المعين على تدبر الكتاب المبين سورة الحجرات- 4 –

الشيخ مجد مكي
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:12}
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]
 يا أيُّها الذين صدقوا الله ورسوله ، واتّبعوا شريعته، اجْتَنِبوا كثيراً من الظنِّ الوهميِّ، والظنِّ الذي هو من مرتبة الشكّ، وكذلك الظنّ الراجح برجحان ضعيف لا يقوى على الإدانة، إنَّ بعض الظنِّ بالناس المُفْضي إلى اتِّهامهم بغير حقّ مؤثِم مسبِّب للعقاب ؛ لأنَّ اتِّباع الظنِّ الذي لا يصلح للحكم والإدانة ولا لتحصيل المعارف، يجعل الإنسان دائم السَّبْح في الظنون، سريع إصدار الأحكام بمجرَّد الظنِّ، وهذا يُوقعه في كثير من الخطأ الذي يفضي به إلى الوقوع في الإثم الذي يؤاخذ عليه.
 على أنَّ الأمر باجتناب كثير من الظنِّ يفيد أنَّ من الظنِّ ما لم يأمر الله باجْتنابه، كالظنون التي تُبْنى عليها أحكام قضائيَّة، ويُستنبط بها أحكام شرعيَّة، فحكم القاضي بشاهدَيْن صحيحَي الشهادة حكمٌ بالظنِّ لا باليقين، لاحتمال خطئهما ونسيانهما، واحتمال فسقهما مع ظهور عدالتهما، والاستِنْباطات الظنيَّة الاجتهاديَّة من قِبَل ذوي أهليَّة اجتهادية استنباطات مقبولة شرعاً.
[وَلَا تَجَسَّسُوا] أي:    : ولا تبحثوا عن عيوب الناس وتتَّبعوا عوراتهم، وهم في خَلَواتهم، إمَّا بالنظر إليهم وهم لا يشعرون، وإما باسْتراق السمع وهم لا يعلمون، وإما بالاطِّلاع على مكتوباتهم ووثائقهم وأسرارهم وما يُخْفونه عن أعين الناس دون إذنٍ منهم، ما داموا ظاهري الاستقامة غير مجاهرين بمعاصيهم، وكان ما يُخفونه من أمورهم من السُّلوك الشخصيِّ الذي يخصُّهم، أما إذا كانوا فاسقين معروفين بالفسق، أو منافقين مكشوفي النفاق، أو ما يُخْفونه من قبيل خيانة المسلمين مع عدوِّهم، فهؤلاء لا حُرمة لهم، وينبغي كشف خياناتهم، وما يكيدون المسلمين مع أعدائهم.
[وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ] أي : ولا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوؤه ويكرهه ممَّا هو متَّصف به، فإنَّ مَنْ يذمُّ أخاه المؤمن، ويتحدَّث عن نقائصه ومعايبه، يُؤْذيه أذىً يشبه أذى مَنْ يعضُّه ويأكل لحمه ويمضغه ويتغذى به، فإذا كان ذلك في غيبته وعلى غير شعور منه، كان كمن يعضه ويأكل من لحمه وهو ميِّت لا يحسُّ ألم العضِّ والأكل.
 أَيُحِبُّ أحدُكم أن يأكلَ لحمَ أخيه مَيْتاً ويُسرُّ به ويتمناه؟ لا يحبُّ أحدكم أكل جيفة أخيه، كما كرهتم هذا، وأبغضتم أكل لحم الميت وتقزَّزتم منه، فاجْتنبوا ذكره بسوء غائباً.
[وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] واجتنبوا سخط الله وغضبه في أمر الغِيبة بان تتوبوا من الاغتياب ؛ إنَّ الله كثير التوبة على عباده المؤمنين، قابلٌ توبة التائبين ، دائم الرحمة بهم، عظيم العطف عليهم .
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13} يا أيُّها الناس إنَّا خلقْناكم من أب واحد وأم واحدة ، فالمجموعة البشريَّة كلُّها تلتقي على أصل واحد، وبين الناس أخوة إنسانيَّة عامة، وصيَّرناكم جُموعاً عظيمة وقبائلَ مُتعدِّدة؛ ليعرف بعضكم بعضاً، في قُرب النَّسب وبُعْدِه، لا ليفخر بعضكم على بعض بالأنساب ويتعالى بالأحساب؛ إنَّ أرفعكم منزلةً عند الله وفي حكمه وشرعه في الدنيا والآخرة أكثركم تجنُّبا لسخط الله وطلباً لمرضاته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ؛ إنَّ الله عليمٌ علماً كاملاً شاملاً بظواهركم ويعلم أنسابكم، خبيرٌ على سبيل الشهود والحضور ببواطنكم، لا تخفى عليه أسراركم، فاجعلوا التقوى زادكم إلى معادكم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين