يطلع ويظهر، مُتراكبٌ بعضه على بعض باتِّساق جميل، ونظام بديع.
[رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ] {ق:11}
جعلنا ذلك عطاءً ومِنحاً للخلق، وأحيَيْنا بالمطر بلدةً جَدبةً مُمْحلة لا زرع فيها ولا نبات، فأنبتنا فيها الكَلأَ والعشب، كما أحيَيْنا بذلك الماء الأرضَ المَيْتَة نُخرجكم من قبوركم أحياء بعد الموت، للحساب، وفصل القضاء، وتنفيذ الجزاء.ومع ذلك كله لم يتعظوا وأنكروا وكذبوا ، فكانوا أهلاً للزجر والتقريع.

 


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين